الأزمة الليبية: إلى أين سيؤدي تفكك معسكر الوفاق؟

الأزمة الليبية: إلى أين سيؤدي تفكك معسكر الوفاق؟


23/09/2020

تضافرت عدة عوامل داخلية لتصنع المشهد الغاضب في غرب ليبيا، تنديداً بسوء الأحوال المعيشية، ولأيام متتالية تواصلت التظاهرات، التي شهدت نوعاً من الصدام بين فائز السراج ووزير الداخلية فتحي باشاغا، ما أدّى إلى توتر الأوضاع داخل المجلس الرئاسي، ودخول مدينة مصراته وميلشياتها، التي تتبع باشاغا، بكلّ ما تحمله من أوزان نسبية في المعادلة الليبية إلى داخل ساحة الصراع، وما يؤدي إليه ذلك من تداعيات داخلية وإقليمية ودولية، وعلى خلفية ذلك، تأتي القراءة الواقعية لإعلان فائز السراج استعداده لتقديم استقالته خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.

تنحّي السراج.. مناورة أم تحوّل في المسار السياسي؟

يؤكد الشيخ عبد الكريم العريفي، المتحدث الرسمي باسم مجلس قبائل وأعيان ليبيا، أنّ المظاهرات التي اندلعت غربي ليبيا "جاءت نتيجة الوضع المعيشي الصعب، الذي يعانيه سكان المنطقة، مقابل تمتع الميليشيات بالأموال والمزايا، والسيطرة على مصادر الثروة، ما دفع بالناس نحو الخروج للمطالبة بأبسط حقوقهم، والمتمثلة في الحصول على الكهرباء والماء، وجاءت المواجهة الغاشمة من قِبل السلطة باستخدام القوة المفرطة، ما أدّى إلى سقوط ضحايا، مع إجراءات التعذيب في مراكز الاعتقال، وهو ما رفع سقف مطالب المتظاهرين إلى المطالبة برحيل المجلس الرئاسي، الأمر الذي دفع دوائر السيطرة في طرابلس إلى اختلاق مسرحية إيقاف وزير الداخلية باشاغا، بداعي التحقيق معه، من أجل امتصاص الغضب وإفشال المظاهرات".

ويرى العريفي، في حديثه لـ "حفريات"، أنّ فائز السراج هو الأضعف في حلقة المتصارعين على السلطة والهيمنة في طرابلس، "إذ إنّه لا يملك أيّ قوة فعلية على الأرض، وكلّ مقومات قوته تعتمد على الدعم الدولي لاتفاق الصخيرات، وبالتالي لا يملك أيّ أوراق ضاغطة لفرض نفسه على المشهد السياسي، خلال المرحلة القادمة، وبالتالي اتخذ هذه الخطوة لاكتساب العطف من كلّ الأطراف الداخلية والخارجية، وزيادة احتمالات التوافق عليه، كطرف قد يقبل به الجميع خلال المرحلة القادمة، في ظلّ رفض كلّ طرف القبول بالآخر".

لأيام متتالية تواصلت التظاهرات التي شهدت نوعاً من الصدام بين فائز السراج ووزير الداخلية فتحي باشاغا

وعلى صعيد ذي صلة، يعتبر العريفي أنّ خلاف السراج مع بعض أعضاء مجلس الرئاسة، مثل أحمد معيتيق، خلاف حقيقي، في ظلّ التنافس على القيادة، "بيد أنّ خلاف السراج مع وزير الداخلية قد يكون مشهداً هزلياً لإفشال المظاهرات، وخاصّة أنّ كلاً منهما كان ضيفاً على تركيا، وبالفعل لم يستمرّ إيقاف وزير الداخلية أكثر من 3 أيام، حيث جرى تحقيق شكلي استمرّ لساعة واحدة، قبل أن يصدر قرار المجلس الرئاسي بعودته لممارسة عمله، قبل ظهور نتائج هذا التحقيق الصوري".

اقرأ أيضاً: هل يكتب صراع السراج مع معيتيق نهاية حكومة الوفاق؟

ويشير المتحدث الرسمي لمجلس قبائل وأعيان ليبيا إلى أنّ المسارات في غرب البلاد سوف تصبح متشعبة ومعقدة، وبعيدة عن وحدة الصف؛ لطبيعة الخلاف المتجذر بين كلّ الأطراف هناك، "فبعضها يعتنق عقيدة دينية، وبعضها لديه نزعة نفعية، بالإضافة إلى عناصر تنتهج أجندات خارجية، وتحرّكها دول حسب مصالحها، وكذلك هناك من يحاول أن يصنع لنفسه موقعاً سياسياً خلال المرحلة القادمة، مهما كلفه ذلك"، مؤكداً أنّ الاتفاق سيظلّ بين أطراف غرب البلاد شبه مستحيل، و"الدليل على ذلك التصريحات المتضاربة بين أصحاب السلطة والقرار هناك، مثل تصريحات عضو المجلس الرئاسي العماري ضدّ بيان السراج، وتصريحات أجويلي ضدّ معيتيق، وتصريحات مجموعة ليست بالبسيطة من أعضاء المجلس الأعلى ضدّ تفاوض المشري مع مجلس النواب، وعليه يظلّ الخلاف مفتوحاً على ساحة الصراع".

حتمية انفجار المشهد غرب ليبيا

يبدو الصراع بين حلفاء الأمس متجاوزاً لطبيعة الصراعات التقليدية بين المتنافسين، خاصة مع محاولة حزب العدالة والبناء، الذراع السياسي للإخوان المسلمين، التنصل من مسؤوليته عن تدهور الأوضاع، ومحاولة رئيسه محمد صوان القفز من السفينة التي توشك على الغرق.

اقرأ أيضاً: "تركة" السراج... تحالفات شائكة ومصير غامض

يرى الأستاذ المحاضر في العلوم الجيوسياسية بجامعة منوبة التونسية، الدكتور رافع الطبيب أنّ "المشهد في غرب ليبيا يكتنفه الغموض الشديد، مع خروج الصراعات العميقة والخفية إلى العلن، وبشكل عنيف ومتسارع، وبدا لافتاً تدخل الميليشيات التابعة للسيد فتحي باشاغا، يوم الجمعة 18 أيلول (سبتمبر)، لمنع السيد أحمد معيتيق، عضو المجلس الرئاسي، وممثل تكتل رجال الأعمال المصراتيين، من عقد مؤتمر صحافي، إلى التفكك الذي أصاب معسكر الوفاق".

العريفي: السراج أضعف حلقات المتصارعين على السلطة بطرابلس لعدم امتلاكه أيّ قوة فعلية على الأرض

ما يمكن الإقرار به اليوم، وفق حديث الطبيب لـ"حفريات"، أنّ إعلان فائز السراج تنحيه عن قيادة المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، "يمثل بداية مرحلة تُشكّل مشهداً سياسياً جديداً، بتحالفات اخترقت التقسيم القديم للساحة الليبية بين شرق وغرب، وكان للتوافق المعلن عنه بالأمس بين قيادة الجيش، والسيد أحمد معيتيق، والقاضي بتقاسم عائدات النفط خارج المسالك التابعة للبنك المركزي، الفضل في كسر الجمود وفتح آفاق جديدة لإعادة توحيد البلاد، لكنّ أذرع الفساد والميليشيات المتحالفة مع أردوغان تتحرك ضدّ هذا الاتفاق، وقد أطلقت العنان للعنف الميليشياوي ضدّ أهمّ رموز الفعل السياسي في طرابلس ومصراتة".

اقرأ أيضاً: تنحي السراج يربك مشروع أردوغان في ليبيا

ويشير خبير الشؤون الجيوستراتيجية بمؤسسة الدراسات الأمنية والاستشراف أنّه، "منذ أكثر من شهر، انتشرت معلومات ذات صدقية كبيرة تشير إلى عزم العديد من الدول الداعمة لحكومة الوفاق الاستغناء عن فائز السراج لفشله في حلّ المشاكل المعيشية في الغرب الليبي، وعجزه عن كبح الفساد، ما بدّد ثروة البلاد، بالإضافة إلى موقفه المتذبذب في ملف التعامل مع وزير داخليته، الذي أحدث شرخاً داخل حكومة الوفاق، وتحوّل إلى ناطق رسمي باسم أردوغان، ومنفذاً لسياساته".

انتشرت معلومات عن عزم العديد من الدول الداعمة لحكومة الوفاق  الاستغناء عن السراج

ويضيف الطبيب إلى ذلك أن عجز السراج والمجاميع الميليشياوية والمرتزقة عن اقتحام سرت والجفرة، حيث الثروات النفطية ومنابعها، جعلهم في موضع ضعف، مقابل الجيش والبرلمان اللذين أبديا مصداقية واضحة في التعامل مع استحقاقات السلم والتوافق؛ بإنجاز الانسحاب من المناطق الغربية، وفرض خطّ صلب أمام تقدّم الميليشيات".

هذا الوضع، وفق الطبيب، أعاد ترتيب المشهد الجيوستراتيجي، وفرض موازين قوى على الأرض، محورها الدفاع عن مقدّرات الشعب الليبي، بإبعاد اليد التركية عن الهلال النفطي، ما قوّض مشروع التمكين، الذي وعد به السراج حلفاءه بعد استقدام الآلاف من المرتزقة، وكميات هائلة من السلاح التركي، ووضع البلاد وثرواتها، وما تبقى من سيادتها تحت تصرف أردوغان.

مسارات التوافق أو الحلّ العسكري

يرى الطبيب أنه يمكن الاشتباك مع هذا الطرح في ضوء التشظي الذي تعيشه حكومة الوفاق، وسعي العديد من قيادات المنطقة الغربية نحو ملء الفراغ، الذي قد يتركه السراج حال مغادرته، حيث إنّ بعض المؤشرات تدفع نحو مسارين متوقعين:

الأوّل: مسار انقلابي يقوده السيد فتحي باشاغا، ويرمي إلى فرض الحل العسكري، وحشد كل القوى الميليشياوية، ومجاميع المرتزقة المدعومة من تركيا، للتقدم نحو سرت، ومحاولة فرض الحكم بالقوة، ويقف اليوم إلى جانب هذا الطرح قوى فاعلة عسكرياً، على غرار تيار المفتي المعزول، الشيخ الصادق الغرياني، وميليشيات عديدة من مصراته والزاوية، وما تبقى من مجالس شورى المجاهدين، وكلّ خلايا الإرهاب، إضافة الى آلاف المرتزقة.

اقرأ أيضاً: ماذا تعني استقالة فايز السراج من رئاسة الحكومة الليبية؟

الثاني: مسار يفترض توافقاً أمريكياً مع التحالف الواسع الداعم للجيش، والمعارض للمغامرة التركية في ليبيا، وذلك بالسير نحو إعادة بناء مجلس رئاسي متوازن، وفتح الموانئ النفطية، وعودة ضخّ النفط، مع اقتسام عادل لعائدات تصدير الطاقة، كخطوة أولى على طريق توحيد المؤسسات، وإعادة توزيعها جغرافيّاً بين الشرق والغرب والجنوب.

يبدو خلاف السراج مع بعض أعضاء مجلس الرئاسة مثل معيتيق حقيقياً في ظلّ التنافس على القيادة

ويضيف الطبيب أنه "تبقى معضلة الأمن وبناء الجيش عبر توحيد مكوّناته، وتفكيك الميليشيات، وإجلاء المرتزقة، بدون أفق واضح، لذا، لن يكتب النجاح لهذا السيناريو دون اعتماد مقاربة تكون دول الجوار العربي والأفريقي عماد تحديد معالمها، فأزمات ليبيا أبعد من أن تكون محصورة داخل حدود هذا القطر، بل هي بالأساس أزمات إقليمية، تمسّ الأمن القومي لكل الدول في المنطقة".

اقرأ أيضاً: الصراع يحتدم بين السراج والإخوان... من يقصي الآخر؟

بدا موقف القاهرة الاستراتيجي من الأزمة الليبية من المرتكزات الأساسية التي ينبغي التدقيق في عناصرها، عند الاشتباك بالرؤية والتحليل معها، وهو ما يؤكد عليه الدكتور رافع الطبيب، فموقف القاهرة من مسألة تثبيت الخطوط الحمراء، ضَمِن سيادة الليبيين على ثرواتهم، وفرَض منعرجاً حاسماً على مسار الأزمة الليبية، فبعد الفوضى التي أحدثتها مجاميع المرتزقة، إثر محاولة تركيا قلب موازين القوى على الأرض، إبّان انكفاء الجيش الليبي نحو محور سرت - الجفرة، جاء التصعيد المصري الحاسم، ليردع محاولات اختراق الهلال النفطي من طرف أردوغان.

وعليه، أصبحت المعادلة متعددة الأطراف دولياً، في ظلّ معطى جيوسياسي وجيوستراتيجي، قادر على تجهيز كلّ مخرجات الأزمة للاعبين جدد، وإعادة مركزة الصراع خارج دوائر نفوذ القوى التقليدية.

ربما كان الدور الفرنسي هو أبرز أدوار الفاعلين الجدد، في ظل توتر متصاعد في العلاقات بين باريس وأنقرة، وإصرار فرنسا على قطع الأذرع التركية، من خلال تصفية ميليشياتها العسكرية.

موقف فرنسا يبدو ثابتاً بمواجهة التدخل التركي سواء ظلّ السراج في موقعه أو غادره

في هذا السياق، يرى الدكتور توفيق أكلميندس، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية، في حديثه لـ"حفريات"، أنّ "موقف فرنسا لن يتغير في مواجهة التدخل التركي، سواء ظل السراج في موقعه أو غادره، إذ إنّ باريس تقدّر حجم المخاطر الأمنية المتزايدة التي تواجهها، من خلال تدافع الميليشيات المدعومة من أنقرة نحو ليبيا".

 ويؤكد أكلميندس أنّ أردوغان في الفترة الأخيرة أدخل إلى الأراضي الليبية عدداً كبيراً من الإرهابيين، ما يمثل عبئاً متزايداً على الجانب الفرنسي من الناحية الأمنية، وهو ما يتفق معه رافع الطبيب، "فالدفع غير المحسوب بالمرتزقة أصبح يهدّد وحدة حلف الناتو، ما يفتح الباب أمام تحالفات جديدة، في منطقة تمثل مورداً هائلاً للطاقة، تعتمد عليه القوى الغربية".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية