رتق الأحذية في غزة.. عندما يتحول شراء حذاء جديد إلى ترف!

فلسطين

رتق الأحذية في غزة.. عندما يتحول شراء حذاء جديد إلى ترف!


13/08/2018

في أحد أزقة سوق الزاوية وسط مدينة غزة وأمام محله المتواضع الذي يزدحم بالأحذية والحقائب البالية التي تناثرت بجميع أجزائه، يجلس الاسكافي ياسين عبيد (45 عاماً) منهمكاً في تصليح وخياطة زوجين من الأحذية في مهنة مايزال يداوم عليها منذ أكثر من 25 عاماً.

ويبدأ عبيد عمله بتثبيت القضيب الحديدي المعروف بالسندان بين قدميه؛ لوضع الحذاء المهترئ عليه تمهيداً لإعادته لهيئته السابقة، مستخدماً المطرقة الحديدية والمسامير المعدنية والصمغ الأصفر، قبل أن يقوم بخياطته بالإبرة المدببة والخيط المقوى بواسطة ماكينة قديمة أورثه إياها أبوه مع هذه المهنة التي تعمل بها عائلته منذ عقود طويلة.

إقبال متزايد

يقول عبيد لـ "حفريات" إنّ "الإقبال على إصلاح الأحذية من قبل المواطنين في ازدياد مستمر يوماً بعد يوم، وذلك مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمرّون بها، وانخفاض ثمن رتق الأحذية وخياطتها، مقارنة بشراء واقتناء الأحذية الجديدة التي تتميز بارتفاع أسعارها غالباً وسوء جودتها في كثير من الأحيان كالأحذية الصينية المستوردة التي أغرقت الأسواق الغزية".

ويضيف "نستخدم المسامير والغراء والخيوط المصنوعة من النايلون لإصلاح أحذية الزبائن البالية، وهي حرفة بحاجة إلى فن وإتقان خلال القيام بها، وخاصة أن درجات التلف تختلف من حذاء إلى آخر، وغالباً ما ينتاب بعض الزبائن الحزن الشديد لعدم مقدرتنا على صيانة أحذيتهم لتعرضها لأضرار وتآكلات شديدة يتعذر إصلاحها".

أضحت الأولوية للغزيين التركيز على المتطلبات الأساسية لهم وتقليص النفقات الثانوية بنظرهم

ويؤكد عبيد أنّ "هذه المهنة قلّصت كثيراً من نفقات الفقراء والأغنياء في قطاع غزة على السواء، بإعفائهم من شراء أحذية جديدة"، موضحاً أنّ كلفة تصليح زوج الأحذية تختلف حسب درجة التلف، لكنّها تتراوح غالباً من 2 شيكل إلى 7 شيكلات (دولارين أمريكيين)، وهذا الأمر، كما يقول "دفع المواطنين في غزة لتصليح أحذيتهم القديمة بدلاً من أن يقوموا بشراء أحذية جديدة متوسطة الجودة يتجاوز ثمنها في أفضل الأحوال 90 شيكلاً (25 دولاراً أمريكياً)".

شراء حذاء جديد متوسط الجودة يكلف الغزيّ في أفضل الأحوال 90 شيكلاً وهو ما يفوق قدرته

"لا نقتصر فقط على تصليح الأحذية، بل يشمل عملنا أيضاً صيانة الحقائب المدرسية وحقائب السفر الكبيرة، وخياطة الجلود، وصناعة الأحذية المتنوعة أيضاً" يقول عبيد، مبيناً أنّه يقوم بتصليح ورتق ما يقرب من 100 حذاء يومياً، "بعد أن شهدت الفترة الماضية كساداً وانخفاضاً ملحوظاً في الإقبال على محالّ رتق الأحذية، وذلك لاستقرار الأوضاع الاقتصادية وتحسن الوضع المعيشي للمواطنين قبل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة صيف العام 2006".

اقرأ أيضاً: صيادو غزة يواصلون حياكة الشِباك.. فبماذا ترد إسرائيل؟

ويبين عبيد أنّ إقبال الزبائن على محله يزداد عادة في فترة الأعياد الدينية والمواسم المختلفة كالمدارس والمناسبات الاجتماعية؛ حيث تلجأ عائلات غزية لرتق أحذية أبنائها بدلاً من شراء أخرى جديدة لهم، وكذلك تصليح الحقائب المدرسية البالية لأبنائهم، "وكثيراً ما نضطر للاستعانة بعمال آخرين للعمل لدينا لكثرة الطلب في هذه الأوقات من كل عام".

ضريبة الحصار

ودفعت الأوضاع الاقتصادية الصعبة في غزة والحصار المفروض عليه منذ أكثر من 12 عاماً، واشتداد إغلاق المعابر الفلسطينية مع "إسرائيل" إلى انتعاش صنعة رتق الأحذية "الاسكافي" في القطاع، بعد أن شارفت هذه المهنة التقليدية على الانقراض، وعزوف عدد من العاملين في هذه المهنة عنها، ولجوئهم لمهن وحرف أخرى أكثر جدوى.

الإقبال على الاسكافي يزداد عادة في فترة الأعياد الدينية والمواسم المختلفة كالمدارس والمناسبات الاجتماعية

ومع تقليص رواتب الموظفين إلى أدنى مستوياتها، فقد تغيرت الظروف الحياتية للسكان في قطاع غزة، وألقى ذلك بظلاله على الحياة المعيشية لهم، في ظل الأزمات المتتالية التي تعصف بالقطاع، وأضحت الأولوية للسكان حالياً التركيز على المتطلبات الأساسية لهم، وتقليص النفقات "الثانوية" بنظرهم.

وفي ظل هذه الاعتبارات اضطرت أعداد كبيرة من العائلات الغزية بمختلف شرائحها من الأغنياء والفقراء لإعادة تأهيل أحذيتهم القديمة وإصلاحها وتجنب اقتناء أحذية جديدة إلا عند الاضطرار، وتقليص مستويات نفقاتهم المالية بمختلف نواحي الحياة، مع اشتداد الأزمات الاقتصادية التي يعانيها القطاع، مما شجع عدداً كبيراً ممن تركوا مهنة الاسكافي على العودة إليها من جديد.

رتق الأحذية هي من المهن الشاقة وخاصة للعاملين فيها من كبار السن

مهنة شاقة

زهدي الجاروشة (35 عاماً) الذي يعمل في تصليح الأحذية منذ 20 عاماً يقول إنّ "رتق الأحذية هي من المهن الشاقة وخاصة للعاملين فيها من كبار السن؛ لأنها تتطلب الوقوف أو الجلوس لفترات طويلة، وهو ما قد يتسبب للشخص بأمراض كثيرة، كما أنّ هذه المهنة تحتاج إلى دقة وتركيز كبيرين لإرضاء الزبون وضمان عودته مرة أخرى".

اقرأ أيضاً: 17 لاعباً من غزة يغيّرون قواعد كرة القدم

ويضيف الجاروشة لـ "حفريات" أنّ هناك إقبالاً كبيراً من قبل المواطنين في غزة على محلات تصليح الأحذية، "حتى أنّنا نضطر أحياناً للعمل لساعات اضافية لتلبية طلبات الزبائن بإصلاح أحذيتهم المهترئة بشكل متقن، وخاصة مع إقبال السكان في غزة على شراء الأحذية متوسطة الجودة سريعة التلف وتجنب شراء الأحذية عالية الجودة لارتفاع ثمنها".

لا يقتصر الأمر على تصليح الأحذية بل يشمل أيضاً صيانة الحقائب المدرسية وحقائب السفر

ويشير إلى أنّ هذه المهنة تتطلب توخي الحذر أثناء العمل بها "خاصة أنّنا نتعامل مع ماكينات خياطة وآلات ومسامير حادة، فأي خطأ سيكلف الشخص ثمناً كبيراً، وقد يؤدي إلى إحداث جروح غائرة أو إلى فقدان أحد أصابع اليد، وهذا ما نسعى حثيثاً لتجنبه"، وفق الجاروشة.

وعن أبرز المشاكل التي تواجه مهنة رتق الأحذية يقول الجاروشة إنّ "الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي الذي يستمر لأكثر من 16 ساعة يومياً يعد من أهم المشاكل التي تواجهنا وتؤثر كثيراً على بقاء هذه المهنة، إضافة لارتفاع أسعار المواد الخام من حين لآخر، واجتياح الأحذية الصينية الرديئة للأسواق الغزية التي يصعب صيانتها غالباً لرداءة الخامات المصنوعة منها".

هذه المهنة قلّصت كثيراً من نفقات الفقراء والأغنياء في قطاع غزة على السواء

مواسم فرح تؤذن بالحزن

المواطن أحمد حجازي (35 عاماً) وهو موظف حكومي من مدينة غزة تحدث لـ "حفريات" بحسرة عن ترقبه لاقتراب عيد الأضحى والعام الدراسي الجديد الذي لم يبقَ عليهما سوى أيام قليلة، "لا تتوافر لدي مقدرة مالية لشراء ملابس وأحذية وحقائب جديدة لأبنائي وخاصة في ظل الغلاء الفاحش في الأسعار، وتقليص الرواتب التي يتقاضاها الموظفون بأكثر من 60%، والتي بالكاد تكفي لتلبية احتياجاتنا الأساسية".

اقرأ أيضاً: في غزة: مساجد بملايين الدولارات وفقراء بلا مأوى

ويؤكد أنّه لم يقم بشراء أي حذاء أو حقيبة مدرسية جديدة لأبنائه منذ أكثر من أربعة أعوام، "نلجأ إلى محلات رتق الأحذية لتأهيل الحقائب والأحذية القديمة والمستعملة؛ لأن الظروف الاقتصادية الحالية تحتم علينا القيام بذلك، فلكي يقتني طفلي الذي يبلغ من العمر 8 أعوام حذاء وحقيبة جديدين للالتحاق بالعام الدراسي الجديد فهو يحتاج لمبلغ 100 شيكل تقريباً (28 دولاراً أمريكياً) وهذا يفوق مقدرتي بالطبع".

ارتفعت نسبة الفقر بين السكان في غزة إلى 65% وبلغت نسبة البطالة 47%

ويتابع حديثه قائلاً "نجد ضالتنا بمحلات رتق الأحذية التي أضحت منتشرة بكثرة في غزة لازدياد الطلب عليها، وذلك لتصليح أحذية وحقائب أبنائي؛ حيث تتميز هذه المحال بجودة عالية في عملها وانخفاض كلفتها، فأجرة تصليح الحذاء الواحد مع خياطته لا تتجاوز 4 شيكلات (دولار أمريكي واحد)، وهو ما جعل هذه المحلات قبلة جميع شرائح المجتمع دون استثناء؛ لأنهم أصبحوا يتوقعون الأسوأ لقادم الأيام ولا يتفاءلون خيراً بها، وخاصة مع اشتداد الحصار والإغلاق المستمر للمعابر".

وبحسب إحصائية صادرة عن المركز الفلسطيني لحقوق الانسان خلال العام 2017، ارتفعت نسبة الفقر بين السكان في غزة إلى 65%، وبلغت نسبة البطالة 47%، في حين أنّ 80% من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات الخارجية لتوفير متطلباتهم المعيشية، في ظل الحصار المتواصل على القطاع منذ عدة سنوات والذي يمثل انتهاكاً واضحاً لحقوق الانسان.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية