هاشم النجار
أفضت التطورات المتسارعة في علاقات مصر بكل من الولايات المتحدة وتركيا وقطر وانكشاف الغطاء السياسي عن جماعة الإخوان في الكثير من الدول التي تنشط فيها إلى تكبيل حركة التنظيم العالمي للإخوان ومواجهته العديد من التحديات، الأمر الذي يدفعه إلى الانحناء للعواصف مؤقتا.
وبالنظر إلى محدودية النجاحات التي حققها التنظيم العالمي على مستوى أهدافه وعلى رأسها حلمه التاريخي المتمثل في تأسيس دولة عابرة للقارات، فهو لا يعتمد في الأساس على ما يمكن وصفه بالإنجازات الكبرى التي يصعب تحقيقها في الواقع، فضلًا عن الإفصاح عنها علانية لاستغلالها في سبيل البقاء.
عوضًا عن ذلك اعتاد قادة التنظيم اللجوء إلى العديد من التكتيكات الضامنة لخروجه من مرحلة المحنة بأقل الخسائر الممكنة دون الوصول إلى مراحل التفكك والانهيار، وجميعها بمثابة أفرع لإستراتيجية عامة عنوانها الكمون الإستراتيجي.
من الواضح أن أزمة التنظيم الآن أكثر تعقيدًا من سابقاتها؛ فهي متعلقة بسقوط مشروع الجماعة السياسي داخل أهم مراكزه في الشرق الأوسط وبتراجع نفوذ رعاة الإخوان التقليديين وحضورهم، مقابل صعود المشاريع العربية وتمكنها من لعب دور محوري بشأن ملفات هامة ما اضطر غالبية القوى الفاعلة للتعامل مع الواقع الجديد وفق معادلات أسهمت في فرضها الأنظمة التي ناصبتها الجماعة العداء، بمن فيهم حلفاء الإخوان أنفسهم في تركيا وقطر.
لم تقتصر نكسة الجماعة على السقوط عربيًا، حيث تبعه تهديد لما بنته من مجتمعات موازية في أوروبا بعد أن كانت مطمئنة للمستويات المُرضية التي حققتها بشأن تغلغلها وانتشارها عالميًا منذ تأسيس تنظيمها العالمي عام 1982.
ضغوط من كل اتجاه
انكشفت الجماعة الآن عقب سنوات قليلة من الاقتراب من حلم التمكين في العام 2012، وبعد أن جمعت بين الدعم الدولي والأميركي لمشروعها بالسلطة بالمنطقة العربية، مع رعاية قوى إقليمية ساندتها بكل ثقلها، بجانب ازدهار أذرعها الخارجية وشبكاتها للمال والأعمال التي تمثل مصدرا رئيسيا للتمويل ومراكز دعايتها وتأثيرها في الرأي العام الدولي.
دخلت جماعة الإخوان فترة كمون إستراتيجي فرضته ضرورة التكيف مع أوضاعها الجديدة التي نتجت في البداية عن فشل الربيع العربي ومشروع الإسلام السياسي في السلطة، وعن الإرهاق الذي أصاب حليفتها الرئيسية تركيا ما جعلها تتراجع خطوات للوراء لاستعادة توازنها عبر إظهار بعض الاعتدال حيال القوى التي دخلت معها في خصومات وعداوات ليس فقط العرب بل والأوروبيين والأميركيين والروس وحتى الإيرانيين.
أدى الضغط المصري والخليجي إلى تقديم قطر تنازلات خفضت من مستويات الدعم الممنوح للإخوان بالمقارنة بما كان قائمًا قبل المقاطعة العربية للدوحة، لكن التحول الأكبر جاء مع الإشارات الأولى للإدارة الديمقراطية بقيادة الرئيس الأميركي جو بايدن في ما يتعلق بتغيير نمط التعاطي مع ملفات المنطقة، ومن ضمنها ملف تيار الإسلام السياسي في سياق ضبط العلاقات مع مصر وتصحيح بوصلة التحالفات في المنطقة بما يحد من النفوذ الإيراني ومن أنشطة الفاعلين من غير الدول.
ضاعفت التطورات في المشهد المصري من محنة الجماعة، حيث لم يقتصر الوضع على سقوط سريع من السلطة وثبوت عدم امتلاكها تصورًا لإدارة الدولة وتورطها في عمليات عنف وإرهاب وفقدانها نسبة كبيرة من التأييد الشعبي، إنما تبعه ما حققته القاهرة بعد زوال حكم الجماعة سواء على المستوى المحلي والوطني اقتصاديًا واجتماعيًا أو ما أحرزته في العديد من الملفات الحيوية ذات الاهتمام الإقليمي والدولي، خاصة الأزمة في ليبيا وملف غاز شرق البحر المتوسط والقضية الفلسطينية والدور الذي لعبته مؤخرًا في التوصل لوقف إطلاق النار في غزة.
في الوقت الذي أثبتت فيه مصر أنها الرقم الصعب في كافة المعادلات الإستراتيجية بمحيطها الإقليمي ما جعلها محط أنظار قوى كبرى وبؤرة اهتمام قادته، كانت حركة جماعة الإخوان تضعف داخل ساحات بدائلها البعيدة نتيجة تغير مواقف العديد من الدول تجاه تيار الإسلام السياسي.
ما يكشف فداحة الخطب نتيجة هبوب العواصف على الإخوان من كل اتجاه أن البدائل أيضًا معطلة وغير متاحة، ففي حين كانت تركيا بديلًا لقطر كملاذ وملجأ لاستقبال القادة قد تصبح طاردة لهم، وفي حين كانت الولايات المتحدة ودول أوروبا الرئة البديلة التي تتنفس بها الجماعة عوضًا عن حضورها ونشاطها المالي والاقتصادي والإعلامي بمركزها الرئيسي بمصر، باتت دول أوروبا الآن تفرض الرقابة والمراجعة الحكومية والأمنية على كافة أنشطة التنظيم بدرجات متفاوتة، وأصبحت ملفات الجماعة مفتوحة على طاولة صانع القرار الأميركي والأوروبي.
ومن شأن التطورات الأخيرة أن تؤثر بشدة على نشاط التنظيم العالمي كضابط إيقاع للجماعة في دول عديدة بعد تراجع دعم القوتين الرئيسيتين للمشروع السياسي للجماعة منذ أحداث يناير 2011 في مصر وهما تركيا وقطر، حيث قام هذا المشروع على رواية الزعامة الإسلامية لتركيا بدعم مالي وإعلامي غير محدود من قبل الدوحة، والآن لم يثبت فحسب فشل أفرع التنظيم بل فشل المنظومة برمتها، وهو ما جعل الفروع مشتتة بدون مرجع أيديولوجي أو مركز قوي يضبطها ويديرها.
تراجع الزعامة التركية
لم تترسخ فحسب تصورات القوى العربية التي نجحت في مواجهة مشروع الإسلام السياسي من جهة ما فرضته من معادلات أمنية ومشاريع تطوير اجتماعي وثقافي وإنجازات تنموية بديلة لواقع التخريب والفوضى، إنما أيضًا راجت رؤاها المناهضة للأيديولوجيا الأممية العابرة للحدود، والمتمثلة في فتح المجال فقط لجهود الأحزاب والقوى الوطنية القُطْرية القادرة على حل إشكالات هذه المرحلة الجديدة عبر السير في الاتجاه الصحيح والعمل لمصلحة شعوبها.
فقدان الرواية الأيديولوجية جاذبيتها والانكشاف في العديد من المعاقل الرئيسية بالمنطقة العربية ودول أوروبا والتعرض لضربات أمنية قوية وملاحقة القيادات الهاربة وإدراج الأذرع العسكرية على قوائم الإرهاب، تمثل ضربة قاصمة للتنظيم، فضلًا عن فقدان إسطنبول التي تُعد أكبر تمركز للإخوان في العالم وحاضنتها الأخيرة، لكن لا يصح اعتبار كل ذلك مؤشرا لنهاية التنظيم العالمي للإخوان الذي نشأ في مطلع القرن العشرين ككتلة قادرة على امتصاص الصدمات والتعامل مع العواصف وإن اشتدت.
هناك من التكتيكات التي تدخل ضمن إستراتيجية الكمون التي منها ما هو تقليدي وثابت التي توظفها جماعة الإخوان في غالبية أزماتها شبيه بما حدث لها في العهد الملكي المصري قبل ثورة يوليو 1952 أو في فترتي خمسينات وستينات القرن الفائت في مصر، ومنها ما هو جديد ومبتكر تستوحيه الجماعة من مستجدات الواقع ومتغيرات المرحلة وتستغله لمصلحتها كأداة تمكنها من التكيف وتجاوز الأزمة، ومن النمو حتى في مرحلة اشتداد المحنة ورغم جهود مختلف القوى في محاربتها.
وفي محاولة منها لإعادة صياغة رؤيتها والتكيف مع أوضاعها الجديدة ابتعدت الجماعة عن التبني المباشر للعنف الذي صبغ أنشطتها في مصر منذ يونيو 2013.
ووجد قادتها الجدد بعد إجراءات إعادة الهيكلة في الخطوات التي اتخذتها تركيا بشأن فرض قيود على الأداء الإعلامي وغيرها فرصة لتثبيت التوجه الجديد ولتحييد منافسيهم داخل الجماعة ممن قادوها في السابق في اتجاهات التصعيد والتحريض على العنف.
وفر هذا التغيير الذي أجرته الأجهزة التركية للجنة التي تدير التنظيم العالمي حاليًا بقيادة إبراهيم منير وحلمي الجزار القدرة على تحجيم الانقسام داخله؛ لأن الاعتراضات وبواعث الانشقاق أضحت أقل تنظيمًا ولا تجد ما يدعمها في الواقع بالنظر إلى أن الاتجاه المنافس كان يتبنى المواجهة الشاملة المعلنة مع النظام المصري، وهو ما انتهى زمنه وفقد رعاته.
من السهل غلق فضائيات الجماعة ومن الوارد أن تلجأ لتغيير طبيعة نشاطها في إسطنبول وغيرها، لكن الصعوبة الحقيقية تكمن في محاصرة الخلايا الحركية التي هي أساس عمل الجماعة بمختلف بلدان العالم، خاصة في مرحلة تتوخى خلالها القيادات الحذر الشديد وتبدأ في بناء التنظيم مجددًا بالتقليل من جرعات السياسة والحد من العنف، علاوة على تعمد الإيحاء بسيولة الأفكار والأهداف والتكتيكات ما يجعل القدرة على اعتراضه واختراقه والتدخل فيه أكثر صعوبة.
تنويع التحالفات
تتمتع الجماعة خلال هذا المرحلة بحرية تنظيمية وحركية أكبر وبضغوط خارجية أقل في ظل تكتيك يُزاوج بين القضايا المحلية والأهداف العابرة للأوطان دون الإفصاح عن الأخيرة، ومن خلال التركيز على الظاهر الدعوي والخيري وإخفاء الأهداف السياسية الحقيقية، ما يجعل الجماعة لا تتصدر عناوين الأخبار وتنشغل الحكومات والأجهزة عنها بملفات أكثر إلحاحًا مثل التركيز على جائحة كورونا وزيادة التوترات الجيواستراتيجية، ما يترك مساحات كافية للجماعة لإعادة بناء قوتها وترتيب أوراقها.
يدرك قادة التنظيم العالمي للإخوان أن تراجع حلفائهم الرئيسيين تكتيكي وأن الإستراتيجية العامة والأهداف النهائية لن تتغير وسيتواصل دعم تركيا وقطر للجماعة بطرق غير مباشرة، فلن تفرط هذه القوى بسهولة في مشاريعها الكبرى التي أنفقت عليها مليارات من الدولارات، ومدت من خلالها نفوذها في بعض دول الشرق الأوسط والخليج وآسيا وأوروبا وأفريقيا.
وتخطط جماعة الإخوان للتأقلم مع إعادة تموضع رعاتها الرئيسيين الهادف لاكتساب المصداقية والثقة المفقودة لدى الأطراف الإقليمية والدولية ولدى الدول العربية عبر الدوران خلف استدارة حلفائها، وتجديد الأدوات وتغييب الأسماء والوجوه المعروفة بالتشدد والملوثة بالإرهاب.
يستدعي قادة التنظيم الجدد خطابًا يجمع بين النقد وعدم تحمل مسؤولية الفشل والهزائم؛ ولا يطرحونه من منطلق كونه دافعًا للعدول عن مشروعهم ومناهجهم كمسارات أضرت بالإسلام ودعوته والأوطان واستقرارها، إنما من قبيل تصويب بعض الأخطاء في سبيل أن يكونوا أكثر قوة وتمكنًا.
لتجنب انكسار التنظيم ورفع الحرج عن تركيا وقطر خاصة بشأن استضافة القادة والعناصر النشطة تحرص جماعة الإخوان على تنويع حلفائها وتوطيد صلاتها مع قوى إقليمية تجمعها بالجماعة علاقات تاريخية مثل إيران، وهي المرشحة لتكون البديل الانتقالي المعني بتوفير ملاذات آمنة للقادة المطلوبين من قبل القاهرة وتتحفظ تركيا على تسليمهم.
لا ينحصر فتح قنوات تواصل وحوار مؤخرًا بين قادة التنظيم العالمي للإخوان وقادة الحرس الثوري الإيراني في ملف توفير الملاذات الآمنة لقادة الإخوان على غرار ما جرى مع قادة القاعدة المصريين، إنما في تطوير التنسيق وخلق مصالح متبادلة من خلال منافع تعود على التجمعات والفصائل الشيعية من الحضور الإخواني في أوروبا، مقابل منافع تحصلها أفرع الإخوان من الحضور والنفوذ الميليشياوي الإيراني في العديد من العواصم العربية خاصة اليمن ولبنان والعراق.
اتصال بالحرس الثوري
ورغم ضخامة الأزمة وتعقدها إلا أن التنظيم العالمي للإخوان لديه من الأدوات والتكتيكات ما يمكنه من امتصاصها عبر الدخول في مرحلة كمون استراتيجي غير سلبي، يحرص خلالها على تثبيت الأهداف الكبرى الرئيسية وعلى تنويع الوجوه والوسائل وتبديلها.
لا يعتبر قادة التنظيم العالمي التحولات الحاصلة في الإقليم ورؤية رعاتهم الرئيسيين نهائية ومحتمة، ويراهنون على عدم تفريط حلفائهم في مشاريع محورية كبرى، وعلى قدم مشروع جماعتهم الذي سبق العثمانية الجديدة والشرق الأوسط الكبير، فتنظيمهم ليس حزبًا شيوعيًا ينتهي دوره بعد سحب يد موسكو.
ولا يزال التنظيم يحلم بإعادة الكرة وببعث ربيع عربي جديد، لأنه عمليًا يؤثر في قرار عدة دول عربية تحيط بمحور الاعتدال العربي في فلسطين وتونس وليبيا والكويت، ما يحفظ للتنظيم قدرا من حضوره في المشهد السياسي العربي ويمنحه فرصة ممكنة للتعامل مع الواقع مهما كان صعبًا.
عن "العرب" اللندنية