أسلمة السينما هل هي أداة الجماعة الدينية لابتغاء العالمية؟

السينما والإسلاموية

أسلمة السينما هل هي أداة الجماعة الدينية لابتغاء العالمية؟


27/12/2017

(إذا أردتم لأمريكا الرفعة والمجد فاهتموا بالفيلم الأمريكي)

تلك وصية الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت، لصنّاع السينما، أثناء زيارته استديوهات هوليوود، في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت السينما الأمريكية حينها حديثة الولادة، تطأ بداية طريق المجد والصعود، وقد نفّذ صنّاع السينما الأمريكيون تلك الوصية بحذافيرها، حتى اجتاحت السينما الأمريكية أقاصي العالم من خلال الشاشة.

بزغ فجر السينما على العالم، بفضل الأخوين الفرنسيين "لوميير"، ومنذ ذلك الحين، أحدثت ثورةً حقيقية في عالم الفنّ، غيّرت المجتمعات البشرية، وأعادت تشكيل الإنسان من جديد، فهي مرآة المجتمعات، وظلّها الذي لن يغيب. ولأنّها إحدى أقوى الأدوات القادرة على التحكم في عقول الناس، والسيطرة على وجدانهم، فإنّ حركات الإسلام السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية، قرّرت استغلالها لاستعادة توسعها الذي تراجع، شيئاً فشيئاً، فتراجعت عن موقفها الصارم من الرفض المطلق للسينما، والمسرح، وكلّ الفنون، فقد اعتادت تغيير مواقفها بما يحقق أهدافها، فهي تغضّ الطرف عن كلّ شيء، في سبيل توسيع قاعدتها الجماهيرية. صنعت الجماعة سينما خاصة بها، تستطيع من خلالها الانتشار الأسهل، واللحاق بركب الحضارة الإنسانية، لكن بشروطها، وجذورها الرجعية، التي تضفي على السينما ضحالة وركاكة، بابتعادها عن المحددات الفنية التي يجب أن يتضمنها المنتج السينمائي حتى يصبح عملاً فنياً جيداً.

الرئيس الأمريكي الأسبق (فرانكلين روزفلت)

الفيلم الإسلامي والسينما النظيفة

قبل قرن من الزمن، عرف العالم فنّ السينما، واستقر في الوطن العربي، بنفس التوقيت الذي اجتاحت فيه دور العرض دول أوروبا، وعُدَّت السينما حينها فناً مجرداً، ومحاكاةً إنسانيةً للواقع، تلعب على أوتار المشاعر الإنسانية، وتستطيع التعبير عن وجدان الفنان صانع العمل، ثم تحوّلت، فيما بعد، إلى علمٍ يُدرس في الجامعات والمعاهد الأكاديمية، على مستوى العالم، له دارسون مُتخصصون، يسعون إلى إتقان تلك الصناعة، التي أصبحت اليوم حجر أساسٍ في بناء اقتصاد دول كبرى مثل؛ الهند، التي تحتل الصدارة العالمية بإنتاجها أكثر من ألف فيلم سنوياً، ويشكّل الدخل القومي للسينما فيها ما نسبته 15% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي، لشبه القارة الهندية، ولم نسمع في تلك المؤسسات الأكاديمية المتخصصة، حتى عهدٍ قريبٍ، عن هذا المصطلح الدخيل على علوم السينما "الفن الإسلامي"، أو "السينما النظيفة"، وهو ما يجعلنا نراجع تاريخ ظهور هذه المصطلحات، ونبحث عن التداعيات، الاجتماعية والسياسية، التي أدت إلى ظهورها، وجعلتها جزءاً من المفاهيم السينمائية الحالية لدى شريحةٍ، ليست قليلة، لدى المتلقِّي (المشاهد)، والصانع (الفنان السينمائي).

اعتادت الجماعة تغيير مواقفها بما يحقق أهدافها فهي تغضّ الطرف عن كلّ شيء في سبيل توسيع قاعدتها الجماهيرية

إنّ مفهوم الفيلم الإسلامي، بحسب صُناعه، هو كلّ عملٍ سينمائي تتّفق رسالته مع الشريعة الإسلامية، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، ولا يكون به من المحاذير الشرعية ما يخالف الأحكام الفقهية التي أجمع عليها الفقهاء وأهل الدين، ولم يبرز شكلٌ مبدئي لهذا النوع من السينما، سوى في أربعينيات القرن الماضي، بعد صدور فيلم (صلاح الدين الأيوبي)، للمخرج إبراهيم لاما، وهو نوعٌ جديدٌ، قدِّم للجمهور العربي والإسلامي، للحدّ من تأثيرات السينما الغربية الدخيلة على المجتمعات العربية، على حدّ قولهم، كما أنّه يعدّ نوعاً من هيمنة الثقافة الإسلامية، وحواراً حضارياً مع المجتمعات الأخرى، ويقدّم صناع هذه السينما إنتاجهم الفني لنا، على أنّه نوعٌ من التواصل الإنساني الحضاري، فلغة الفيلم، أجدى أن توحّد البشر.

ملصق إعلاني لعرض فيلم (صلاح الدين الأيوبي)عام 1941 للمخرج (إبراهيم اللاما)

إيران تحقق الحُلم الإسلامي الكبير

عام 1976، وبعد انتشار جماعات الإسلام السياسي في مصر، نُشر مقال للأستاذ صالح عشماوي، عنوانه: "إلى متى تستمر هذه الحملة على الإسلام؟"، يقول فيه: "وفي عالم الفنّ نجد أفلاماً وتمثيليات عديدة، تحمل عناوين مختلفة، تلمز دين الأمة وتهاجم عقائدها، في تستّرٍ، أو وضوحٍ، وتتهجم على كتاب الله ونبيه، وهو المثل الأعلى للإنسان الكامل. وكأنّها بذلك تردّد كلّ ما افتراه المستشرقون، بشكلٍ عملي وأخطر تأثيراً، وما زالت الشخصيات التي يثيرون بها ضحك الجماهير الساذجة على المسارح وفي الأفلام، هي الشخصيات التي تطلق لحاها وترتدي زي شيوخنا الأفاضل، وما ذلك كلّه إلّا محاولات تهجمٍ على الإسلام في شخص رجاله، بكلّ السبل وشتى الطرق".

يصاب الإسلاميون بحالة من الثورة، كلما شاهدوا في السينما مشاهد الاستهجان بدعاتهم، والسخرية من الأفعال المشينة التي يقوم بعضهم بها، ويصيبهم ذلك بالذعر، وكأنّ السينما لا تمتلئ بمشاهد السخرية من كلّ الشرائح المجتمعية؛ من الأطباء، والمدرّسين، والمحامين، لكنّ تلك النرجسية التي يتسم بها دعاة الإسلام السياسي، تجعلهم مقدَّسين حدّ الألوهية، لا يُسمح بالاقتراب من ذواتهم. فالسينما العربية، لم تقدّم، حتى منتصف السبعينيات، نماذج تُرضي الغرور المتعالي على الفن من قِبل منظري الإسلام السياسي.

الحرية شرط أساسي للإبداع ومن أكبر الإهانات التي نوجهها للعمل الفني الإبداعي أن نجعله مشروطاً بقيود دينية أو مجتمعية

اندلعت الثورة الإيرانية، في سبعينيات القرن الماضي، فأحرقت دور السينما بمن فيها، وهدمت كلّ حالة إبداع فني خالص، مجرّد من القيود، في إيران، ثم عادت لتظهر من جديد، في أواخر السبعينيات، بمفهوم السينما النظيفة، وإنتاج الفيلم الإسلامي، والدراما الإسلامية، وذلك ما يستشهد به كلّ أتباع الحركات الإسلامية، ويريدون من الجميع أن يقتدوا بإيران فيه، فهم ينادون بهدم المؤسسات الفنية، القائمة على الفجر والرذيلة، على حدّ زعمهم، وإقامة سينما تُرضي الله ورسوله، وتواجه أهل الغرب، للتخلص من الإرث الاستعماري، الذي تركوه لنا. متناسين الشريحة المدنية، الليبرالية، واليسارية، وغير المؤدلجة، من المجتمعات العربية، التي تريد إبداعاً خالصاً لا يقيّده مشايخ الدين، ولا تكبّله فتاوى أصحاب العمم واللّحى. ورغم الخلافات المذهبية والطائفية الأزلية، الموجودة بين حركات الإسلام السياسي في الدول الإسلامية، وإيران "الشيعية"، إلّا أنّهم جعلوها رمز الفنّ الإسلامي، الذي يريدون تطبيقه في دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ويريدون السير على خطاها في فرض حجاب النساء في الأفلام السينمائية، وفرض للقيود التي تحول دون اكتمال العمل الفني الذي يحاكي حياة الناس بشفافية مطلقة.

من داخل إحدى دور السينما الإيرانية

أمةٌ في خطر

كلمات عبّر بها الكاتب والباحث المصري، أحمد المِسلماني، في مقاله الذي لقي هجوماً كبيراً من الوسط الفني في مصر، وكان بعنوان "سينما الإسلام السياسي"، المنشور في جريدة "المصري اليوم"، في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الحالي، وتصدى المسلماني فيه للحراك السينمائي في العالم العربي، الذي صار يخضع لشروط الدعاية والإنتاج، ولا يهتم بجودة المنتج، ومعالجة القضايا المحورية، من حيث تحكُم حركات الإسلام السياسي في مصير الشعوب العربية عن طريق شاشة السينما. فالسينما سلاح دمارٍ شاملٍ، لا يجب أن يُسمح باستخدامه لأصحاب معتقداتٍ معاديةٍ للإنسانية، تنشر أفكاراً عدوانيةً، ولا تقبل بأيّ نوعٍ من الخلافات. تلك التصريحات، أثارت غضب العديد من صُناع السينما في مصر، الذين اعتبروا أنّ صناعة السينما هي إبداع خالص، وحرية الإبداع مكفولةٌ للجميع، ومن حقّ كلّ الشرائح التعبير عن ذاتها.

الفنّ عمليةٌ إبداعيةٌ خالصةٌ وحالة تجلٍّ إنساني لا ترضخ للرقابة أو القوانين فالحرية شرط أساسي للإبداع

وإذا كنا بصدد الحديث عن السينما الإسلامية، لن يستثنى من الذكر رائد هذه التجربة وأيقونة أتباع السينما الإسلامية المخرج السوري "مصطفى العقاد"؛ المخرج السوري الذي ولد في مدينة حلب السورية، وكان والده عالماً دينياً درس في الأزهر، وكان مولعاً بدراسة السينما، يراوده حُلم الدراسة في أمريكا، حاضنة السينما العالمية، وكان يطمح أن يتعمّق في هذا الفنّ، حتى تتثنى له صناعة سينما عربيةٍ إسلاميةٍ، قادرةٍ على محاكاة السينما الغربية. بالفعل، ذهب مصطفى إلى أمريكا، وتفوّق في دراسته، وعمل مساعداً للمخرج العالمي، "ألفريد هيتشكوك"، وسرعان ما استقلّ في عمله، حتى يحقّق هدفه الأول من تعلّم السينما، وصنع فيلمه الأول عربياً "الرسالة"، عام 1976، وقد أراد حينها أن يصنع فيلماً يقدم من خلاله الإسلام للعالم، الإسلام دين التسامح، والعدل، والمساواة بين البشر جميعاً. ثم تبعه فيلمه "أسد الصحراء"، الذي أرّخ فيه حياة الشيخ المجاهد عمر المختار، إلّا أنّ الحلم لم يكتمل، فقد لقي المخرج حتفه في انفجار فندق "جراند حياة"، في عمّان، عام 2005، ورحل حاملاً معه حلم إيصال السينما الإسلامية إلى العالمية، لكن الحلم لا زال يراود أبناء التيارات الإسلامية بقوة، وهم يعدّون لصناعته من جديد.

إنّ الفنّ عمليةٌ إبداعيةٌ خالصةٌ، وحالة تجلٍّ إنساني، لا ترضخ للرقابة أو القوانين، فالحرية شرط أساسي للإبداع، فمن أكبر الإهانات التي نوجهها للعمل الفني الإبداعي، أن نجعله مشروطاً بقيود دينية أو مجتمعية، أو غيرها من الأمور التي تقيّد خيال العقل البشري، وتحدّ من السمو بالنفس الإنسانية، سيما أنّ جماعات الإسلام السياسي، تريد أسلمة كلّ شيء طبقاً لمصالحها وأهوائها، فهي تعمل على أسلمة السينما بما يخدم مصالحها السياسية، وتطلعاتها في السيطرة على عقول المجتمع، وما تدعو إليه لا يمكن أن ندعوه فنّاً، أو إبداعاً.

الصفحة الرئيسية