الحب ينتصر على لون البشرة في "حارة السمران" بغزة

فلسطين

الحب ينتصر على لون البشرة في "حارة السمران" بغزة


28/05/2018

امتزاج الأبيض بالأسود مقبول في قطاع غزة في كل شيء، ما عدا الزواج، وهي عادة ظل الغزيون متمسكين بها على مدار سنوات عدة، حتى جاء من حطم القاعدة، وتجاوز خطوطاً لم يكن مسموحاً بتخطيها.

في غزة هناك حارة يقطنها أحد عشر ألف نسمة، يطلق عليها "حارة السمران"، جميع أفرادها من أصحاب البشرة السوداء الداكنة، ولا يسمح بقبول أبيض اللون بينهم، حتى إنّ أهالي غزة البيض حكمتهم عاداتهم بالحرج من إنشاء علاقات زواج مع هؤلاء.

تريد أن تخطب لابنها فتاة بيضاء وشقراء أسوة بنساء أشقائه ولكن قلبه لا يفرق بين سمراء وبيضاء

هذه العادات لم تدم بفعل الاختلاط بين اللونين في سائر مجالات الحياة، واقتراب الكثير من العيش بجوار "حارة السمران"؛ فقد تمكن عدد من الشباب والفتيات من كلا اللونين من الارتباط والزواج؛ ولكنها حالات فريدة ومعدودة، وفي ذات الوقت ملفتة للنظر، تماماً كقصة منال صاحبة البشرة السمراء الداكنة التي شارفت على الثلاثين من عمرها، وتزوجت من زميلها زيد صاحب البشرة البيضاء.

منال السمراء وزيد الأبيض

تسكن منال في الحارة التي يسكن بها "أصحاب البشرة السمراء"، وعلى الرغم من العنصرية التي يتعرض لها سكان تلك الحارة؛ إلا أنّ قصة منال وزميلها زيد أصبحت من قصص الحب الأسطورية خلف جدران المدينة المحاصرة، فلم يأبهوا بأحاديث من حولهم، ضاربين نظرة المجتمع بعرض الحائط.

هذه الأحاديث التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لم تزد زيد إلا إصراراً ليحافظ على قصة عشقه مع شريكة حياته منال التي استمرت ثلاث سنوات متواصلة، لتتكلل أخيراً بالزواج، فلم ينظر زيد إلى لون البشرة طالما أنه يعشق قلباً ينبض حباً يدوم إلى الأبد.

تقع "حارة السمران" في غزة ويتحدّر سكانها من الأجداد الذين جاءوا من السودان إلى فلسطين قبل ١٩٤٨

قصد زيد البيت من بابه ليخطب الفتاة التي أحبها، لتحقيق حلمه بالزواج من منال والاجتماع بها تحت سقف واحد، لكن هذا الخبر كان بمثابة الصاعقة التي قلبت كيان عائلته وأقاربه، فبدل من أن تصدح الزغاريد والأهازيج ومواويل الأفراح في منزلهم بعد معرفتهم خبر خطوبته من الفتاة التي يحبها، استقبل أهله هذا الخبر بالدموع واللطم على الخدود.

اعتراض والدة زيد

والدة زيد تريد أن تخطب لابنها فتاة بيضاء وشقراء، أسوة بنساء أشقائه الأربعة؛ ولكن قلب زيد لا يفرق بين سمراء وبيضاء، فاختار الفتاة المناسبة له، وعلى الرغم من معارضة العائلة بأكملها ووضع العقبات أمامه؛ إلا أنّ الحب انتصر على لون البشرة، فاجتمع الشاب الأبيض بالفتاة السمراء التي اختارها قلبه قبل عينيه.

يتحدث زيد (32 عاماً) الذي يعمل موظفاً في إحدى الدوائر الحكومية لـ"حفريات": "بعد زواجنا أردت التقرب من عائلتي كثيراً، وكنت أزورهم أنا وزوجتي بشكل يومي، لتغيير نظرتهم تجاهها. في البداية لم يتقبلوها وكانوا يعتبرونها غريبة عنهم، وبعد إنجاب الطفل الأول وخاصة أنه ذو بشرة بيضاء ويشبهني كثيراً تغيرت المعادلة، وأصبحوا يحبونها كثيراً وكأن شيئاً لم يحدث".

أحمد لأبنائه: العقل أجمل ما في الإنسان ومن يناديكم شوكولاته احكوا له الشوكولاته أزكى من الحليب والكل بحبها

ويضيف: "بعد فترة قصيرة من زواجنا كثرت زيارات الأقارب والأصدقاء والزملاء لنا في منزلنا، كان ظاهر هذه الزيارات تهنئتنا بالزواج؛ ولكنها في الحقيقة كانت بهدف التعرف على حياتنا، كيف يعيش رجل أبيض مع فتاة سمراء تحت سقف واحد؟ وهل تتغير نظرتي لها بعد الانتهاء من نزوتي؟ وهل نحن سعداء بزواجنا؟، فأحياناً تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن، وكانت الإجابات على عكس توقعاتهم؛ فالحب والود والتفاهم الذي وجدوه بيننا نادراً ما يوجد بين بعضهم".

زيد الذي لم يخنه قلبه في اختياره منال، يعيش حياة زوجية مليئة بالسعادة، فهو يحب زوجته كثيراً، ولم يكن يتوقع أن يجد في قلبها الحب الذي وجده منها، لكنه في الوقت ذاته يخفي سعادته معها عن عيون بعض أصدقائه الذين يعانون مشاكل مع زوجاتهم، كما يقول.

 

تفاصيل مختلفة

أحمد ونرمين، قصة أخرى ضمن معادلة انتصار الحب على اللون في حارة السمران؛ ولكنها تحمل تفاصيل مختلفة عن حكاية زيد ومنال.

نرمين (28 عاماً) أحبت زميلها أحمد، صاحب البشرة السمراء الذي لا يكبرها بالعمر سوى بأشهر قليلة، فهو يقطن في "حارة السُمر". تحدت منال النظرة المجتمعية، وتخطت العقبات وقبلت الزواج من الشخص الذي اختاره قلبها.

قصة نرمين وأحمد بدأت حينما كانا يدرسان في الجامعة، واستمرت على مدار أربعِ سنوات، لم تنظر الفتاة البيضاء خلالها إلى لون بشرة حبيبها، بل نظرت إلى لون قلبه وإلى مشاعره تجاهها واهتمامه بها وحرصه على الزواج منها.

"أنتِ متأكدة أنه هذا الشخص إلي حبتيه وبدك تتزوجيه"، ما تطلعتي لمنظره هذا أسمر كثير وما بناسبك"، "بكرة أولادك يطلعوا مثله سمر"، "مستحيل نوافق عليه هذا ما بناسبك أبداً"، "شو بدك الناس تحكي علينا بنتهم تزوجت واحد عبيد"، تلك العبارات وغيرها ظلت ترافق نرمين على مدار شهور عديدة، منذ أن تقدم لخطبتها حتى نجحا في الزواج والاجتماع في عش الزوجية.

لم تكترث نرمين بهذه العبارات، ولم تلق لها بالاً، وصممت على الزواج من الشخص الذي أحبته، واختاره قلبها من بين كل الشباب، ورغم ذلك إلا أن عائلتها حاولت مراراً وتكراراً إقناعها بأنه لا يناسبها؛ ولكن إرادة الحب كانت، كما تقول الصخرة التي تحطمت عليها سائر محاولات عائلتها، حتى انتصر العشق على عنصرية اللون.

الحب ينتصر

قصة الحب تكللت بالنجاح واجتمع الشاب صاحب البشرة السمراء بالفتاة ذات العينين الخضراوين والبشرة البيضاء الناعمة في بيت واحد؛ ولكن المعاناة لم تنته بعد زواجهما، فعندما يذهبان إلى الأسواق والمرافق العامة تبدأ الأحاديث الجانبية والعبارات الجارحة مثل "شوفوا هي بيضاء وهو أسمر"، أو "هذه السيدة أكيد مجنونة لأنها تزوجت هذا الشاب"، هذه العبارات وغيرها تزيد نرمين قوة ولن تغير حبها لزوجها.

وفي هذا السياق يتحدث أحمد لـ"حفريات": "الاستغراب والأحاديث الجانبية رافقتنا طويلاً نحن أصحاب البشرة السمراء، فعندما كنت أخرج مع زوجتي في بداية فترة زواجنا، كانوا يستغربون كثيراً من أن زوجتي بيضاء وعينيها خضراوان، وبعد ذلك تبدأ الأحاديث الجانبية، لأن أصحاب البشرة السمراء غير مقبولين خارج منطقتنا، وغالبيتهم يتزوجون بنساء سمر مثلهم، الأمر الذي زاد استغرابهم".

ويتابع أحمد: "صادف الحظ وعامل الجينات الوراثية أن كان لهما دور كبير في أن يكون ابناي الاثنان شبيهين لي وبشرتهم سمراء، مما زاد خوفي من تعرض أبنائي لما تعرضت له في الصغر من سخرية واستهزاء، فكنت أزيد من ثقتهم بأنفسهم، وأعلمهم أنه طالما لديهم عقل فهم أجمل الخلق، ومن يناديكم شوكولاته احكوا له الشوكولاته أزكى من الحليب والكل بحبها"!

تقاطع نرمين حديث زوجها والابتسامة تعتلي محياها: "أحببت هذا الأسمر كثيراً والسعادة التي عشتها معه لم أتوقع أن أعيشها مع شاب أبيض مثلي، وسعدت كثيراً عندما أنجبت طفلين لهما نفس لون بشرته لكي أحبهما مثل حبي لوالدهما".

خالد: أمي تحب أطفالي ولكن عندما يفتح موضوع اللون بين أحفادها فإن معالمها تتغير

اختلاط النسب

وكما أنّ قصة الزواج، واختلاط النسب بين أصحاب البشرة الفاتحة والداكنة السوداء هي خارج هامش العادات المتوارثة والمتعارف عليها في غزة، فإنّ تلك القاعدة الذهبية الناجمة عن زواج الأبيض بالسمراء، تلقى معارضين لها أحيانا؛ فخالد المتزوج من فتاة سمراء اللون من "حارة العبيد" أنجب طفلين تبعا والدتهما في اللون، كان ذلك الخبر ساراً بالنسبة لخالد وزوجته شيماء.

وردية العلاقة هذه تقبلتها والدة خالد دون أن تكون مسرورة، فهي وجميع أبناء عائلتها هم من أصحاب البشرة الفاتحة، لكنّ أبناء ابنها وزوجته السمراء جاء لهم لون بشرة مختلف.

يقول خالد: "أمي تحب أطفالي، وتخصص لهم مودة ومحبة، ولكن عندما يفتح موضوع اللون بين أحفادها، فإن معالمها تتغير، ولكنني في الوقت ذاته مسرور لأنني أنجبت أطفالاً بلون بشرة زوجتي التي اخترتها من بين ملايين النساء وأحببتها".

ماذا يقول مختار حارة السمران؟

اختلاف وجهات النظر حول الزواج من أصحاب البشرة السمراء، ذو شجون مديدة في غزة، إذ التقت "حفريات" الحاج أحمد الرواغ (80 عاماً) ويطلق عليه "مختار السمر"، ويقصده أبناء عشيرته في حل مشكلاتهم. يقول المختار: "أصحاب البشرة السمراء يتعرضون لعنصرية في المجتمع الفلسطيني، ويواجهون انتقادات كبيرة، وخاصة في قصص الزواج بين البيض والسمر، والتي تكون نادرة، فهم يعتقدون ذلك عيباً أو مخالفاً لعاداتهم وتقاليدهم، ولكن هناك قصص حب انتصرت على هذه العنصرية، ونحن نقدّرها ونحترمها".

أصحاب البشرة السمراء يتعرضون لعنصرية في المجتمع الفلسطيني، ويواجهون انتقادات كبيرة، وخاصة في قصص الزواج

ويتابع الحاج أحمد: "نتمتع نحن أصحاب البشرة السمراء بثقة النفس العالية والمزاح وخفة الدم؛ لكن نظرة المجتمع العنصرية تسيء لنا كثيراً، ونأمل أن تنتهي لأنها زادت عن حدها كثيراً، وهي تسبب لأطفالنا الشعور بالاختلاف عن أصحاب البشرة البيضاء".

وتقع "حارة السمران" وسط شارع الجلاء في مدينة غزة، ويتحدّر سكانها من الأجداد الذين جاءوا من السودان إلى فلسطين قبل عام ١٩٤٨، وسكنوا في مدينة  يافا، وبعد النكبة الفلسطينية هاجروا مع الفلسطينيين، واستقروا في قطاع غزة وبدأوا بالتكاثر، كما يذكر المختار الرواغ.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية