الشيخ محمد عبده في "كنيسة أورين"

الشيخ محمد عبده في "كنيسة أورين"


05/02/2019

لم يكن العالم الإسلامي، في أواخر القرن التاسع عشر، يعرف بيئة للتعليم الديني أحسن حالاً من دروس الجامع الأزهر، وبعض المساجد، مثل المسجد الأحمدي بطنطا، ولم تكن تلك البيئة أفضل حالاً من المجتمع الذي يُحيط بها، فالفكر الديني ابن بيئته يتأثّر بها كما يُؤثّر فيها، فيُصاب بالجمود ويتحوّل إلى حالة من الترديد في المجتمعات الآسنة، ويُجدد نفسه، ويمضي بالإنسان إلى الأمام في المجتمعات الحيّة.

لم يرضَ محمد عبده بطلب شيوخه بالسمع والحفظ والكف عن كثرة الأسئلة التي وصفوها بأنّها مضيعة للوقت

فالبيئة تطبع الإنسان بطابعها، وتحمله بقوّتها وسلطانها، على أن يعيش كما تعيش، ويُفكر كما تُفكر، ورغم ذلك يظهر، من الحين بعد الحين، أفراد لا يتأثرون ببيئتهم، ولا يتقيدون بقيودها؛ بل بالعكس، يُؤثّرون هم فيها، ويقتحمون عليها حصونها، ويعيشون معها ما عاشوا في كفاح وجلاد، أولئك هم المصلحون في كلّ زمان ومكان: منهم رسل الله المبلّغون عنه، ومنهم عباقرةُ الأمم وأفذاذ التاريخ، ومن هؤلاء المصلحين الشيخ محمد عبده.
لم يتحمل محمد عبده، وهو ابن الثامنة عشرة، تلقين دروس الجامع الأحمدي، ولم يرضَ بطلبِ شيوخِهِ أن يسمع ويحفظ جيداً، مستعيناً بالمتون، وأن يكفّ عن كثرة الأسئلة التي وصفوها بأنّها مضيعة للوقت، وتشتيت للذهن، فقرّر أن يرجع إلى قريته؛ ليشتغل مع إخوته بالفلاحة، وهذا ما رفضه أبوه، فأعاده رغماً عنه إلى دروس الجامع الأحمدي بطنطا، فهرب مرة ثانية، ليس إلى قريته؛ بل إلى قرية "كنيسة أورين" بمحافظة البحيرة؛ حيث يعيش خال أبيه "الشيخ درويش"، الذي أخذ محمد عبده بطريقة في التعليم أنفع من طريقة الأزهر والجامع الأحمدي، وهي فتح باب النّقاش لكلّ سؤال يجول بخاطره، والتفكير معه، ليس بهدف الإجابة؛ بل بهدف تدريبه على التفكير وتقليب الاحتمالات، بما يُوقظ العقل من سباته، ويحرّره من الاستسلام الكامل لأفكار غيره.

اقرأ أيضاً: محمد عبده... النهضة الفكرية والإصلاح المتدرج
وجَد محمد عبده في كتب الشيخ درويش عاطفة وروحانية لم يجدها في متون دروس الجامع الأحمدي الجافة، فقرآ معاً رسائل السيد محمد المدني الطرابلسي؛ التي تتضمن شيئاً من معارف الصوفية في آداب النفس، وترويضها على مكارم الأخلاق، وتزهيدها في الباطل.
وبدأ يتميّز في عقله، للمرة الأولى، الفرق بين إسلام الوحي وتدين المسلمين الذي يُظَنّ أنه الإسلام، يقول: "سألْتُ الشيخَ درويش: ما هي طريقتكم؟ فقال: طريقتنا الإسلام، فقلتُ أو ليس كلّ هؤلاء بمسلمين؟ قال: ولو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر، ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين، بسبب وبغير سبب".

اقرأ أيضاً : بين محمد عبده وفرح أنطون.. ما تبقى من سجالات النهضة المُجهضة
ويستطرد الإمام، معلقاً على أثر هذه العبارات في نفسه، قائلاً: "هذه الكلمات كأنّها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم، متاع تلك الدعاوى الباطلة، والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنّا في غمرة ساهية".
تخلّى الإمام محمد عبده عن كراهيته للعلم، الذي فرّ منه، وقرّر أن يكون هو النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الباحث في العلم، وأقبل على الدرس والتحصيل، وأمعن الفكر فيما يقرأ، وتولّد بداخله، على خلاف شيوخه وأقرانه، حبّ أكثر للسؤال والبحث والتفكير، شجّعه عليه الشيخ درويش، فلولاه لانصرف الشيخ محمد عبده عن العلم إلى غيره، أو ربما تخرّج خامل الفكر.

اقرأ أيضاً: مذكرات محمد عبده.. كيف ودّع رائد التنوير كراهية العلم؟

أمضى محمد عبده خمسة أعوام من الدراسة في الجامع الأحمدي، التحق بعدها بالجامع الأزهر، في منتصف شوال ١٢٨١هـ/١٨٦٦، فأخذ من شيوخه على طريقتهم في التعليم، حتى التقى بجمال الدين الأفغاني، واستمع إلى دروسه في الرياضيات والفلسفة، وهي علوم جديدة لم يكن قد سمع عنها من قبل، غير أنّ مشايخه في الأزهر حذّروه من تلك "العلوم الشيطانية"، التي تفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وأخذوا، كما يحكي الشيخ، "يتقوّلون على السيد جمال الدين وعليّ الأقاويل"، وكان مشايخ الجامع الأزهر، في ذلك الوقت، على حدّ وصف الشيخ عبد المتعال الصعيدي، "يجمدون على علومهم القديمة، ويعيشون في عزلة عن العالم، فلا يشعرون بما أصاب الإسلام والمسلمين، ولا يهمّهم إلا أنفسهم داخل الأزهر، كأنّهم رهبان في دير، وليس عليهم مسؤولية أمام الله عن إهمالهم في شأن دينهم ودنياهم، وفي شأن المسلمين الذين أوقعوهم مثلهم في جمودهم".
دخل الشيخ محمد عبده في حيرةٍ لم تطل؛ ففي إجازته التي يقضيها في قرية "كنيسة أورين"، جلس يحكي للشيخ درويش عن تحذيرات شيوخه له من الاستماع إلى دروس الفلسفة والرياضيات، وردّ عليه الشيخ درويش بحجة بسيطة ومقنعة، قائلاً: "لا شيء من العلم ممقوت عند الله، ولا شيء من الجهل محمود لديه، إنّ الله هو العليم الحكيم، وإنّ أعدى أعداء العلم هو الجاهل، وما تقرّب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة".

مايزال إصلاح الفكر الديني نخبوياً أحادياً يتعهده رواد الإصلاح واحداً تلو الآخر غريباً غربة العقل في مجتمعاتنا

بهذا المعنى انفتح الإمام محمد عبده على علوم الشرق والغرب، فصنع لنفسه مساراً إصلاحياً خاصاً به، اختلف عن مسار أستاذه، جمال الدين الأفغاني، منتهياً من تجربته مع الشيخ درويش إلى أنّ العلم الشرعي شيء آخر غير المفهوم الذي ما يزال متداولاً في ثقافتنا، فيحكي الشيخ محمد مصطفى المراغي؛ أنّ أستاذه، الإمام محمد عبده، سأله بعد تخرّجه: ما العلم؟ يقول: "فأخذت أُعرّفه له بما هو مشهور من أقوال العلماء، فلما انتهيتُ ردّ عليّ الشيخ محمد عبده قائلاً: "العلم هو ما ينفع الناس، وكلّ ما لا ينفع النّاس، لجموده وبُعده عن عصرهم، ليس بعلم".
وهذا ما فعله الشيخ المراغي عندما خرَق التقليد، مطالباً لجنة إعداد قانون الأحوال الشخصية بعدم التقيّد بالمذاهب الأربعة، وأن تختارَ من بين المذاهب الإسلامية أيسر الأحكام، التي توافق الزمان والمكان، وكان من ثمرة ذلك قانون "الوصيّة الواجبة".

اقرأ أيضاً: حبيب جرجس: نظير محمد عبده في المسيحية المصرية
وهذا ما تعلّمه الشيخ محمود شلتوت في فتاويه؛ حين قرّر أن معرفة الحلال والحرام لا تكون بعرض ما قيل في الكتب، وأُثر عن الفقهاء؛ بل بإعمال عقل المفتي ودعوة المستفتي لإعمال عقله، الذي هو حجة الله على عباده في التعرّف على الحدّ الأوسط في مقتضيات الغريزة، التي لا بدّ منها في كلّ إنسان سويّ، فالوحي لم ينزل لانتزاع غريزة حبّ المال، إنما نزل بتعديلها على الوجه الذي لا جشع فيه ولا إسراف، ولم ينزل لانتزاع غريزة حبّ المناظر الجميلة، وسماع الصوت أو النغم الممتع، لكن أراد تهذيب الغريزة وتعديل مسارها إلى ما لا ضرر فيه، ولا يصحبه شرّ، فهداية الوحي تنظّم غريزة الإنسان على النحو الذي يصون الفرد والمجتمع.
مضت عشرات الأعوام تحرّك معها مسار إصلاح الفكر الديني، حركة متباطئة؛ فما يزال أحادياً يتعهده رواد الإصلاح واحداً تلو الآخر، غريباً غربة العقل في مجتمعاتنا، نخبوياً، غير قادر على التغلغل في أعماق الأوساط الدينية والاجتماعية، عاجزاً عن أن يتحوّل إلى تيار عام، يهزّ ضمير الأمة، ويُوقظ شعورها بالمسؤولية تجاه مستقبلها.

الصفحة الرئيسية