إيران والقضية الفلسطينية... الرؤية والأهداف والأدوات (1)

إيران والقضية الفلسطينية... الرؤية والأهداف والأدوات (1)

إيران والقضية الفلسطينية... الرؤية والأهداف والأدوات (1)


05/12/2023

هدى رؤوف

مجموعة من التحفظات ألقت بها إيران على طاولة بيان القمة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في شأن الحرب في قطاع غزة 2023، لعل أبرزها حل الدولتين وحدود 67 والمبادرة العربية للسلام، واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهو ما يدفع إلى التساؤل لماذا يختلف الموقف الإيراني من تسوية القضية الفلسطينية عن موقف سائر دول المجتمع الدولي والعربي والإسلامي؟ وما موقع فلسطين في الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية؟ ومن ثم ما رؤية طهران للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي؟ وما الأدوات التي وظفتها؟ ولماذا دعمت بعض القوى الفلسطينية في مواجهة قوى فلسطينية أخرى؟ وهل أضرت السياسة الإيرانية بالقضية الفلسطينية أم أسهمت في حلها؟

القضية الفلسطينية وسياسة طهران الخارجية

تعود علاقة إيران بالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني إلى ما بعد عام 1979، عندما اندلعت الثورة الإيرانية وأطاحت الشاه، الذي كان ينظر إليه على أنه حليف وثيق لإسرائيل والولايات المتحدة، إذ تبنت الحكومة الجديدة في طهران، بقيادة آية الله الخميني، موقفاً مناهضاً لإسرائيل وبدأت في تبني القضية الفلسطينية.

وعمل النظام الإيراني الجديد على صياغة سرديته الخاصة بالقضية الفلسطينية، ورؤيته لها على نحو يخدم أهدافه بعد أن روج لنفسه باعتباره يحمل رسالة إلهية عالمية، وتصوير الصراع مع إسرائيل بكونه صراعاً أيديولوجياً وليس تنافساً على السيطرة والنفوذ في الشرق الأوسط. وكانت القضية الفلسطينية إحدى أهم أدوات إيران في استراتيجيتها نحو سعيها إلى تحقيق مشروعها للهيمنة الإقليمية. وتجلى ذلك في توظيف طهران القضية بحسب المصالح الإيرانية، ومن ثم كان الموقف الأخير الحذر الذي يصل إلى درجة التخاذل تجاه حركة "حماس" في أعقاب عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

أسس النظام الإيراني بعد عام 1979 على أفكار ثورية، وقد اختار لنفسه دور معقل الثورة ومحررها كنهج لسياسة طهران الإقليمية. وفى ظل الازدواجية التي تتصف بها الشخصية الإيرانية المبنية على الشعور بالاضطهاد من جهة والإحساس بالتمايز والاستثنائية من جهة أخرى، تبنى النظام مفهوم النموذج، إذ حول إدراكه لذاته بالتميز أو التفرد إلى سلوكيات مرتبطة باعتبارها نموذجاً ثورياً يمكن الاقتداء به، وربطها بالقضايا العربية في المنطقة وإضفاء الصبغة الإسلامية عليها، ورفض الطابع القومي والعربي لتلك القضايا.

وبدا واضحاً أن النظام الإيراني يستهدف توظيف دوره في ربط تلك القضايا بالمبادئ الثورية التي جاء لها لتحقيق أفكار معلنة مثل تصدير الثورة إلى محيطها، مما ارتبط بسياسة نشطة خارج الحدود، عبر شعارات نصرة المستضعفين، ومقاومة الاستكبار العالمي والاستعمار، وإقامة حكومة إسلامية عالمية، ومفهوم الصحوة الإسلامية، فضلاً عن تقديم طهران نفسها مدافعة ليس فقط عن قضايا الشيعة بل والسنة في الشرق الأوسط.

 لذا حرص النظام على تصوير طهران كنموذج للمقاومة، وأن الهوية الإيرانية تتبع مركزاً متميزاً بين الدول الأخرى كفلسطين والعراق ولبنان فكلهم يتشابهون مع النموذج الإيراني في المقاومة.

بعد ثورة 1979 أنهت إيران تحالفها مع إسرائيل وبدأت في دعم الفلسطينيين، وتمثل ذلك بتسليم السفارة الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية. واعتبرت أن الإمبريالية الأميركية تجسدت في المنطقة على شكل دولة إسرائيل، التي يجب القضاء عليها. بعد وقت قصير من الثورة، خصص الخميني الجمعة الأخيرة من شهر رمضان عطلة وطنية جديدة وسماها "يوم القدس"، لإعلان التضامن الدولي للمسلمين لدعم الحقوق المشروعة للشعب المسلم في فلسطين.

خلال العقد الأول من الثورة الإيرانية كان تركيز طهران الأساس في الصراع العربي - الإسرائيلي منصباً على مساعدة وتسليح الشيعة في "حزب الله" بلبنان، ولكن انخراط طهران مع الجماعات الفلسطينية الإسلامية تعمق تدريجاً مع ثلاث نقاط تحول رئيسة، دخول منظمة التحرير الفلسطينية في محادثات سلام مع إسرائيل في عام 1988، والانتفاضة الثانية في عام 2000، وانتخاب "حماس" في عام 2006.

وكان اختيار مسار التسوية السياسية مناهضاً للنهج الإيراني الذي يقوم على دعم الجماعات والفاعلين من دون الدخول في مواجهة الدولة المركزية، إذ اعتادت بناء وتوثيق تلك العلاقات عسكرياً ومادياً ولوجيستياً وسياسياً، لذا فإن اختيار مسار التسوية السياسية بديلاً عن المقاومة المسلحة سيضعف أهمية وجود تلك الجماعات ومن ثم روابط إيران بها.

ومن ثم فإن توطيد إيران علاقتها بـ"حماس" وغيرها من حركات المقاومة ذات الأصول الإسلامية راجع لتوافق طبيعة هذه الجماعات مع رغبة طهران في إضفاء الصبغة الإسلامية على القضية الفلسطينية بعيداً من الطابع القومي والعروبي لها، حتى تتمكن من ربطها بالمبادئ الثورية، وما سمته بالصحوة الإسلامية، من ثم تسهيل مبدأ تصدير الثورة. وهو النهج نفسه الذي سارعت إلى تطبيقه على التظاهرات الشعبية التي اندلعت في بعض الدول العربية عام 2011 إذ اعتبرتها امتداداً للثورة الإيرانية وأنها صحوة إسلامية.

تفسر تلك الرؤية لماذا دعمت إيران حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وتوثيق العلاقة مع "حماس" لا سيما في عام 2006 بعد فوزها في الانتخابات في مواجهة "فتح"، إذ تسعى طهران إلى دعم فصائل التيارات الإسلامية في مواجهة الحكومات القائمة.

ومن هنا يمكن القول إن الدعم الإيراني لتلك الفصائل والعمل على تقويتها في مواجهة السلطة الحاكمة أدى إلى تعميق الانقسام الفلسطيني واستمراره لأكثر من 17 عاماً، مما وفر لإسرائيل حججاً بغياب شريك فلسطيني تتفاوض معه، واستمرت القضية مقسمة بين طرفين أحدهما إسلامي تدعمه إيران والآخر السلطة الفلسطينية الممثل الشرعي المعترف به دولياً.

ويمكن الوقوف على موقع القضية الفلسطينية في أفكار كل من الخميني وخامنئي من خلال كتاب قضية فلسطين للمرشد الإيراني علي خامنئي الذي نشر عام 2011 مع اندلاع التظاهرات الشعبية في عدد من الدول العربية مثل تونس ومصر وسوريا والبحرين. جاء الكتاب في أكثر من 500 صفحة ليعبر عن إدراك القيادة الإيرانية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، باعتباره تجميعاً لجميع أفكاره وخطاباته حول فلسطين.

خامنئي وكتاب قضية فلسطين

صاغ المرشد الإيراني علي خامنئي مصطلح "الصحوة الإسلامية" كمنهج للسياسة الخارجية، بهدف توظيفه بدلاً من مبدأ تصدير الثورة الذي يستثير حفيظة كل الدول المحيطة بإيران لما به من تدخل في الشؤون الداخلية للدول واستهداف لها. وقدم خامنئي المصطلح من خلال البناء على خطاب الخميني عن وحدة العالم الإسلامي، ويقصد بها أن إحياء الإسلام ليجتاح العالم، حيث تنتفض الدول ذات الغالبية المسلمة لمواجهة القوى "القمعية" و"المتغطرسة" في الغرب.

وتبلور المفهوم ليصبح جزءاً مهيمناً من السياسة الخارجية الإيرانية، واتصالاً بهذا الهدف تعقد طهران مؤتمراً سنوياً عن الصحوة الإسلامية، بحضور كثير من الزعماء الدينيين والسياسيين للبلدان ذات الغالبية الإسلامية.

تعمل إيران على تنصيب نفسها الوصي الشرعي ليس فقط على المسلمين الشيعة بل على العالم الإسلامي، وسعت الأيديولوجية الثورية الإيرانية إلى تعزيز الوحدة الإسلامية، ولهذه الغاية كانت طهران على مر التاريخ مستعدة لدعم الحركات والجماعات الإسلامية التي تتوافق مع أهدافها، وفي عام 2011 جاء كتاب خامنئي تحت مسمى "قضية فلسطين" لكنه لم يقدم أفكاراً وآليات وخيارات لحل وتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على نحو واقعي يضمن عودة حقوق الفلسطينيين بل حمل شعارات ليس لها هدف سوى ربط القضية الفلسطينية بالأفكار الثورية الإيرانية، أي إن الكتاب لم يتجاوز مجرد الشعارات التي لا تمت إلى واقع القضية وأطرافها والسياق الإقليمي والدولي بصلة.

ببساطة دارت الأفكار التي جاء بها خامنئي حول أن الكفاح لتحرير فلسطين هو من مبادئ السياسة الخارجية للخميني، وهي قضية إسلامية، ويستوجب الدفاع عنها من منطق الدفاع عن المستضعفين، وأنها جزء من قضية إيران وثورتها، وأنه لا بد من محو إسرائيل، وأن حل القضية الفلسطينية يرتبط بإزالة إسرائيل وأنه لا فرق بين أراضي ما قبل 67 وما بعدها.

من جهة أخرى تعتبر إيران أن القضية الفلسطينية مرتبطة بالصحوة الإسلامية التي تنادي بها طهران، ثم إن فإيران تدعم فلسطين على رغم التباين الطائفي والمذهبي، ومن ثم كان دعم الخميني وخامنئي محور المقاومة. ويظل الكتاب يكرر الأفكار ذاتها في 500 صفحة، لكن اللافت للانتباه هو إصدار الطبعة الأولى من الكتاب عام 2011 ومحاولة ربط ما به من أفكار بفلسطين وتظاهرات مصر والبحرين وسوريا، أي سعى إيران إلى توظيف الأزمات العربية لتصوير ذاتها بأنها محور المقاومة والثورة والتغيير، وأن ما شهدته تلك الدول هو بفعل تأثير الثورة الخمينية.

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية