السودان هي الدولة الوحيدة في المنطقة، التي تمت فيها حيثيات الجريمة الكاملة للإسلام السياسي، ولا تزال. وذلك منذ أن انقلب الإسلاميون، بتنظير وتوجيه من الدكتور حسن الترابي (الذي اعترف صراحة بعد ذلك بسنوات بقوله: " قلت للبشير: اذهب أنت للقصر رئيساً، وسأذهب أنا للسجن حبيساً) على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً برئاسة الصادق المهدي في حزيران (يونيو) من العام 1989.
كانت الأطروحة تستند، بكل بساطة، على التالي: قلب نظام الحكم الديمقراطي أولاً، ثم التغيير الفوقي للمجتمع من خلال وسائل الإعلام ومناهج التعليم، دون أي اكتراث للمنهجية المعرفية والشرعية والأخلاقية، التي لا يمكن بأيّة حال من الأحوال، أن تبرّر ذلك الانقلاب الكارثي، بوصفه سرقةً للسلطة أولاً، وعنفاً غير قانوني، ثانياً. وبطبيعة الحال، لا يمكن، أبداً، لهكذا انقلاب، أن تنجم عنه - بأي حال من الأحوال- سويّة سياسية للاستقرار في المستقبل، كما أثبتت الأيام لاحقاً! بيد أنّ الكارثة الحقيقية، كانت تكمن في أن ذلك الطريق، تحديداً؛ أي قيام سلطة دينية بلا مجتمع يسندها (أو في أقلّ الأحوال مجتمع غير مقتنع بمشروعها)، هو أقصر طريق ملكي للخراب الذي جاء بعد ذلك، في "الوصفة" التي أطلق عليها حسن الترابي اسم "المشروع الحضاري"، وكانت وزارة "التخطيط الاجتماعي" التي أوكلت لرعاية الدكتور علي عثمان محمد طه في التسعينيات، هي الجهاز التنفيذي لتحقيق رؤية "المشروع الحضاري".
السودان هي الدولة الوحيدة في المنطقة، التي تمت فيها حيثيات الجريمة الكاملة للإسلام السياسي، ولا تزال
وككلّ أيدلوجيا، كان الإسلام السياسي فارغاً من أي محتوى بديل لإدارة دولة بحجم السودان، سوى الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ فـ "المشروع الحضاري" لحسن الترابي، الذي جاء ليقول للسودانيين، ما معناه: حياتكم قبل عام 1989، كانت حياة "جاهلية"، ولا بدّ من "أسلمتها". أفضى، بالضرورة، إلى جريمتين كبيرتين على الأقل، تناسلت منهما جرائم عديدة وخطيرة على كلّ المستويات.
الجريمة الأولى: ما عرف حينها بـ "الصالح العام"، أو "التمكين"، وهو اسم مهذّب لعنوان خطير، تم عبره تجفيف وتفريغ الدولة من كوادرها العلمية المؤهلة والمتنوعة، في جهاز الخدمة المدنية، والتعليم، والجيش، والإعلام، والمناصب العامة، بحجة إحلال أهل الولاء محل أهل الكفاءة، وأهل الثقة محلّ أهل الاختصاص، (وهي أهم حجة لتقنين الفساد). إلى جانب ممارسات التضييق على تلك الكفاءات الوطنية؛ واضطرار أغلبهم للهجرة إلى خارج الوطن في عقد التسعينيات.
والجريمة الثانية: كانت في تخريب الهوية الوطنية، وتحزيب المجتمع، من خلال "وصفة" (المشروع الحضاري)، عبر تفكيك نظام التعليم، والهيمنة على أجهزة الإعلام، وتعويم سرديات فقيرة وشعارات أفقر وأناشيد مزيفة، حاصرت تلك الهوية، والفنون والذاكرة الوطنية للسودانيين، فأحدثت ما يشبه قطيعة لصيرورة وطنية للسودان، كانت صورتها تتشكل بملامح واعدة، حتى عام 1989.
تم تفتيت الهوية الوطنية في ذاكرة السودانيين، سيما الأجيال الشابة وهذا ما لم يجرؤ عليه أي نظام في المنطقة
والنتيجة الحتمية لـ "المشروع الحضاري" اليوم في السودان، كما هو واضح لكلّ ذي عينين، تمثلت في تشويه الذاكرة الوطنية، وتدمير الأحزاب السياسية، عبر تفتيتها وتقسيمها، وتهجير كوادرها، والتسريع ببروز الهويات الصغيرة؛ كالقبلية والطائفية والمناطقية، لتحلّ محلّ الأحزاب والعمل الحزبي، فتم استبدال العمل السياسي بالصراعات العسكرية التي اندلعت في شرق السودان وغربه، ليصبح مركزها في دارفور، التي تحوّلت لمأساة حقيقية للسودانيين منذ عام 2003؛ حيث قُتل في تلك الحرب مئات الآلاف من السودانيين، هذا، فضلاً عن تسخين حرب الجنوب (التي كانت قائمة من قبل)، وتحويلها إلى حرب دينية غُيّبت فيها الأسباب الزمنية والسياسية للحرب، ما جعل من الصراع العسكري فيها صراعاً دموياً متوحشاً، وبلا أفق، انتهى باتفاقية نيفاشا عام 2005، التي أدّت إلى انفصال الجنوب وتقسيم السودان.
هذا المزيج المركّب من الخراب الهائل المديد، أصبح، بعد مرور 29 عاماً، خزيناً متعفناً وانسداداً مزمناً، أمام أيّة محاولة للخلاص من نفق الإسلام السياسي المظلم. فمن ناحية؛ تم تفتيت الهوية الوطنية في ذاكرة السودانيين، سيما الأجيال الشابة (وهذا ما لم يجرؤ عليه أي نظام في المنطقة، نظراً إلى الأيدلوجيا الدينية لنظام الإنقاذ الإسلاموي، عبر تدميره للهوية والذاكرة السودانيتين، مع عجزه التام عن صناعة البديل بسبب تلك الأيدلوجيا ذاتها)، ومن ناحية ثانية؛ ربط النظام مصيره بمصير نهائي، كارثي ومؤكّد، للسودان، عبر الفساد الرهيب والتخريب الشامل لبنية الدولة، وتدمير مشروعاتها المركزية (بفعل سنوات الحصار التي امتدّت لـ 25 عاماً)، والتحزيب الأفقي للمجتمع السوداني؛ بحيث ينجم عن تفكّك النظام تفككٌ للسودان ذاته.
لقد عجزت النخب الفكرية والثقافية في السودان، عن رؤية المصير السياسي الخطير لانقلاب الإسلامويين
ومن ناحية ثالثة؛ أصبحت ظروف ما بعد الربيع العربي، وإخفاقات ذلك الربيع، والواقع الإقليمي والدولي، مغرية للنظام للاستمرار في ممارسة الخراب والقمع، بلا رقيب، والتحوّل إلى سلطة عارية، ودولة فاشلة وكيان فاسد، بعد أن نفدت كلّ شعارات الأيدلوجيا، ومات مئات الآلاف من المواطنين تحت راياتها الخادعة.
هكذا، إذ تتكشف لنا، اليوم، ملامح تلك الجريمة الكاملة للإسلام السياسي، وما فعله بحياة السودانيين، التي تحولت إلى جحيم لا يطاق، سندرك تماماً فداحة المصير الذي كان يمكن أن يقود إليه الإخوان المسلمون مصر، في ظلّ قيادة مرسي، لولا الفارق الكبير بين وضعي البلدين؛ أي في علاقة المصريين العضوية العريقة بالدولة من ناحية، وقدرة النخب الفكرية والثقافية في مصر، خلال سنة واحدة، على رؤية المصير الكارثي الذي كان سيقودهم إليه مرسي.
لقد عجزت النخب الفكرية والثقافية في السودان، عن رؤية المصير السياسي الخطير لانقلاب الإسلامويين (كما أبصره المصريون، رغم أنّ الحالة المصرية ليست انقلاباً، لكنّ الفرق هنا في الدّرجة لا في النوع).
وعجز النخب السودانية، في تقديرنا، يرجع إلى إشكالات أساسية في الثقافة الإسلامية السودانية (تلك الثقافة التي وصفها الترابي ذات يوم بأنّها ضعيفة) من ناحية، وإلى واقع الذاكرة العلمية والتاريخية للسودانيين من ناحية ثانية، وهي ذاكرة لم تعرف، قبل القرن العشرين، أي مؤلف علمي، سوى كتاب "الطبقات" لصاحبه ود ضيف الله، وكتاب (تاريخ دولة السنارية والإدارة المصرية)!
وإذا ما بدا لبعض العارفين بالحراك السياسي السوداني، في النصف الثاني من القرن العشرين، أنّ ثمة حيوية سياسية للسودانيين، تجسّدت عبر الحالتين الثوريتين، في تشرين الأول (أكتوبر) 1964، ونيسان (أبريل) 1985، (قبل ثورات الربيع العربي)، إلى جانب أحزاب السودانيين (النشطة على مستوى منطقة الشرق الأوسط)، لا سيما الحزب الشيوعي والحركة الإسلامية، فيمكننا، بكل ثقة، أن نصف ذلك الحراك السياسي الذي انتظم الحياة السودانية في النصف الثاني من القرن العشرين، بأنّه كان حراكاً نسقياً مؤقتاً، ولا يعبّر عن سوية سياسية من ناحية، كما لا يعكس إلّا مرحلة الاستيهام الخادع في المنطقة العربية من ناحية أخرى، وهي مرحلة توهم فيها العرب دخولاً مزيفاً في الحداثة السياسية، إبان مرحلة تأسيس دولة ما بعد الاستعمار.
هكذا، يمكننا وصف الوضع في السودان، بعد هذه الجريمة الكاملة للإسلام السياسي (التي لاتزال فصولها الكارثية مستمرة لأكثر من ربع قرن)، بأنّه مأزق تاريخي للسودانيين، وليس مأزقاً سياسياً فحسب، الأمر الذي سيكشف لنا مدى عمق الهاوية التي حفرها الإسلام السياسي للسودانيين، فسمّم بذلك حياتهم. وإذا كان من طبيعة المأزق أن يمنحك، فقط، خيار التعايش معه، دون القدرة على التخلص منه؛ فإنّ من طبيعة التسمّم أن يشلّ قدرتك عن الحياة، فلا تموت ولا تحيا!