الأزمات المالية وسوء الأوضاع الاقتصادية يعصفان بذهب الفلسطينيين

فلسطين

الأزمات المالية وسوء الأوضاع الاقتصادية يعصفان بذهب الفلسطينيين


17/12/2019

تغريد علي

في سوق الذهب، وسط مدينة غزة، المعروف باسم "سوق قيسارية"، والذي شيِّد في العصر الروماني، عام 63 قبل الميلاد، يبدو كلّ شيء جميلاً، بمحلاته الصغيرة المحيطة به من جهته الجنوبية والشرقية، التي تخفي وراءها قصصاً وحكايات لآلاف الأشخاص الذين ترددوا عليها لشراء مصاغهم الذهبي وبيعه.

اقرأ أيضاً: بين القبول والرفض.. تعرف إلى مبادرة "زواج البركة" في غزة

دخلنا أحد المحلات، وقابلنا المواطنة خلود نصار، التي كانت تجادل أحد البائعين على بيع مصاغها الذهبي، المكوَّن من سوار وخاتم وسنسال ذهبي من عيار 18.
كانت خلود تساوم البائع على مبلغ بسيط، لا يتعدّى الـ 15 ديناراً أردنياً، لكنّه بالنسبة إليها يشكّل مصروفاً مهماً لمنزلها لمدة يومين إلى ثلاثة أيام، إلى أن حصلت على ما تريد وقامت ببيع مصاغها الذهبي بمبلغ (870) ديناراً أردنياً، وهو ما يكفيها وأسرتها المكونة من ثمانية أفراد لما يزيد عن أربعة أشهر، كي تستطيع أن تفي بمتطلباتهم المعيشية والأساسية.
معدل البطالة بلغ حوالي 18% في الضفة الغربية

إشباع الأفواه الجائعة
تقول خلود (45 عاماً) لـ "حفريات"، وهي تتنفس الصعداء بعد بيع مصاغها الذهبي: إنّها ستنفق جزءاً من المبلغ على شراء بعض الاحتياجات الضرورية والمهمة، وبالجزء الآخر ستقوم بدفع الأقساط الجامعية لأحد أبنائها.

محلل اقتصادي: سوق الذهب شهد تراجعاً كبيراً من حيث المبيعات، وعمليات إقبال المواطنين على البيع أكثر من الشراء

ووفق إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، لعام 2018، فإنّ معدل البطالة بلغ حوالي 18% في الضفة الغربية، العام الماضي، مقارنة بحوالي 19% في عام 2017، في حين بلغ المعدل حوالي 52% في قطاع غزة، مقارنة مع 44% عام 2017، وبلغت نسبة الفقر في الضفة الغربية 13,9%، بينما وصلت نسبة الفقراء في قطاع غزة 53%.

وبلغ متوسط إنفاق الفرد الشهري في فلسطين 169.5 دينار أردني، بواقع 220.1 دينار أردني في الضفة الغربية، مقابل 91.2 دينار أردني في قطاع غزة.

اقرأ أيضاً: غزة: جفت الزيتون حين يغدو مصدر رزق لعائلات أنهكها الحصار

وتقول خلود: إنّ زوجها "يعمل موظفاً في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، ومنذ ما يزيد عن العام لا يتقاضى سوى 50% من راتبه، وهي نسبة لا تغطي كافة احتياجات العائلة، ولكنّها تغنيها عن الذهاب للاقتراض من البنوك، لتنقلب حياتها رأساً على عقب بعد أن قررت بيع مصاغها الذهبي لتستطيع مساعدة زوجها في تلبية بعض المتطلبات المعيشية والرسوم الدراسية لأبنائها".

 ساعد ارتفاع أسعار الذهب في زيادة الإقبال على بيعه

اقرأ أيضاً: كيف تتحكّم القيود السياسية والاجتماعية بالكوميديا الفلسطينية؟

وتابعت: "لم يخطر في بالي أن يأتي يوم أقوم فيه ببيع مصاغي الذهبي، الذي احتفظ به منذ أكثر من 25 عاماً؛ فقد كانت حياتنا ومستوى معيشتنا جيدين، ونتمتع بالراحة الاقتصادية والنفسية؛ حيث كان راتب زوجي يكفي لإعالتنا، وفي بعض الأحيان أقوم بادخار بعض منه لأجل مستقبل أبنائي، إلا أنّ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة جعلتني أختصر الوجبات الغذائية الثلاث خلال اليوم إلى وجبتين فقط، ووجدت في بيع مصاغي الذهبي السبيل الوحيد لإشباع الأفواه الجائعة لأبنائي وطلباتهم غير المحدودة، في ظلّ استنفاذ كافة المدخرات المالية والذهبية.
الغرق في اليأس والإحباط
وفي المحل المجاور؛ لم يكن حال خلود بأفضل من المواطنة رقية أبو سمعان (36 عاماً)، التي تتحسس عقدها الذهبي الوحيد المتبقي من مصاغها قبل أن تقرر دون تردّد بيعه لإعالة أسرتها المكونة من خمسة أفراد، بعد فقدان زوجها لعمله في أحد المصانع بمدينة غزة، منذ عدة أعوام، لتعتمد الأسرة بعد ذلك على معونات وكالة الغوث والشؤون الاجتماعية مرة كلّ ثلاثة أشهر.

اقرأ أيضاً: في يوم التضامن مع الفلسطينيين.. تصعيد إسرائيل يقوض فرص السلام
باعت رقية عقدها الذهبي بمبلغ (320) ديناراً أردنياً، وقدمته لزوجها، ليستطيع شراء احتياجات المنزل. تقول لـ "حفريات": "هذه المتطلبات قد لا تكفينا سوى أيام معدودة، وبعدها نضطر للاستدانة من أحد محلات البقالة المجاورة للمنزل لوازمنا الضرورية فقط، أما الخضار فنقتصر على شراء البطاطا والبندورة، ولا تعرف الفاكهة مكاناً لها في بيتنا، وكذلك اللحوم والدواجن، فمنذ 3 أشهر لم نتذوقها، وتمرّ أيام كثيرة لا نجد فيها ببيتنا أيّ مبلغ مالي على الإطلاق".

الخيارات أمام المواطنين شبه محدودة
وتابعت: "أولادي يكبرون أمامي يوماً بعد يوم، ويبدو أنّ مستقبلهم سيكون أسوأ من غيرهم، فالأوضاع في غزة صعبة للغاية، ومستوى الفقر مرتفع جداً، وغالبية المواطنين غارقون في اليأس والإحباط لانعدام المستقبل أمامهم، والذي لا يبدو مطمئناً في ظلّ انعدام فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة".
بيع الذهب يفوق شراءه
من جهته، يقول خالد السقا، صاحب محل مجوهرات لـ "حفريات": "بيع الزبائن للمصاغ الذهبي يفوق شراءه بدرجة كبيرة؛ فحركة البيع ازدادت بواقع 80%، وعزا ذلك إلى حاجة الناس الماسة من أجل سداد ديونها وتنفيذ التزاماتها المادية والمعيشية التي ترتبت عليها بفعل سوء الأوضاع الاقتصادية واستمرار أزمة رواتب الموظفين العموميين".

سيدة فلسطينية: لم يخطر في بالي أن أقوم ببيع مصاغي الذهبي الذي احتفظ به منذ أكثر من 25 عاماً

ويضيف: "الظروف الراهنة ألقت بظلالها سلباً على المواطنين، وشهد فصل الصيف الماضي، الذي تزداد فيه الأفراح والمناسبات، وتنشط فيه مبيعات الذهب حالة من الركود الشديد، ولم يدخل محلي سوى عروسين فقط خلال هذه الفترة"، مستدركاً بأنّ بعض الأزواج يقررون شراء الإكسسوارات الذهبية المزيفة "الذهب الصيني" كبديل عن المصاغ الذهبي الحقيقي، الذي لا يختلف عنه من حيث المظهر، وهو ما أثّر على مبيعات الذهب بشكل عام في غزة".
ولفت السقا إلى أنّه "يوجد في قطاع غزة 30 مصنعاً لصناعة الذهب، تنتج ما يقارب 1500 كيلوغرام، ويعرض في أسواق غزة 75% من الإنتاج المحلي، ويتم استيراد 25% من الضفة الغربية وبعض الدول العربية، مبيناً أنّ "عائدات دمغ الذهب من قبل مديريات المعادن الثمينة الفلسطينية تقدّر بأكثر من 12 مليون شيكل سنوياً".

اقرأ أيضاً: مرضى قطاع غزة لم تقتلهم إسرائيل بالرصاص بل بالمنع من العلاج

وتابع: "المؤشرات والأوضاع الحالية دفعت بعدد كبير من النساء لبيع ما لديهن من مصاغ ذهبي لحاجتهن الملحّة للمال، رغم الخسارة التي يتكبدها البائع، الذي يفقد قيمة المصنعية، وبالتالي تبقى حركة البيع أكثر من الشراء لدى الزبائن في الوقت الراهن، ويقتنص البائع فرصة ذهبية لتحقيق نسبة معقولة من الأرباح".
الظروف الراهنة ألقت بظلالها سلباً على المواطنين

ادّخار طويل الأجل
بدوره، يرى المحلل الاقتصادي، خليل حبيب، أنّ "ارتفاع أسعار الذهب خلال الفترة الأخيرة، الذي بلغ 5100 شيكل للأوقية (1450 دولاراً أمريكياً) دفع ذلك بالزبائن لبيع جزء من المدخرات الذهبية لديهم لتسديد الالتزامات المالية التي ترتبت عليهم بفعل أزمة الرواتب الخانقة التي يعانيها القطاع العام الفلسطيني".

اقرأ أيضاً: لماذا يُجبَر الفلسطينيون على اعتماد مناهج تعتبر إسرائيل دولة الشعب اليهودي؟
ويضيف لـ "حفريات": "الذهب يعدّ ادخاراً طويل الأجل عند الفلسطينيين لمواجهة الأزمات الاقتصادية لديهم، واقتناؤه يشكّل فائدة لهم ويحميهم من تقلبات صرف العملات"، مستدركاً بأنّ "أسعار الذهب ترتبط بالأسعار العالمية، وتتنوع عيارات الذهب بين 9 و14 و18 و21 و24، ويشهد عيار 21 المبيعات الأكثر في سوق الذهب الفلسطيني".
وبيّن أنّ "سوق الذهب شهد تراجعاً كبيراً من حيث المبيعات، وأنّ عمليات إقبال المواطنين على البيع أكثر من الشراء، حتى المقبلين على الزواج لا يسرفون بشراء المصاغ الذهبي؛ نظراً إلى استمرار سوء الأوضاع الاقتصادية"، موضحاً أنّ "المؤشرات الفلسطينية الرسمية تدلّ على أنّ نسبة استهلاك المواطنين تفوق نسبة الدخل العام لديهم بحوالي 39%، ما يدفعهم إلى بيع جزء من مدخراتهم الذهبية والعقارية وغيرها".

اقرأ أيضاً: مدرب بساق واحدة يعلّم السباحة لمبتوري الأطراف في غزة

ولفت حبيب إلى أنّ "الخيارات أمام المواطنين شبه محدودة، خاصة الموظفين العموميين منهم، الذين يشكلون 18% من نسبة العمالة الفلسطينية، وقد ساعد ارتفاع أسعار الذهاب في زيادة الإقبال على بيعه، ما سيؤثر سلباً في هذه الصناعة وسيزيد من نسبة العرض مع انخفاض الطلب على الذهب لارتباطه بشكل مباشر بأسعار النفط العالمية والدولار الأمريكي".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية