
في الوقت الذي تتعرض فيه غزة لعدوان إسرائيلي هو الأعنف منذ عقود، تصاعدت الأصوات المطالِبة بدعم المقاومة الفلسطينية ومناهضة الاحتلال، لكن وسط هذا المشهد المتداخل برز الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بمواقف شديدة اللهجة لم تقتصر على إدانة الاحتلال الإسرائيلي، بل اتخذت منحًى تصعيديًا تمثل في إصدار فتاوى بالجهاد العسكري، ودعوات صريحة إلى "تحرير الأمة" ممّا وصفته بـ "أنظمة متخاذلة وخائنة".
هذا التصعيد في الخطاب الديني لم يكن جديدًا على الاتحاد الذي لطالما وُجّهت له انتقادات بشأن توظيف القضايا الإسلامية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لأغراض إيديولوجية وسياسية تصبّ في مصلحة جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. فما وراء هذه الفتاوى؟ وما أبعادها السياسية؟ ولماذا تتجه بوصلة خطاب الاتحاد نحو التحريض على الأنظمة العربية أكثر من مواجهة الاحتلال نفسه؟
الاتحاد وفتاوى الجهاد: نصرة أم استغلال سياسي؟
في أوائل نيسان (أبريل) 2025 نشر رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي القره داغي بيانًا عبر صفحته الرسمية على منصة (إكس/ تويتر سابقاً) يصف ما يحدث في غزة بـ "الإبادة الجماعية"، ودعا إلى "وجوب الجهاد بالسلاح على كل مسلم مستطيع"، مطالبًا الدول العربية والإسلامية بـ "التدخل العسكري الفوري ضد الاحتلال الإسرائيلي"، وأضاف الاتحاد أنّ ما يحدث "وصمة عار في جبين الأمة، وهو نتيجة خنوع حكامها وتركهم شعوبهم تحت سيطرة قوى الاستعمار والصهيونية".
ورغم أنّ البيان في ظاهره يستنكر العدوان ويدعو إلى نصرة غزة، إلا أنّ قراءة متأنية لمفرداته تكشف عن تركيز كبير على شيطنة الأنظمة العربية، وتحميلها المسؤولية الكاملة عمّا يجري، إلى حدّ اتهامها بـ "الخيانة"، دون أن يتطرق البيان إلى جهود بعض الدول في وقف إطلاق النار، أو المساعدات الإنسانية، أو المبادرات الدبلوماسية.
الأكثر إثارة للجدل أنّ البيان لم يُوجه نقدًا مباشرًا إلى القوى الغربية الداعمة لإسرائيل بالقدر الذي وُجّه فيه اللوم إلى الدول العربية، ممّا يطرح تساؤلات حول ازدواجية الخطاب لدى الاتحاد، ومدى تطابق مواقفه مع أجندات جماعة الإخوان المسلمين، التي تضع معاداة الأنظمة العربية على رأس أولوياتها أكثر من مواجهة العدو الحقيقي.
التحريض على الأنظمة: هدف قديم يُعاد إحياؤه
لم يكن البيان الأخير سابقة في تاريخ الاتحاد، فمنذ تأسيسه في 2004، تحت قيادة القيادي الإخواني الراحل يوسف القرضاوي، ظل الاتحاد واجهة دينية لجماعة الإخوان المسلمين، وذراعًا شرعيًا يُعيد صياغة خطاب التنظيم وفق الرؤية الدينية المؤدلجة، ففي كل أزمة كبرى تمرّ بها المنطقة، كان الاتحاد يوظف الخطاب الديني لمهاجمة الأنظمة العربية، وشيطنتها، وإظهارها بمظهر العدو الداخلي الذي يجب "إسقاطه" باعتباره أكبر من خطر الخارج.
وخلال ثورات ما عُرف بالربيع العربي لعب الاتحاد دورًا رئيسيًا في تبرير الحراك الشعبي ضد الأنظمة، والدعوة إلى "الثورات المسلحة" متى تطلب الأمر، ووصف قادة بعض الدول بـ "الطواغيت"، وفي الأعوام الأخيرة استمر هذا النهج، وإن بوتيرة أقلّ، حتى جاءت حرب غزة 2023 وما تلاها من أحداث في 2024 و2025، لتعيد للاتحاد زخمه الخطابي وتُطلق لفتاواه العنان مجددًا.
رغم أنّ البيان في ظاهره يستنكر العدوان ويدعو إلى نصرة غزة، إلا أنّ قراءة متأنية لمفرداته تكشف عن تركيز كبير على شيطنة الأنظمة العربية، وتحميلها المسؤولية الكاملة عمّا يجري، إلى حدّ اتهامها بـ "الخيانة"، دون أن يتطرق البيان إلى جهود بعض الدول في وقف إطلاق النار، أو المساعدات الإنسانية، أو المبادرات الدبلوماسية.
الخطير في بيان الاتحاد الأخير أنّه لا يكتفي بالدعوة إلى الجهاد ضد الاحتلال، بل يربطه صراحة بـ "تحرير الأمة من حكامها"، في إسقاط مباشر على الأنظمة القائمة، هذا الربط المتعمد يُفسَّر بأنّه محاولة لاستغلال المشاعر الجياشة تجاه العدوان، لإعادة تنشيط الأجندة الإخوانية الخاصة بإسقاط الأنظمة العربية، وهي الأجندة التي فشلت في تحقيق أهدافها بعد 2013، خاصة في مصر.
إعادة إنتاج خطاب الجماعة بلغة دينية
إنّ المتأمل في صياغة بيان الاتحاد يلاحظ تطابقه مع الأدبيات الإخوانية التقليدية، التي لا تفصل بين "العدو الخارجي" و"العدو الداخلي"، بل تعتبر الأنظمة العربية الحائط الحامي لإسرائيل، وأنّ تحرير القدس لا يمكن أن يتحقق إلا بعد "تحرير الشعوب من حكامها".
وهنا تتجلى خطورة استخدام المنابر الدينية لترويج أجندات سياسية، خاصة عندما تأتي من اتحاد يضم في عضويته علماء من دول عدة، ويُفترض أن يمثل خطابًا موحِّدًا أو متزنًا، بل إنّ هذه الفتاوى قد تُستخدم لاحقاً لتبرير عنف جماعات متطرفة تتخذ من الجهاد ذريعة لاستهداف مؤسسات الدولة أو القوات المسلحة في بعض الدول، تحت مظلة "دعم فلسطين".
الواقع أنّ القضية الفلسطينية تستحق نصرة حقيقية تتجسد في الدعم السياسي والميداني، وليس استغلالًا إعلاميًا يهدف إلى تعبئة الشارع ضد حكوماته، وتفكيك الجبهة الداخلية، والربط بين نصرة غزة وإسقاط الأنظمة لا يخدم سوى جماعات الإسلام السياسي، ولا يُضعف إسرائيل بل يعزز من قدرتها على تفتيت الصف العربي.
الاتحاد... الهيكل والتنظيم وأدوات التأثير
يضم الاتحاد أكثر من (90) ألف عضو بحسب ما ينشر على موقعه الرسمي، ويتخذ من الدوحة مقرًا رئيسيًا له، ممّا يجعله خاضعًا بشكل غير مباشر لسياسات قطر التي تُتهم بدعم تيارات الإسلام السياسي في عدد من الدول. وقد سبق أن وُضع الاتحاد على قوائم الإرهاب في دول عربية مثل السعودية والإمارات والبحرين ومصر، بسبب مواقفه وارتباطه بجماعة الإخوان.
ويُلاحظ أنّ أعضاء الاتحاد الأكثر نشاطًا هم من الوجوه المعروفة بانتمائها أو قربها من التنظيم الدولي للإخوان، مثل: علي القره داغي، ومحمد الصغير، وسلمان العودة (قبل اعتقاله)، وأحمد الريسوني، وغيرهم.
لم يكن البيان الأخير سابقة في تاريخ الاتحاد، فمنذ تأسيسه في 2004، تحت قيادة القيادي الإخواني الراحل يوسف القرضاوي، ظلّ الاتحاد واجهة دينية لجماعة الإخوان المسلمين، وذراعاً شرعيًا يُعيد صياغة خطاب التنظيم وفق الرؤية الدينية المؤدلجة، ففي كل أزمة كبرى تمرّ بها المنطقة، كان الاتحاد يوظف الخطاب الديني لمهاجمة الأنظمة العربية، وشيطنتها، وإظهارها بمظهر العدو الداخلي الذي يجب "إسقاطه"، باعتباره أكبر من خطر الخارج.
هذه الخلفية تفسّر لماذا تتحول بيانات الاتحاد دومًا إلى منابر تحريضية لا تستهدف فقط الاحتلال، بل تتعداه إلى مهاجمة الأنظمة العربية واتهامها بالتقصير والتآمر. وهو ما يتماشى مع سياسة الإخوان القائمة على "هدم الدولة الوطنية" كمرحلة أولى للوصول إلى مشروع "الأمة الإسلامية"، وفق ما يُروّج في أدبياتهم.
بين الدعم الحقيقي وفخ التحريض
القضية الفلسطينية بحاجة إلى دعم صادق، لا إلى شعارات فضفاضة تُوظَّف لتصفية الحسابات السياسية. ومواقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الأخيرة تُظهر كيف يمكن أن يُستغل الدين للتحريض، لا للتقريب، ولإشعال نار الفتنة بدلًا من توجيه الجهود نحو إنهاء الاحتلال.
إنّ مسؤولية العلماء والدعاة في هذه المرحلة الدقيقة تتمثل في تهدئة الأوضاع، ودعم الجهود الإنسانية والسياسية لنصرة الشعب الفلسطيني، لا في دفع الشعوب إلى التصادم مع حكوماتها تحت غطاء "الجهاد"، فالقضية لا تحتمل مزيدًا من المزايدات، بل تحتاج إلى عمل حقيقي يوحِّد لا يفرِّق.