أربعة مصطلحات أسَّست مسار التكفير والعنف

أربعة مصطلحات أسَّست مسار التكفير والعنف

أربعة مصطلحات أسَّست مسار التكفير والعنف


26/10/2022

عمار علي حسن

لم يسرِ كتابٌ في أوصال التصورات السياسية الإسلامية المعاصرة مثلما فعل كتاب «المصطلحات الأربعة في القرآن» للهندي أبي الأعلى المودودي، لا سيَّما أنه يمثل جوهر الفكرة التي قام عليها كتابٌ آخر هو «معالم في الطريق» لسيد قطب، الذي يعدُّ “مانيفستو” تنظيمات ما تسمَّى “السلفية الجهادية” التي تتفاوت في قوتها، وانتشارها، لكنها تؤمن جميعًا بالتغيير العنيف.

وهذا الكتاب هو في الأساس رسالة ألفها المودودي سنة 1360هـ ـ 1941م، وهو عبارة عن مقالاتٍ نُشرت متتابعة في مجلة “ترجمان القرآن”، أراد بها مؤلفها أن يضع الشروط أو القواعد التي تُوصف على أساسها جماعةٌ ما بأنها تمثل صحيح الإسلام في نظره، زاعمًا أن المصطلحات الأربعة؛ وهي (الإله ـ الرب ـ العبادة ـ الدين)، وبالطريقة التي عرضها بها أو شرحها، هي أساس القرآن الكريم، وقوام دعوة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ورسالته، وهي في الوقت نفسه تمثل الإطار الذي تلتزم به “الجماعة الإسلامية في الهند”، وتتميز به عن غيرها.

ويقول المودودي “لا بد لمن أراد أن يدرس القرآن، ويسبر غور معانيه، أن يتفهم المعاني الصحيحة لكل الكلمات الأربع، ويتلقى مفهومها الكامل الشامل، فإذا كان الإنسان لا يعرف ما الإله، وما معنى الرب، وما العبادة، وما تطلق عليه كلمة الدين فلا جرم أن القرآن كله سيعود في نظره كلامًا مهملًا، لا يفهم من معانيه شيء”، فيوحي بقوله هذا إلى أنه سيعمل على تنقية العقيدة الإٍسلامية مما شابها، لكنه في الحقيقة كان يؤسس لتصور سياسي استعلائي واستغلالي في آن، يستعلي على الناس بمن فيهم سائر المسلمين، ويستغل الإسلام نفسه في خدمة هدف سياسي محض.

ربما كان تصور المودودي هذا، يرمي في البداية إلى الدفاع عن المسلمين في وجه الهندوس، لكنه لم يلبث أن صار بعد انفصال باكستان، يمثل دفعة قوية في مشروع ما يسمى “الإسلام السياسي” في كل بلدان المسلمين، لا سيَّما العربية منها، حيث أعاد قطب صياغة تصور المودودي، ومنحه من قريحته الأدبية جزالةً وسلاسة وقوةَ مجازٍ واستفاضة، خاصة في «ظلال القرآن» نجحت في لفت الانتباه، وجذب الأنصار، لاسيَّما من أولئك الذين يبحثون عن موقفٍ حاد، أو يستسلمون لسحر البيان.

ومما زاد من تسيسس مصطلحات المودودي الأربعة هي أنها قد وُلدت في سياق تحضر فيه السياسة بقوة، إذ وقتها كانت الهند لا تزال تحت الاحتلال الإنجليزي، وكانت الصراعات بين المسلمين والهندوس على أشدها، وكان الإنجليز يمارسون تطبيق سياسة “فرِّق تسُد”، ويحرصون على أن يظل المسلمون في حالٍ من الرضا والتسليم بأوضاعهم البائسة، يمارسون طقوسهم الصوفية التقليدية، شأنهم شأن الهندوس الراضين بالفقر المدقع، الذي يبررونه على أسس من الهندوسية.

وفي سبيل تغيير هذا السياق، بحيث ينتقل من السكينة إلى الثورة، ومن الرضاء إلى الغضب، قام المودودي بسحب قضايا عقدية بحتة إلى مساحة السياسة، فتحولت من عقيدة دينية إلى عقيدة سياسية؛ أي “أيديولوجيا”، وهو أمر كان يمكن أن يقوم من خلال طرح المسلمين مشروعًا سياسيًا مدنيًا، يدافع عن حقوقهم في وجه الإنجليز والهندوس، لكن كتاب «المصطلحات الأربعة» لم يلتفت لهذا، إنما أنتج مشروع حكمٍ دنيويٍّ يلبس لبوسًا دينيًا، فصار كل مصطلح مسكون ومشحون بدلالاتٍ سياسية ظاهرة.

فمصطلح “الإله”، سرعان ما ينزل من إقرار بسلطان الله على الوجود كله، بحيث لا يكون الخضوع إلا له، إلى ربط هذا بشريعة يجب اتباعها، لأنها هي “قانون الله”، وبذا فمن لا يتبعها، ويُذعن لها، يكون غير مقر بألوهية الله سبحانه وتعالى، ويكون مشركًا به، يضع بشرًا في المرتبة نفسها، حين يتبع القوانين الوضعية التي يسنها مشرعو الدولة الحديثة.

بذا تصبح “الألوهية” التي يتصورها ويتداولها المسلمون المعاصرون ناقصةً، غفلة منهم أو جهلًا، ويصبح ما يسود هو شرك مقنع، إذ تلهج الألسنة بذكر الله، وإعادة كل شيء إليه، بينما السواعد تتبع غيره، وتتخذ منهم آلهة لها، ومن هنا تتعدد الأرباب على قدر ما يظن المرء أن أمره بأيدي بعض البشر، فيعيد بذلك توثين هؤلاء الناس أو تصنيمهم، على غرار ما كان في الجاهلية، بل إلى ما هو أسوأ، لأن الجاهليين، في نظره المودودي -ويا للغرابة-  كانوا يفهمون معنى الألوهية بطريقة أكثر وضوحًا.

 ومثل هذا التصور يخلق ثلاث مشكلات عويصة، الأولى هي فتح باب التكفير على مصراعيه، والثانية هي إعطاء بعض البشر حق التحدث باسم الله، أو واجب القيام بتطبيق شريعته دون سائر المسلمين، والثالثة هو سحب جماعة من المسلمين لتنعزل عن البقية، باعتبار هذه الجماعة المتصورة هي التي تمضي على الطريق المستقيم.

ومصطلح “الرب”، وبعد استعراض اشتقاقه اللغوي وتاريخيته، ينتهي المودودي إلى القول “من يظن جزءًا من أجزاء الربوبية راجعًا إلى أحد من دون الله، أو يرجعه إليه، بأي وجه من الوجوه، وهو يعيش في هذا النظام، فإنه يحارب الحقيقة، ويصدف عن المواقع، ويبغي على الحق، ويلقي بيديه إلى التهلكة والخسران”، وهذا الوصف لكل من لا يرى الربوبية على النحو الذي رآه صاحب «المصطلحات الأربعة» يمعن في فتح الباب إلى تجهيل الناس وتفسيقهم، بل تكفيرهم.

ولم يخل مصطح “العبادة” من تسييس أيضًا، فهو يرتبط لدى المودودي بالعبودية والطاعة والتأله، وكل هذا لا يكون إلا لله وحده، أما اقتصار العبادة على جانب من هذا فقط فمعناه لديه خروج عن شمول القرآن، أو تبني تصور ضيق محدود له، ومن يفعل ذلك فإنه “لن يتبع تعاليمه إلا اتباعًا ناقصًا محدودًا”، أي أن إسلامه أو إيمانه لا محالة منقوص.

أما مصطلح “الدين”، فهو غارق وفق رؤية المودودي في السياسة إلى ناصيته، إذ أنه عنده نظام كامل وشامل للحياة بشتى نواحيها، الاعتقادية والفكرية والخلقية والعملية، ويبني في هذا على ما كان سائدًا من تعريفٍ للمصطلح في تاريخ العرب، إذ أنه كان يعني عندهم القهر والغلبة من ذي سلطان، والإطاعة من قبل خاضع للسلطة، وإقامة الحدود وتطبيق القوانين التي يجب اتباعها، والمحاسبة والقضاء والجزاء والعقاب. وبذا يكون قد ألزم الإسلام بمشروع الجاهلية، أو جعل الأخير محور ارتكاز مشروعه السياسي، وهذا ليس صحيحًا.

إن هذا الكتاب يؤسس في حقيقته إلى التمايز عن الجماعة الوطنية أو هجرها، فالمودودى لم يقبل اندماج مسلمي الهند، وهم الأقلية، في الأغلبية غير المسلمة، ورفض المشروع القومي الذي كان يقوم على الاستقلال عن بريطانيا، ثم بناء دولة قومية متعددة الأديان، وهو إن لم يبين هذا صراحة في كتاب «المصطلحات الأربعة» فإنه أجلاه، ودون لبس، في كتاب آخر له عن “الإسلام والمدنية الحديثة”، حيث أعلنها صريحة: “إني أقول للمسلمين بصراحة إن الديمقراطية القومية العلمانية تعارض ما تعتنقون من دين وعقيدة… ولا انسجام بينهما في أمرٍ مهما كان تافهًا، لأنهما على طرفي نقيض”.

وهذا التمايز يتطلب عند المودودي إقامة الحكومة الإسلامية، التي تتأسس على حاكمية الله في الأرض، باعتبار أن “السلطة السياسية” هي التي تمثل جوهر الإسلام، ويجب أن تخدمها أو تقود إليها سائر التعاليم والأركان والفروض والسنن والتفاسير والمقولات والتصورات، لتصبح علاقة العبد بربه مسنودة بشكلٍ ظاهر وغليظ إلى السلطة والسيادة، ويصبح وجود حكم مستقل بنفسه خرافة دنيوية، أو تفلت بشري ممقوت.

كما يؤسس هذا الكتاب، عبر قراءة المودودي الملتوية لآياتٍ من القرآن الكريم، لفكرة “الحاكمية”، التي تترادف مع الربوبية، بوصف الله هو المالك المطلق للكون وحاكمه، ومدبر أمره. وهذا أمرٌ لا غبار عليه إن اقتصر على المسائل العقدية، التي تجعل الإنسان يؤمن بأنه أجله ورزقه وشأنه، في يد الله تعالى، لكن جره إلى السياسة يؤدي بالضرورة إلى عدم قيام صلة الإنسان بربه على أنها علاقة خالق بمخلوق، إنما هي علاقة حاكم بمحكوم، ما يجعل الإسلام، بل الإيمان، على رحابته ضيقًا حرجًا، ويفرغه من جوهره، لأن الحاكمية، لا تقف، وفق تفسيرنا لرؤية المودودي هذه، على تحكم الله في الكون، وآياته الكبرى، إنما تذهب إلى أدق التفاصيل، التي تخلق بطبعها أناسًا يزعمون أنهم هم من يفهمونها، وأنهم القيِّمون عليها، ولذا ينتقل الإذعان من سلطان الله إلى سلطان قلة من البشر.

ويقع المودودي هنا في ثلاثة أخطاء وَصَمَت تصوره هذا، أولها أنه يجرد الإسلام من روحانيته وخلقيته، ويعرضه بالكلية على أنه مشروع سياسي ظاهر، ليس على الروحانية والخلقية فيه من دور سوى خدمة السلطة السياسية. وثانيها أنه ينزع عن غيره فهم القرآن الكريم منذ نزوله وحتى العصر الحديث، وينظر إلى تاريخ المسلمين على أنه مؤامرة على القرآن، والأمر في الواقع لم يكن على هذا النحو، فحتى الغلاة والمتشددين يحيلون إلى سابقين يرونهم قد فهموا الإسلام فهمًا صحيحًا، وصنعوا إطارًا أو مرجعية يجب العودة إليها. والثالث هو أن المودودي قد عزا انحراف الناس عن القرآن، بعد تطبيقه في صدر الإسلام، إلى جهلهم باللغة العربية، وهذا اتهام لا يجدر به هو أن يسوقه أو يلقيه هكذا على عواهنه، وبهذا الاختزال أو التبسيط المخل، فالمودودي، ومهما أوتي من المعرفة، لا يمكنه، وهو الهندي، أن يفهم لغة القرآن وتفاسير آياته مثلما يفهمها علماء ثقات يتقنون العربية، عكفوا على تفسير القرآن وتدقيق معانيه ومراميه.

أما الذين نقلوا عن المودودي، وتأثروا به، وعلى رأسهم سيد قطب، فقد وقعوا في ثلاثة أخطاء أيضًا، الأول يرتبط بطبيعة السياق الذي ألف فيه الرجل «المصطلحات الأربعة» وعرضها على هذا النحو، فهي قد ولدت من رحم بيئة اجتماعية مضطربة تعاني من انقسام حاد، وهي تختلف عن البيئات السائدة في جل بلاد المسلمين والعرب، حيث يمثل من يدينون بالإسلام أغلبية عددية، وتطبق فيهم الشريعة، لا سيَّما في أحوالهم الشخصية. والثاني يهمل ما للعقل من دورٍ كبير في تدبير معاش الناس على سنن حديثة، يصنعها واقع اجتماعي يتجدد بلا هوادة. أما الثالث فيتعلق بإهمال الانتقادات التي وجهت إلى كتاب المودودي، ومنها تلك التي ساقها أبو الحسن الندوي ووحيد الدين خان، لتستعاد «المصطلحات الأربعة» وكأنها “قول فصل” غير مجروح، وتتماهى في أدبيات الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، لا سيَّما من يميل منها إلى العنف.

عن "عين أوروبية على التطرف"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية