الفساد وتحوّلات الفهم في العراق (2 من 2)

الفساد وتحوّلات الفهم في العراق (2 من 2)


16/08/2022

عقيل عباس

قبل أشهر، في سياق سعي التيار الصدري، بعد تشكيله تحالفاً ثلاثياً ضم طرفَين سياسيين، سنياً وكردياً، لتشكيل حكومة أغلبية سياسية واعلانه أجندة حكومية مقبلة يتصدرها مكافحة الفساد، كان أحد الردود الإطارية المتكررة لرفض مثل هذه الحكومة والدفاع عن المنظومة التوافقية المعتادة، أن كل الأحزاب السياسية، بضمنها أحزاب التحالف الثلاثي، متهمة بالفساد، فلماذا يحق لأحزابه تشكيل حكومة الأغلبية وتُستثنى منها الأحزاب الأخرى، المتهمة أيضاً بالفساد أيضاً. شاعت هذه المقولة شعبياً لتتخذ شكل حجة منطقية "قوية" كررها عراقيون عاديون ومحللون سياسيون، فضلاً عن تبني سياسيين كبار لها وراء الكواليس. تنطوي هذه المقولة على الكثير من التضليل والمغالطة وتساهم في الإبقاء على الفساد منتشراً ومهيمناً عبر الحفاظ على مصدره السياسي: التوافق والمحاصصة. لكنها في الجانب الآخر منها، تختصر أيضاً مشكلات الفساد ومفارقاته والتواطؤ بخصوصه وسبل حلها أيضاً.

من الناحية القانونية، تقوّض هذه الحجة معنى الانتخابات ونتيجتها كمعيار تنافسي بخصوص من يتولى الحكم ومن يذهب للمعارضة لصالح افتراض بتشارك كل الأطراف السياسية الحائزة على مقاعد برلمانية في سلوك ما شائع جداً لكنه غامض أيضاً، الفساد، إذ لا يمكن تحديد حصة كل طرف سياسي فيه، أو حقيقة المشاركة فيه، على نحو دقيق أو حتى تقريبي في غياب قدرة القضاء على كشف الفاسدين وإدانتهم. في الأنظمة الديموقراطية التي فيها فصل حقيقي ونزيه بين السلطات الثلاث وقدرة واضحة ومخلصة لكل منها على تأدية التزاماتها الدستورية والقانونية، خصوصاً السلطة القضائية، المسؤول الأول عن تعقب الفساد ومحاسبة فاعليه، الذي يحسم علاقة أي سياسي بالفساد من عدمها، هو قضاء فعال وعادل يحظى بمصداقية شعبية وأخلاقية أمام الجمهور. يمنع مثل هذا القضاء في الأنظمة الديموقراطية خوضَ المدانين بقضايا فساد للانتخابات. مع الانتشار الهائل والمتفق عليه والمُقر به علناً ورسمياً، بخصوص الفساد في مؤسسات الدولة وعقودها وبرامجها، يترشح الساسة المنتخبون الذين يديرون الدولة مرةً بعد أخرى في الانتخابات ويفوزون ويصلون لسدة الحكم من جديد. يقود هذا العجز القضائي عن ردع الفساد وحسم مقدار انتشاره وهوية القائمين عليه، إلى تحويل الفساد إلى جدل سياسي وإعلامي مفتوح يحسمه الأشد براعة في الكلام وتوظيف الإعلام، وليس بالضرورة الأصدَق والأخلَص.

في سياق رفض أطروحة حكومة الأغلبية تحت حجة تشارك الجميع، الفائز والخاسر انتخابياً، بالفساد، يُكافَأ الفاسدون المفترضون جميعاً بتمثيلهم في الحكومة! هذه واحدة من أشد مفارقات عراق ما بعد ٢٠٠٣ مرارةً: أن يصبح الفساد وإعلان التشارك فيه أحد عوامل التأهل لممارسة الحكم والسلطة وليس تحمل العقوبة والذهاب للسجن وفقدان السمعة السياسية والشخصية.

ثمة أدوات كثيرة لمكافحة الفساد بنوعيه البيروقراطي والسياسي، بعضها إداري وبعضها الثاني تكنولوجي فيما بعضها الثالث قضائي. أولها كانت فكرة الحكومة الالكترونية، أي أتمتة المعاملات والعمل الورقي في دوائر الدولة بحيث يُختصر الروتين الإداري الطويل والمرهق ولا يحتاج المواطن أن يمر على دوائر عديدة ويلتقي موظفين كثيرين ومختلفين ويتعرض لاحتمالات الإكراه على تقديم رشوة لإكمال معاملة ما. أثيرت هذه الفكرة الطموحة والصحيحة مبكراً، في عام ٢٠٠٣، وتحدثت عنها حكومات متتابعة دون أن ينتج عن الحديث تقدم جدي وحقيقي. هُدد موظفو الشركة الأجنبية التي بدأت بالعمل لتنفيذ هذه الفكرة في ما بعد، واختطفوا وقُتل بعضهم إلى أن مات تنفيذها عملياً.

الأداة الثانية المهمة هي مكاتب النزاهة التي تشكلت في الوزارات، بأمر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، لمكافحة الفساد بشكل مستقل عن سلطة الوزارات ومسؤوليها. لكن سُرعان ما أفسدت هذه الفكرة الصحيحة عبر تسييس هذه المكاتب من خلال المحاصصة والتواطؤ لتفقد فاعليتها بسرعة وتصبح عبئاً على الدولة وجهازها الإداري.

بإزاء فشل الأدوات الإدارية والقضائية في تعقّب الفساد وردعه، لم يتبق إلا نوعان من الأدوات التقليدية لمكافحة الفساد التي يمكن أن تكون مؤثرة. الأولى والأهم هي التنافس السياسي المفتوح والدائم المحكوم بشروط مؤسساتية وقانونية. يعني هذا وجود أغلبية حاكمة في السلطة، وأقلية معارضة في البرلمان تستطيع عبر الرقابة على الأغلبية كشفَ ملفات فساد حكومية، وصولاً الى قدرتها على الإطاحة بالحكومة في حال كشفها ملف فساد كبير وفضائحي.

في العادة تمهد نجاحات المعارضة في كشف الفساد الحكومي السبيل أمامها للفوز في انتخابات مقبلة، كما أن وجود رقابة المعارضة يدفع الحكومة للالتزام بدرجات أعلى من النزاهة خوفاً من الإحراج السياسي والفشل الانتخابي. في السياق العراقي المعبأ بالفساد، مَثّلت أطروحة الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة تقدماً كبيراً في التفكير السياسي في البلد واختباراً عسيراً للفاعلين السياسيين، الحاكمين والمعارضين، بخصوص امكانية المساءلة والشفافية بعدما نخر الفساد مؤسسات الدولة وتصاعد الغضب الشعبي ضده. تكمن أهمية الأطروحة في جانبين: الأول هو كسرها للتواطؤ السياسي الذي يعتبر الحامي الأول للفساد في البلد عبر التغطية المتبادلة عليه. أما الجانب الثاني، الذي لا يقل أهمية عن الجانب الأول، فهو أنه يجبر الأغلبية الحاكمة على مواجهة الفساد في داخل أحزابها بسبب التنافس السياسي المفروض عليها من جانب المعارضة.

هنا أيضاً تكمن جرأة الأطروحة الصدرية بخصوص حكومة الأغلبية، فالصدريون أيضاً متهمون بالفساد عبر الوزارات التي تولوها على مدى السنوات والأمر نفسه ينطبق على شركائهم السنّة، تحالف "السيادة"، والأكراد، الحزب الديموقراطي الكردستاني، المُتَهمَين بالفساد في سياقات مختلفة. يعني قبول الثلاثة بالدخول في تحالف حاكم استعداداً أولياً، ربما أكثر لدى التيار الصدري صاحب الأطروحة من شريكيه الآخرين المُضطَرين للقبول بها لأسباب مصلحية بسبب حاجتهما لشريك شيعي في الحكم، لمواجهة حقائق الفساد المتعلقة بهم والتي سيُجبَر الثلاثة على التعاطي معها رداً على اثارة المعارضة ملفات الفساد ضدهم. يفسح كل هذا حيزاً جديداً وغير مسبوق لمواجهة تمدد الفساد وتجذره. لكن في النقاش العراقي ما بعد الانتخابات، ذهب الجدل بالاتجاه الآخر عبر المقولة المضللة انه ما دام الجميع فاسدين فالأفضل أن يتشاركوا جميعهم بالحكم، وهو الموقف الضمني للإطار التنسيقي، ويستمرون في التواطؤ المعتاد الذي يواصل الفساد ويحمي الفاسدين، أو يخرج الجميع من الحكم لأنهم غير صالحين له، موقف الجمهور الغاضب. الموقفان خاطئان لأنهما يفشلان في اقتراح سبيل للتعاطي مع مشكلة الفساد. على العكس من هذين الموقفين، الانتهازي الإطاري، والطهراني الشعبي، اللذين يصران على الثنائية المستحيلة بخصوص الكل أو لا شيء، تقترح أطروحة حكومة الاغلبية البدء بمكان ما في مكافحة الفساد والبناء عليه تدريجياً. لم تُختبر هذه الأطروحة لمعرفة احتمالات نجاحها بعد إفشالها بتواطؤ سياسي - قضائي من خلال الثلث المعطل.

بإزاء هذا المشهد المتجهم، لم تتبق إلا الأداة الأخيرة لمكافحة الفساد، الوحيدة خارج إطار الدولة، وهي الصحافة والتسريبات الإعلامية التي تكشف ملفات فساد أمام الرأي العام. شهد البلد مؤخراً أحد النجاحات القليلة بهذا الصدد عبر الكشف عن فضيحة حكم قضائي بتعويض شركة، مرتبطة بأحزاب سياسية، بمبلغ ٦٠٠ مليون دولار كشرط جزائي على فشل المؤسسة الحكومية المتعاقدة في تأدية التزاماتها المفترضة في العقد مع هذه الشركة. كان التعويض هائلاً ويبدو مرتبطاً بترتيبات مسبقة تقود إليه. لكن عموماً، قدرة الإعلام العراقي على كشف ملفات فساد كبيرة وكثيرة محدودة لأسباب مختلفة ومتشابكة. تشمل بعض هذه الأسباب عدم وجود قانون عراقي يسمح للصحافيين بالوصول للمعلومات الحكومية والعامة غير الخصوصية وغير المتعلقة بالأمن الوطني، كما هو الحال في الديموقراطيات الرصينة. ثم هناك فقر مهني واضح في تقليد الصحافة الاستقصائية في البلد، وهي التخصص الصحافي الذي يكشف في العادة الملفات والممارسات الفاسدة. فضلاً عن ذلك هناك قوانين استبدادية من عهد النظام البعثي السابق يتم تعقب الصحافيين عبرها وتقيد حرية التعبير. ولا ينبغي أن يُنسى هنا تهديد الصحافيين القليلين الذين يتجرأون في هذه الظروف الصعبة على كشف ملفات فساد من جانب الفاعلين الفاسدين الذين يتضررون من ذلك.

لسوء الحظ، ليس ثمة بوادر في المستقبل العراقي المنظور تشير إلى أن الفساد في طريقه الى التراجع او مواجهة ردع قضائي أو سياسي فاعل.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية