بعد تدمير مئات المساجد أثناء الحروب الإسرائيلية الثلاثة على قطاع غزة، انتشرت ظاهرة بناء المساجد الفارهة في القطاع المحاصر؛ حيث شُيّدت مؤخراً مساجد تضم عدة طوابق، ذات تصاميم هندسية مبالغ فيها، وهو أمر يضع علامات استفهام كثيرة من قبل المواطنين في القطاع، عن جدوى صرف ملايين الدولارات لبناء هذه المساجد مع وجود آلاف العائلات الغزية المشردة، التي هدمت إسرائيل منازلها وتنتظر إعادة بنائها منذ أعوام، أو الذين تم طردهم من بيوتهم المستأجرة، لعدم قدرتهم على سداد إيجارها، ولم يجدوا سبيلاً سوى افتراش الأرض والتحاف السماء في خيام أو "كرفانات"، تفتقر لأدنى مقومات العيش، ولا تقي من حرّ الصيف أو برد الشتاء.
مدير العلاقات العامة بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بغزة رمزي النواجحة: هناك أكثر من 1000 مسجد في القطاع
حال هؤلاء الفقراء والمنكوبين مأساوي ولا يحسدون عليه، ويفتح فصلاً جديداً بالنسبة إليهم من فصول المعاناة، حتى باتوا اليوم منسيين، ولا آفاق واضحة لحلّ مشكلاتهم، في ظلّ تجاهل الحكومة في غزة لمطالبهم، والاكتفاء ببذل الجهود وجمع التبرعات لتشييد مساجد ضخمة تستنزف ملايين الدولارات، وتتجاهل مشكلات هؤلاء المنكوبين، وتبقيهم دون حلول مستقبلية وعاجلة.
عائلات بلا مأوى
يتساءل المواطن منير غنام (40 عاماً) من سكان حي الشجاعية، الذي اضطر إلى ترك منزله المستأجر لعدم مقدرته على سداد المبلغ المتراكم عليه لصاحب المنزل، عن سبب بناء بعض المساجد في قطاع غزة بتكاليف باهظة، وترك آلاف العائلات دون مأوى، مبيناً أنّ المساجد هي للعبادة فقط، وليس للمباهاة والتفاخر، وعلى الحكومة أن تقوم بتوجيه المتبرعين لبناء بيوت الفقراء والمحتاجين وأصحاب المنازل المدمرة، الذين تقطعت بهم السبل".
يقول غنام لـ "حفريات": "منذ عدة أعوام، أطرق أبواب المسؤولين في غزة، كي يتم إيجاد حلٍّ لمشكلتي، لكن دون جدوى، ما اضطرني إلى تشييد خيمة من القماش في أحد الشوارع بمدينة غزة للمبيت بداخلها، مع أسرتي المكونة من 7 أفراد، تحت أشعة الشمس الحارقة، وفي ظل هجمات القوارض والحشرات والكلاب الضالة علينا أثناء الليل، ما أدّى إلى إصابة عدد من أفراد أسرتي بأمراض جلدية مزمنة".
مواطن من غزة: أطرق أبواب المسؤولين في غزة لكن دون جدوى فلجأت لخيمة من القماش في أحد الشوارع
ويشير إلى أنّ "قطاع غزة ليس في حاجة إلى بناء المزيد من المساجد؛ فمعظمها لا يبعد عن الآخر سوى أمتار قليلة، ولا تجد إلا أعداداً محدودةً من المصلّين بداخلها، فتكلفة بناء مسجد واحد من شأنه إعادة الأمل والحياة إلى مئات الأسر المشردة، التي لا مفرّ لها إلّا المكوث في الشوارع، أو داخل الكرافانات المعدنية، التي لا تصلح للعيش، وتفتقر لأدنى الاحتياجات فيها".
ويأمل غنام في أن يستطيع يوماً ما العيش وأسرته بحياة كريمة وآمنة، وأن يمتلك منزلاً مستقلاً يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء، ليجد نهاية سعيدة تزيل الظروف الصعبة والقاسية التي يعيشها حالياً.
وبحسب إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، عام 2017؛ فقد بلغت نسبة الفقر في قطاع غزة 53%، وهي تفوق نسبة الفقر في الضفة الغربية بحوالي أربعة أضعاف، التي تبلغ نحو 13.9%، وبلغ معدل البطالة في القطاع 43.9%.
المماطلة في بناء منازل المواطنين
توزيع الإسمنت ليس عادلاً في غزة، هكذا بدأ المواطن تيسير الجمال (50 عاماً) من مدينة غزة شكواه لـ "حفريات"، حيث ينتظر منذ عدة أعوام إعادة بناء منزله المدمر في حرب 2014، بحسب نظام ما يعرف بـ "السيستم". إلا أنه حتى هذه اللحظة لم يتم إنشاء منزله، ويتساءل عن كميات الإسمنت التي تدخل غزة لبناء المساجد الذي يستنزف مئات الأطنان، في وقت يفتقد المواطنون المدمرة منازلهم لكيفية الحصول على الإسمنت لبناء منازلهم.
ما الأهم صرف ملايين الدولارات على بناء مساجد كبيرة وضخمة بملايين الدولارات أم عمل مشروع سكني للمحتاجين؟
ويردف: "حركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2007، هي من تقوم بتزويد تلك المساجد بالإسمنت اللازم لبنائها، من خلال تحكمها بالكميات الواردة إلى قطاع غزة، باعتبارها الجهة المخولة والحاكمة في القطاع، بالتالي؛ فإنّ ذلك سيؤدي إلى التأخير والمماطلة في بناء منازل المواطنين المدمرة منذ أعوام".
ويدعو الجمال إلى "وقفة جدية من قبل المسؤولين في غزة، كي يتم النظر في معاناة المواطنين المدمرة منازلهم، الذين ينتظرون أعواماً للحصول على الإسمنت اللازم لبنائها، وأن يتم تخصيص مواد البناء لتشييد المنازل، بدلاً من بناء المساجد الفارهة والمزخرفة".
عجز وزارة الأوقاف
"حفريات" توجهت إلى مدير العلاقات العامة بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بغزة، رمزي النواجحة، الذي أكد وجود "أكثر من 1000 مسجد في قطاع غزة، تشرف وزارة الأوقاف على 920 منها فقط، والمساجد المتبقية تقع تحت إشراف دار القرآن الكريم والسنّة، التي تقوم ببنائها وترميمها دون الرجوع لوزارة الأوقاف".
اقرأ أيضاً: الغزيّون بعد حادثة السفير القطري: أين ذهبت حماس بأموال الدعم؟
ويوضح النواجحة أنّ "معظم المساجد في غزة، والتي تكلف مبالغ باهظة لبنائها، تشيَّد من قبل متبرعين، أو رجال أعمال، كصدقة جارية، أو ما شابه، وليست من ميزانية وزارة الأوقاف المباشرة، ولا نستطيع ثنيهم عن ذلك، لكن يقتصر دورنا في أغلب الأحيان على تخصيص قطعة أرض مناسبة في أحد الأحياء، والمناطق التي تخلو من المساجد كي تتم عملية البناء فيها".
ويتابع: "مبدأ بناء المساجد وحرية العبادة أمر كفله القانون، وفي قطاع غزة يوجد العديد من المساجد التي دمرتها إسرائيل خلال الحروب الإسرائيلية الأخيرة، التي بلغت أكثر من 100 مسجد تم تدميرها بشكل كلّي، و197 مسجداً تم تدميرهم بشكل جزئي؛ حيث تكفلت الجمهورية التركية ببناء وترميم جميع المساجد بقطاع غزة".
الإسراف في بناء المساجد
عميد المعاهد الأزهرية في فلسطين، عماد حمتو، يقول إن "الإسراف في زخرفة وبناء المساجد صفة مذمومة، ومن علامات الساعة التي نهى الإسلام عنها في أحاديث ومواضع كثيرة، فالمساجد تعمر بالطاعة وعبادة الله، ويجب أن تكون هناك موازنة وتواضع في بناء المساجد، وألّا تخرج عن نطاق المألوف".
يقول حمتو لـ "حفريات": "يجب تشجيع المتبرعين على بناء الإنسان الذي كرمه الله، وعدم الاقتصار على بناء المساجد فقط؛ فقد يتم بناء مدارس ومستشفيات وعيادات صحية، وكلها صدقة جارية ولها الأجر والثواب، كما يجب الانتباه للعائلات المحتاجة في غزة، وبناء منازلهم المدمرة أولاً، من ثم الانتباه لتشييد المساجد".
وفي نظره، فإنّ "بناء المساجد وتجهيزها للمصلين، من الإحسان، ويترتب عليه الثواب العظيم، لكن إذا كان المجتمع ليس في حاجة إلى بناء المزيد من المساجد، فيجب أن يقوم المسؤولون على حثّ المتبرعين لتوجيههم بالمساهمة في بناء بيوت الفقراء والمشردين، الذين يفترشون الشوارع العامة، بعد أن تم طردهم من المنازل لعدم قدرتهم على سداد إيجارها".
استنكار وتساؤلات
واستنكر عدد من المواطنين في قطاع غزة، من خلال تدوينات تم نشرها على شبكة الإنترنت، بناء المساجد على طراز مكلف، في وقت تحتاج فيه محافظة رفح جنوب قطاع غزة، التي يسكنها قرابة 120 ألف نسمة، إلى مستشفى لتلبية احتياجات سكان المدينة، حيث عانت المحافظة، خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، بسبب حجم القصف والدمار الذي طال بيوت المواطنين، مما اضطر السكان إلى وضع جثث شهدائهم في ثلاجات الخضار والفواكه، لعدم وجود مستشفى مركزي فيها.
ورصدت "حفريات" أبرز ما نشره هؤلاء؛ إذ يتساءل أحدهم: "ما الأهم صرف ملايين الدولارات على بناء مساجد كبيرة وضخمة بملايين الدولارات، أم عمل مشروع سكني للأسر المحتاجة التي تسكن بيوت الإيجار، أو مشاريع لتغطية ظاهرة العزوف عن الزواج بسبب الغلاء وعدم توفر شقق سكنية؟!".
وتساءل معلق آخر: "ما فائدة بناء مسجدين كبيرين بملايين الدولارات في الحيّ نفسه! وربما في الشارع نفسه! يا عالم، لا يعقل أن يكون في حي (كالذي أسكن فيه) أكثر من 8 مساجد، لا يبعد الثاني عن الآخر مسافة 100 متر!
تذكروا جيداً أنّ التزيين المبالغ فيه للمساجد ليس من الإسلام في شيء، فالمسجد بقدسيته وليس بالزينة والمكيفات وخلافه".