في مدينة الخليل المحتلة بالضفة الغربية، تزدحم ورشة محمد أيوب الزعتري بالطبول مختلفة الأنواع والأشكال. ولا يزال الزعتري (55 عاماً) الشهير بأيوب، يتمسك بحرفة صناعة الطبول والدفوف التي ورثها عن آبائه وأجداده منذ أكثر من 30 عاماً، ليبدع في هذه الصناعة التي تواجه خطر الاندثار في فلسطين.
لم يتبق سوى الزعتري، الحرفي الوحيد الذي يقوم بصناعة الطبول في الأراضي الفلسطينية، بعد أن هجرها حرفيوها منذ أعوام لقلة مبيعاتها، ومنع تصدير منتجاتها إلى الدول العربية المجاورة، في ظل التضييقات الإسرائيلية المستمرة، وهو ما دفع بالعديد منهم للجوء لأعمال وحرف أخرى أكثر جدوى اقتصادياً وتحقق عوائد ودخلاً مالياً لهم.
اقرأ أيضاً: صيادو غزة يواصلون حياكة الشِباك
وعرفت فلسطين صناعة الطبول قبل أكثر من 4000 عام، منذ زمن الكنعانيين الذين خرجوا من شبه الجزيرة العربية وسكنوا فلسطين وتمركزوا في مدينة أريحا؛ حيث كانت تستخدم الطبول في تلك الفترة، ويتم الدق عليها لإبعاد الأرواح الشريرة، حسب المعتقدات السائدة آنذاك.
مراحل صناعة الطبول
يتحدث الزعتري لـ "حفريات" عن صناعة الطبول في فلسطين "التي شهدت ازدهاراً كبيراً في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؛ حيث كان هناك إقبال كبير على شراء الطبول بمختلف أنواعها وأحجامها، وكانت تستخدم في الأفراح الشعبية والمناسبات الدينية والاجتماعية لنشر الفرح والسرور بين الناس. أما الآن فقد تراجعت هذه الصناعة، نتيجة ما لحق بالحياة من تطورات عصرية، فصارت تراثاً من الماضي".
تختلف أسعار الطبول بحسب أنواعها وأحجامها كما يقول الزعتري فطبلة الفخار يختلف ثمنها عن الطبول الأخرى المصنوعة من الأخشاب
تعلم الزعتري هذه المهنة وأتقنها على يد والده "الذي كان يتمتع بشهرة كبيرة في صناعة الطبول بمدينة الخليل؛ حيث كان بارعاً في صناعتها، وكان يأتي إليه الناس من أنحاء فلسطين كافة". وبعد أن أنهك المرض والده، كما يروي أيوب، وأصبح لا يقدر على ممارسة المهنة "قام بتوريثها لي حتى أصبحت صانع الطبول الوحيد في فلسطين، وبقيت متمسكاً بها ليومنا هذا؛ باعتبارها جزءاً من الموروث الثقافي الفلسطيني، وللحفاظ عليها من الاندثار".
ويشرح الزعتري كيفية صناعة الطبول والدفوف: "في البداية يتم إحضار جلود الأغنام ونقوم بتنظيفها جيداً من أية شوائب بداخلها، ومن ثم يتم فرد الجلد يدوياً ووضعه في محلول من الملح والماء، وبعدها يتم إخراج الجلد من المحلول الملحي ووضعه تحت أشعة الشمس يوماً كاملاً لكي يجف جيداً قبل البدء بعملية استخدامه في صناعة الطبول المختلفة".
وبعد الانتهاء من عملية تجهيز الجلود، يتم إحضار الاسطوانة الخشبية التي تصنع من أفضل أنواع الأخشاب، "وذلك لضمان بقاء الطبول بمختلف أنواعها بحالة جيدة لأكبر فترة ممكنة دون أن تتعرض للتلف. وبعد ذلك يتم وضع الجلد على فوهة الطبلة، ويقص الجلد الزائد يدوياً، ثم توضع مادة لاصقة (الغراء) عند تركيب الجلد بعد أخذ المقاسات اللازمة للطبلة ليعطيها قوة وصلابة كبيرة، بهدف الحصول على النغمة الخاصة عند استخدام الطبلة" .
اقرأ أيضاً: رتق الأحذية في غزة.. شراء حذاء جديد ترف!
بعد وضع المادة اللاصقة تتم خياطة الجلد يدوياً باستخدام خيوط الحرير والإبرة المدببة "لإعطاء الطبلة مزيداً من القوة والمتانة. بعد ذلك تأتي مرحلة طلاء الطبول بالألوان الزاهية، أو الرسم عليها يدوياً باستخدام ألوان معينة تسمى الجواش، وأحياناً ما يتم الكتابة أو الرسم على الطبول التي يرغب الزبائن باقتنائها بحسب أذواقهم".
يدا نحات وأذنا موسيقي
هناك أنواع الطبول يقوم الزعتري بصناعتها، فضلاً عن الدفوف التي تصنع داخل الورشة، ومنها ما يُعلق على الكتف أو يُحمل بين اليدين، وبعضها يسند على الأرض، وتوجد طبول مصنوعة من الخشب وأخرى مصنوعة من الفخار. وتختلف أحجام واستخدامات كل نوع من هذه الطبول؛ فالطبول الخشب يكون زبائنها غالباً من السياح الأجانب وراغبي وضعها للزينة في المنازل، بينما الطبول الأخرى المصنوعة من الفخار فيستخدمها ويفضلها العازفون والموسيقيون، وخاصة المغطاة بجلد الماعز لتعطيهم أريحية أكثر في العزف والطبل عليها".
اعتمد مجلس الحرف العالمي التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) الخليل كمدينة حرفية للعام 2016
وتختلف صناعة الطبول من طبلة إلى أخرى، حسب نوعها والمادة الخام المصنوعة منها؛ حيث تستغرق الطبلة المصنوعة من الفخار يوماً كاملاً؛ لأنّ جسم الطبلة يكون جاهزاً ويتم شراؤه من قبل صانعي الأواني الفخارية، ويُكتفى فقط بوضع الجلد على فوهة الطبلة وطلائها أو الرسم عليها، أما الطبلة التي يتم صناعتها من الخشب فهي تستغرق يومين تقريباً، رغم مرورها بنفس مراحل الأنواع الأخرى".
ويؤكد الزعتري أنّ "صناعة الطبل ليست بالحرفة السهلة؛ فهي تحتاج إلى دقة ومهارة كبيرتين في صناعتها؛ لأنها تعتمد على الصناعة اليدوية من ألفها إلى يائها، ومن يعمل في صناعة الطبول يجب أن يمتلك يدي نحات وأذني موسيقي" مبيناً أنه لا يزال هناك طلب محلي "ولو كان ضعيفاً على اقتناء الطبول بمختلف أنواعها، باعتبارها رمزاً يعبر عن الحياة الثقافية والاجتماعية للمناسبات الفلسطينية كافة".
غزو الطبول المستوردة
تختلف أسعار الطبول، بحسب أنواعها وأحجامها، كما يقول الزعتري؛ فطبلة الفخار يختلف ثمنها عن الطبول الأخرى المصنوعة من الأخشاب. وعلى الرغم من ذلك فإنّ أسعار هذه الطبول منخفضة نسبياً مقارنة بأسعار مثيلاتها التي يتم استيرادها من الخارج؛ حيث يبلغ ثمن الطبلة متوسطة الحجم ما يقارب من 7 دولارات أمريكية فقط، في حين أنّ الطبول التي يتم استيرادها من الخارج وتكون بالحجم نفسه، يصل ثمنها غالباً إلى أكثر من 80 دولاراً أمريكياً.
وعلى الرغم من أنّ العمل في هذه الصناعة لا يحقق عوائد مالية جيدة لقلة المبيعات وغزو الطبول المصنعة من الألمنيوم والتي يتم استيرادها من مصر وتركيا إلى الأسواق الفلسطينية، "إلا أنني ما زلت متمسكاً بهذه الحرفة التراثية ولن أتخلى عنها، وسأحاول جاهداً إعادة هذه الحرفة إلى عصرها الذهبي الذي كان سائداً في فلسطين".
اقرأ أيضاً: الإعاقة الحركية لا تمنع ممارسة الكاراتيه في غزة
ويأمل الزعتري أن "تلقى هذه الصناعة دعماً ومساندة من قبل الجهات الحكومية الفلسطينية، من خلال قيامها بدعم هذه الحرفة، وحث الشباب على مزاولتها، والعمل بها لتجنب انقراضها، وتشجيع صناعة الطبول المحلية، ومنع استيراد مثيلاتها من الخارج، لتبقى هذه الحرفة مزدهرة وعلامة على عراقة التاريخ والتراث الفلسطيني".
ويؤكد المحلل الاقتصادي فضل أبو سنينة أنّ "الاستثمار الجيد من قبل السلطة الفلسطينية في هذه الحرف والصناعات التقليدية، من شأنه أن يؤدي إلى تنمية الدخل القومي الفلسطيني ورفده بالعملات الصعبة"، وذلك يتطلب، كما قال لـ "حفريات" تظافر الجهود الرسمية من خلال مساعدة الحرفيين وتشجيعهم على التمسك بحرفهم، فضلاً عن "تقديم تسهيلات ضريبة لهم، وتوثيق الصناعات التقليدية والتعريف بها عالمياً من خلال إقامة المعارض المختلفة التي تسلط الضوء على هذه الحرف لتطويرها والنهوض بها محلياً وعربياً وعالمياً".
وتعد مدينة الخليل مركزاً اقتصادياً مهماً على مستوى الضفة الغربية المحتلة، كما يقول أبو سنينة، من خلال اشتهارها بمجموعة كبيرة من الحرف اليدوية النادرة كصناعة السجاد اليدوي والخزف والفخاريات ودباغة الجلود والتحف الخشبية والتراثية، والتي "تهدف لتشجيع السياحة الداخلية والخارجية للمدينة وتنشيط الحركة التجارية فيها، وتحجيم القيود الإسرائيلية المفروضة على المدينة وسكانها منذ أعوام".
اقرأ أيضاً: 17 لاعباً من غزة يغيّرون قواعد كرة القدم
وينوه أبو سنينة إلى أنّ "البلدة القديمة بالخليل تواجه هجمة إسرائيلية واستيطانية كبيرة تهدف بالدرجة الأولى إلى تدمير المدينة اقتصادياً وتجارياً، من خلال إغلاق العشرات من الورش والمصانع الحرفية، وفرض القيود على تصدير المنتجات الفلسطينية من المدينة إلى الخارج، والتضييق على السياح العرب والأجانب ومنعهم من دخول المدينة".
واعتمد مجلس الحرف العالمي، الذي يتبع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، مدينة الخليل كمدينة حرفية للعام 2016، ليعزز هذه القرار صمود الحرفيين بالمدينة التي تزخر بالصناعات اليدوية منذ مئات السنين.