عدلي صادق
أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رغبته في “علاقات أفضل” مع إسرائيل، وجاء توقيت هذا الإعلان لحظة خروج الرجل من صلاة الجمعة. أي من قلب الأيديولوجيا ومن عتبة “آيا صوفيا” التي استعادها أردوغان مسجدا في نهاية مارس 2019 وأسمع الناس ـ بصوته ـ التلاوة الأولى بعد الفتح الثاني، فتهلل له المريدون واستبشروا بـ”انتصارات” أخرى وشيكة.
في يوم الجمعة 25 ديسمبر 2020 كان المريدون من “الإخوان” ينتظرون من الرئيس التركي كلمات ساخنة، شبيهة بكلماتهم النازلة في ساحة المطبّعين العرب. لكن أردوغان حاول استرضاء الرهط الكريم بعبارة مقتضبة غير أيديولوجية، لتذكير إسرائيل بأن “العلاقات الأفضل” معها لا تزال مرتجاة، لكنها تتعرض للعرقلة، من خلال سياستها “غير المقبولة” تجاه الفلسطينيين. ولم ينس في التصريح نفسه التأكيد على أن العلاقات الاستخبارية التركية – الإسرائيلية لم تتوقف في أي مرحلة.
السؤال الآن: طالما أن العلاقات الاستخبارية لم تتوقف، وأن مشكلة أردوغان مع إسرائيل هي معاملة الفلسطينيين أو سياستها حيالهم، أي أنها ليست قضية استلاب وطن وإنكار حقوق أساسية فيه؛ فلماذا لا يُقاس هذا المنطق بالمسطرة نفسها التي قيست بها اتفاقيات التطبيع الأخرى؟
إن كان أردوغان يعاتب، فلمَ يكن هو مخترع مثل هذا العتب في تاريخ العلاقات التركية – الإسرائيلية. ففي مرحلة الحكم الملتزم بمبادئ أتاتورك، حدث ما هو أكثر من ذلك. بل إن ردود أفعال أنقرة في مناسبات التوتر في العلاقة التركية ـ الإسرائيلية، كانت أشد من ردود أفعال أردوغان على الحروب التي شنتها إسرائيل ضد غزة، أو هجومها بحرا على السفينة مرمرة وقتل مواطنين أتراك متضامنين مع غزة المحاصرة.
ففي نوفمبر 1956 سحبت أنقرة سفيرها من إسرائيل احتجاجا على العدوان الثلاثي، دون أن تكون إسرائيل قتلت أتراكا، بل تشددت في شروط إعادة سفيرها، وطالبت بحل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفق مقررات الأمم المتحدة. لذا فإن الجديد التركي المبشر الذي يتوهّمه الأصوليون من حكم أردوغان لا يقوم على منطق، بحكم أن سياسة الدولة التركية تلتزم مسارها الاستراتيجي الموصول بخطط ووظائف حلف شمال الأطلسي مع بعض المراعاة لمشاعر الشعب التركي حيال مسلمي فلسطين والبلاد العربية.
في الموضوع الفلسطيني الذي يجعله الأصوليون قاعدة التخوين والمديح، لم يخرج أردوغان عن الخط التطبيعي القديم. فها هو يخرج من المسجد الأثير بعتاب لإسرائيل مرفقا بالتذكير البليغ أن العلاقات الاستخبارية معها لم تنقطع. فلمصلحة من كانت هذه العلاقات وضد من؟
أردوغان يلعب في الهامش المتاح له، ولكل نظام سياسي تجمعه بإسرائيل علاقات طبيعية راسخة، هامش للخلاف. لكن طريقة اللعب التي اختارها، هي أن يرتبط دفء العلاقة مع تل أبيب بسياستها، وهذا يعني موضوعيا أن شنّ إسرائيل الحرب على شعب وممارسة القتل الرقمي بالقصف الجوي لا يوفران مناخا لعلاقات دافئة. وفي الحقيقة ليس في هذا الأمر مأثرة “إسلامية” لأن الولايات المتحدة نفسها كانت تدين قتل الأبرياء وتتحدث عن “الاستخدام المفرط للقوة”. أما أوروبا فكانت تدين بأشد العبارات!
يستند أردوغان في خطابه السياسي إلى قضية فلسطين، سعيا إلى الرواج والربح الانتخابي. وكلما مرّ وقت أطول على حكمه يصبح أكثر حاجة إلى الخطاب المتاح له، ولأقصى درجة في الموضوع الفلسطيني. وهذا هو الموضوع الذي يقف فيه عند حدود معيّنة، ولا يذهب فيه بعيدا مثلما عليه الحال بالنسبة إلى الموضوع الأيديولوجي وتمظهرات التقوى والتلاوة. لذا تراه يخترع لنفسه تعبيرات مثل “سياسة الربط القوي” بين سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين ودفء علاقاته معها.
الشعب التركي، سواء كان الحاكم أردوغان أو غيره، لديه عاطفة قوية تجاه فلسطين، وهذا أمر استثمره أردوغان وتفاعل معه دعما لمشروعاته الخارجية، لاسيما وأن سياسة اليمين الإسرائيلي المجافية للتسوية والمتمسكة بالاحتلال قد ساعدت على ذلك.
وفي الحقيقة، لم يكن هذا الوقت هو المناسب بالنسبة إلى أردوغان لكي يُعرب فيه عن رغبته في نقل تركيا إلى علاقات أفضل مع إسرائيل. فلم يكن في حاجة إلى استرضاء إسرائيل وتطيير العتاب لها ومنحها مثل هذا التصريح الذي لم تظفر به السعودية أو مصر أو الإمارات. فكأن الصراع بين أنقرة والقاهرة مثلا، تناحري بينما الخلاف مع تل أبيب يتعلق بمحض أسلوبها حيال الفلسطينيين ولم يؤثر على العمل الاستخباري المشترك.
لقد وضع أردوغان بصراحته في الإعراب عن رغبته في علاقات أفضل مع إسرائيل كل جماعات الإسلام السياسي أمام حقائق وخيارات يصعب عليها تجاوزها أو التعاطي معها. بل يمكن أن نذهب إلى القول إن هذا الضليع صاحب التجربة العميقة في العلاقة مع تل أبيب، يريد مساعدة المعجبين به على تطبيع حواسهم مع فكرة التصالح مع إسرائيل التي ينكرون مشروعيتها، قياسا على المدركات والحقائق الأولى التاريخية للقضية الفلسطينية. في هذه الحال يتوجّب على هؤلاء التوقف عن إدانة وتخوين الآخرين، لأن مثل هذا المنطق لا يسعد أردوغان باعتباره مطبّعا ومتعاونا استخباريا وثابتا على علاقة استراتيجية معها.
من نافل القول، أن منهجية “الإخوان” منذ بداية تأسيسهم، لم تكن تشترط التحالف على قاعدة الطهرانية السياسية والوطنية، المتعارضة مع النفوذ الغربي (وفي ثناياه التواجد الإسرائيلي المستتر في أوطان المسلمين). فالعكس هو الصحيح، إذ وقفت الجماعة، على مرّ تاريخها، ضد القوى الراغبة في تصفية نفوذ الاستعمار القديم، وتصادقت مع حلفائه التقليديين ووقفت معهم. وربما يكون هذا من بين الطبائع الانتهازية، التي تجعل تطبيع أنقرة مع تل أبيب حميدا وتطبيع الآخرين خبيثا.
عن "العرب" اللندنية