
ثروت الخرباوي
فى اللحظة التى تَسلَّلت فيها جماعة الإخوان المسلمين إلى مفاصل الدولة، لم تكن عيونهم على السلطة فحسب، بل على الروح أيضاً. كانوا يدركون -من خبرة التنظيمات السرية- أن السلاح وحده لا يكفى، وأن امتلاك البنادق لا يُغنى عن السيطرة على العقول. ولأن الكلمة أخطر من الرصاصة، ولأن القصيدة قد تهزم البيان الحزبى، والمسرح قد يُفكك خطاب المنبر، فقد وجّهوا أنظارهم إلى وزارة الثقافة، لا باعتبارها مؤسّسة وطنية، بل باعتبارها عقبة تجب إزالتها أو تطويعها.
لم يكن الإخوان يوماً أهلاً للفن، لأن الفن لا يُدار من خلف حوائط مغلقة. هم أبناء العمل السرى، ولا يعرفون أضواء الخشبة ولا دفء القافية. هم رجال الظل، والظل لا يصنع مسرحاً. وحين خرجوا إلى النور، احترقت أعينهم بما لم يحتملوه: الحرية.
ظنّوا أن بإمكانهم أن يُعيدوا تشكيل الوجدان كما يُشكّلون لجانهم الإلكترونية، وأن الثقافة ستنحنى لهم كما انحنت لهم بعض مؤسسات الدولة فى لحظة ارتباك. لكنهم نسوا -أو جهلوا- أن الكلمة الحرة لا تُروَّض، وأن الفنان، حين تُهدَّد حريته، لا يهرب بل يثور.
لم يكن ما حدث فى عام حكمهم للبلاد مجرد أخطاء سياسية، بل كان مشروعاً منظّماً لإخضاع الذاكرة، وتحويل الثقافة من مرآة للروح إلى بوق للدعوة. حاولوا أن يُبدّلوا وظيفة الفن، من استنطاق المجهول إلى تسبيح المعروف، ومن البحث عن الحقيقة إلى ترديد الشعارات.
ولأن الوجدان لا يقبل الأسر، فقد واجههم المثقفون بالاعتصام، والفنانون بالرفض، والشعراء بالكلمة. كانت معركة دفاع عن العقل، وعن هوية هذا الوطن التى تتنفس عبر القصيدة والمسرح واللوحة، لا عبر فتوى حزبية أو خطاب خشبى.
فى أغسطس 2012، عيّن مجلس الشورى، الذى كانت تهيمن عليه جماعة الإخوان المسلمين، الصحفى مجدى عفيفى رئيساً لتحرير جريدة «أخبار الأدب»، خلفاً للكاتبة عبلة الروينى. أثار هذا التعيين جدلاً واسعاً فى الأوساط الثقافية، حيث اعتُبر محاولة من الجماعة للسيطرة على المؤسسات الثقافية والإعلامية. وقد تبع ذلك احتجاجات من العاملين بالجريدة، الذين رأوا فى هذا القرار تهديداً لاستقلالية الصحافة الثقافية.
لم يكن هذا التعيين سوى بداية لمحاولات الجماعة للهيمنة على المشهد الثقافى. توالت الإقالات والتعيينات فى المناصب القيادية بالمؤسسات الثقافية، مثل هيئة الكتاب، وصندوق التنمية الثقافية، ودار الكتب، ودار الأوبرا. لم تكن هذه التغييرات تهدف إلى الإصلاح، بل كانت جزءاً من خطة لتطويع الثقافة لخدمة الأيديولوجية الإخوانية.
والحق أن رؤية الإخوان للفن والثقافة كانت ضيقة ومؤدلجة، فلم يكن الفن عندهم وسيلة للتعبير الحر عن المشاعر الإنسانية، بل أداة للدعوة والتربية. نعم هم يُفضلون الإنشاد الدينى على الغناء، ويستبدلون المسرح الإنسانى بالمسرح الدعوى، ويُروّجون للشعر الذى يحمل رسائل وعظية على حساب الشعر الذى يُعبّر عن التجارب الإنسانية.
كما أن رفضهم للأعمال الأدبية والفنية التى تتناول التناقضات المجتمعية، مثل أعمال نجيب محفوظ، كان ينبع من خشيتهم من كشف الواقع الذى لا يتماشى مع رؤيتهم الإخوانية للمجتمع.
ورغم ذلك سعت الجماعة إلى استقطاب الفنانين والمثقفين من خلال لقاءات مغلقة، حاولوا فيها إقناعهم بأن الفن لا يتعارض مع الإسلام، وأنهم يدعمون «الفن الهادف». لكن هذه المحاولات قوبلت بالرفض من قبل العديد من الفنانين الذين رأوا فيها محاولة لتقييد حرية الإبداع، إذ وجدوا أن هذا التودد هدفه هو الإخضاع والسيطرة.
وعندما فشلت محاولات الاستقطاب، لجأت الجماعة إلى التخوين والتهديد، فوصفت الفنانين والمثقفين الذين يعارضون رؤيتها بأنهم «أعداء الله» و«ناشرو الفجور».
وفى 5 يونيو 2013، بدأ المثقفون والفنانون اعتصاماً داخل وزارة الثقافة، احتجاجاً على محاولات الإخوان السيطرة على المؤسسات الثقافية.
بدأ الاعتصام عندما ظهرت محاولات الأخونة بشكل واضح غير مستتر، وقد كان قرار إقالة الدكتورة إيناس عبدالدايم من رئاسة دار الأوبرا المصرية بمثابة الطلقة الطائشة فى حرب الإخوان على هوية مصر الثقافية. إذ لم يكن الأمر مجرد إزاحة موظف من موقعه، بل كان إعلاناً فجاً عن رغبتهم فى أخونة الأوبرا وتحويلها من منارة للفن الراقى إلى منصة دعوية ضمن مشروعهم المغلق.
وقد جاء هذا القرار بعد ساعات قليلة من لقاء رئيسة الأوبرا بوزير الثقافة الإخوانى علاء عبدالعزيز، الذى دخل الوزارة كما يدخل الغزاة الحصون المفتوحة. لم يخفِ الوزير نواياه؛ فقد كان يريد «تطهير» الثقافة من أهلها، وتوجيه سفينة الفن المصرى نحو شواطئ «التمكين».. لكن السفينة تمردت.
وحين صدر القرار، رفض فنانو الأوبرا تقديم عروضهم، وتوقفت أولى الليالى بعرض «أوبرا عايدة»، وتحولت دار الأوبرا إلى ساحة للاعتصام الثقافى. لم يكن ذلك الاعتصام احتجاجاً نقابياً على قرار وظيفى، بل كان انتفاضة رمزية من أجل بقاء مصر كما نعرفها، مصر التعدد، والنغم، والمسرح، لا مصر الشعارات والتكفير والفتاوى.
وما أروع ما قالته إيناس عبدالدايم بعد ذلك: «كنا نحمى الأوبرا كما يحمى المقاتل خندقه». وكان ذلك حقيقياً؛ فالثقافة يومها أصبحت خط الدفاع الأول عن وجه مصر المدنى فى معركة لم يكن فيها الصوت الجميل أقل خطراً من البندقية.
وعندما حاول أنصار الجماعة فض اعتصام وزارة الثقافة بالقوة، واجهوا مقاومة سلمية من المعتصمين الذين تمسكوا بحقهم فى الدفاع عن حرية الثقافة والفن.
وقد كانت المنحة التى منحها الله لنا هى ذلك الفشل الإخوانى الكبير فى السيطرة على الثقافة والفن، ولكن كان لهذا الفشل أسباب، أهمها يعود إلى طبيعة هذه الجماعة التى لم تفهم على مدار تاريخها طبيعة الإبداع الحر. فمن اعتاد العمل السرى لا يعرف كيف يتعامل مع العمل العلنى، ومن احترف العمل فى الظلام تحترق عيناه فى النور. لم يفهم الإخوان أن الثقافة والفن لا يمكن تقييدهما أو توجيههما لخدمة أيديولوجية معينة، لم يفهم الإخوان أن الفن إنما ينبع من الروح الإنسانية الحرة لا من القيود التنظيمية المغلقة.
والأعظم من كل هذا هو أن المثقفين فى وقفتهم كتبوا أعظم قصيدة فى حب مصر.
فهل عرف الإخوان لماذا سقطوا؟
لقد أخطأ الإخوان التقدير، كما أخطأ من ظن أن الكلمة تُؤسر، أو أن الأغنية تُخنَق، أو أن الخيال يُعلَّب فى منشور حزبى. لم يفهموا أبداً أن الثقافة لا تُدار بالأوامر، وأن المبدع لا ينصاع إلا لضميره، وأن المسرح ليس منبراً للدعوة بل ساحة للأسئلة، وأن الرواية لا تُكتب فى غرف التنظيم، بل تولد من قلق الإنسان وهواجسه.
هم لم يواجهوا الفن فقط، بل واجهوا الوعى ذاته. واجهوا فكرة الإنسان وهو ينظر فى المرآة ويسأل: من أنا؟ ماذا أريد؟ ما الحقيقة؟ وهى أسئلة لا تجد لها إجابة فى أدبيات «السمع والطاعة»، ولا فى فقه «التمكين»، ولا فى كتب «الولاء والبراء».
وحينما اصطدم مشروعهم الثقافى بالمجتمع، ارتبكوا. أرادوا أدباً طائعاً، وفناً مقيداً، وتفكيراً مروَّضاً. أرادوا عقولاً تهتف بدلاً من أن تسأل، وتصفق بدلاً من أن تحلّل. وحين لم يجدوا ذلك، لجأوا إلى تهم التخوين والتكفير والتفسيق.
ولم يكن الصدام مع المثقفين صداماً على هوامش المشروع، بل كان فى قلبه. لأن الثقافة هى اختبار الشرعية الحقيقى. يمكنك أن تُخيف الشارع بخطاب دينى، أو تكسب الانتخابات بشعارات عاطفية، لكنك لا تستطيع أن تحكم عقلاً حُراً، ولا أن تسجن فكرة، ولا أن تطلب من القصيدة أن تتحجّب.
لم يمتلك المثقفون حزباً منظماً، ولم يملكوا قناة فضائية، ولم يوزعوا سلعاً مدعومة، لكنهم حملوا ضوءاً ظلّ يحترق فى العيون. لم يحملوا سلاحاً، لكنهم هزموا الجماعة فى المعركة الأهم: معركة المعنى.
لأن من احترف المشى فى السراديب لا يستطيع أن يتحمل ضوء المسرح، ومن اعتاد أن يهمس فى أذن المريد، لا يحتمل أن يُسائلَه قارئٌ حُرّ، ولأن الذى يخاف من أغنية، لا يمكن أن يُحكّم عقل أمة.
الوطن