
برغم ما يبدو من ضعف تتسم به جماعة الإخوان اليوم في العالم العربي على إثر عدد من المتغيرات التي أسهمت في ذلك في الأعوام الأخيرة؛ إلا أنّها تتمتع بحضور وبتأثير قوي في الغرب بدأ منذ عقود وما يزال مستمرًا، لكن في بعض المجتمعات الغربية بدأ الانتباه مؤخرًا إلى أنّ ثمة تهديدًا تمثله الجماعة عليها.
تشهد فرنسا هذه الأيام مناقشات حول أوضاع جماعة الإخوان ونشاطهم داخل الدولة، وآليات عملهم ومدى تأثيرهم على المجتمع الفرنسي، وقد ناقش مجلس الدفاع الوطني برئاسة إيمانويل ماكرون تقريرًا تم إعداده من خلال لجنة مُشكّلة من عدد من المسؤولين والوزراء حول نشاط الجماعة، وقد حذّر التقرير من تنامي نفوذ جماعة الإخوان في الضواحي الفرنسية، حيث يرى أنّ الجماعة تهدد التماسك الوطني وتشكّل خطرًا على قيم الجمهوية.
وتأتي أهمية الأمر من أنّ فرنسا تضم أكبر جالية مسلمة في أوروبا تُقدّر بحوالي (6) ملايين مسلم، وتملك جماعة الإخوان عددًا كبيرًا من الجمعيات الدينية والمساجد التي تقوم بالإشراف عليها في فرنسا بجانب عدد من المؤسسات الأخرى في مجالات مختلفة، ممّا يجعل التأثير الذي تقوم به داخل الدولة كبيرًا.
وما نود مناقشته في هذا الإطار هو؛ لماذا تهتم جماعة الإخوان بوجود نشاط لها في أوروبا؟ وما آليات عملها هناك؟ وكيف يكشف ذلك عن أزمة الجماعة الحقيقية؟
أستاذية العالم... دافع الإخوان نحو أوروبا
صاغ البنا مشروع الجماعة منذ اليوم الأول لتأسيسها على أنّها جماعة شمولية وعالمية، منطلقًا من اعتقاد بشمولية الإسلام وعالميته، ومتأثرًا بسقوط الخلافة العثمانية ذلك الإطار الذي كان يراه جامعًا للمسلمين ومصدر قوة لهم، وفي الوقت نفسه فريضة دينية؛ فانطلق لتأسيس جماعة تحمل سمات الدعوة الإسلامية وتهدف إلى إقامة خلافة على منهاج النبوة تنفيذًا لحديث نبوي، مشكوك في صحته، يشير إلى تحقق تلك الخلافة في آخر الزمان، ولذلك لم يكن هدف البنا أن يقتصر حضور الجماعة ونشاطها داخل الحدود المصرية، بل إنّه، وفقًا لما جاء في مذكراته، لم تكن مصر الاختيار الأول لتأسيس الجماعة، فقد فكّر في تأسيسها في دولة أخرى فكان من بين ما فكّر فيه اليمن، لكنّه عدل عن ذلك فيما بعد، ورأى أنّ مصر هي الأصلح، فعالمية الجماعة كانت هدفًا واضحًا للبنا منذ البداية. وفي هذا الإطار يقول الباحث الراحل حسام تمام في دراسة له بعنوان "التنظيم الدولي للإخوان: الوعد والمسيرة والمآل": إنّه منذ أن وعى حسن البنا بنفسه وأحسّ بأنّ له دورًا في الحياة وهو يؤمن يقينًا بأنّ العالم كله مساحة ملعبه، فلم يغب عنه وهو يؤسس في آذار (مارس) من عام 1928 جماعة الإخوان المسلمين أنّها ذات رسالة وطموحات عالمية حتى وهو يسجلها تحت اسم (جمعية الإخوان المسلمين الخيرية) في الإسماعيلية؛ إحدى المحافظات الإقليمية الصغيرة النائية عن ضجيج وصخب القاهرة حلبة الساسة وقلب العالم الإسلامي النابض بكل أحداث وشؤون السياسة وشجونها عربيًا وإسلاميًا".
فالبنا ينطلق من أنّ الإسلام دين عالمي له الحق في الهيمنة والسيادة على العالم وما فيه من أديان، وأنّ المسلمين هم أصحاب الحق في تولي قيادة العالم، فيقول في إحدى رسائله: "ومعنى هذا أنّ القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة، وإذاً فذلك من شأننا لا من شأن الغرب، ولمدنية الإسلام لا لمدنية المادة". ويصف دعوة الإخوان في مذكراته فيقول: "أمّا العالمية أو الإنسانية، فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمى وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح". ويقول في رسالة "إلى أيّ شيء ندعو الناس": إنّ "مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي بغيرها لن يسعد الإنسان". ودعا إلى ضرورة استعادة ما سمّاه "المستعمرات الإسلامية"، فقال في رسالة إلى الشباب: "ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حينًا من الدهر... فالأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام، ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر والأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل. ويرى في الفاشية والنازية ونزعتهما التوسعية نموذجًا ينبغي الاهتداء به، فيقول: "ولئن كان السنيور موسوليني يرى من حقه أن يعيد الإمبراطورية الرومانية، فإنّ من حقنا أن نعيد مجد الإمبراطورية الإسلامية".
وفي حين تم تأسيس التنظيم الدولي للإخوان في بداية الثمانينيات على يد مصطفى مشهور، إلا أنّ الفكرة تم تنفيذها قبل ذلك بأعوام كثيرة، حيث أنشأ البنا قسمًا للاتصال الخارجي يعمل على إنشاء فروع للجماعة في دول أخرى كنواة لتنظيم عالمي يمهد لفكرة أستاذية العالم، ونتج عن ذلك تأسيس العديد من الفروع للجماعة في دول أخرى كسوريا والسودان والصومال وأندونيسيا والمغرب، وبعد وفاة البنا أصبح للإخوان فروع كثيرة في الدول الإسلامية، ثم كان بعد صدام الجماعة مع نظام عبد الناصر أن اتجهت إلى الغرب وأنشأت العديد من المراكز والجمعيات والمنظمات التابعة للجماعة لكن بأسماء متعددة لا تحمل اسم الإخوان، ثم جاء مصطفى مشهور وأسّس هيكلًا تنظيميًا يستوعب كل تلك الفروع في العالم تحت قيادة واحدة ولائحة تنظيمية واحدة فكان "التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين".
وقد استطاعت الجماعة توسيع نشاطها في الغرب في العديد من دول أوروبا وأمريكا، واستطاعت التغلغل بشكل كبير في تلك المجتمعات مستفيدة من قوانينها التي تسمح بذلك وبأنظمتها الديمقراطية وبمناخ الحرية المتاح فيها، كما أنّ هناك بُعدًا آخر، وفق المفكر المصري عبد الجواد ياسين، يفسر القدرة على الانتشار والتغلغل الإسلامي في الغرب، فهو يرى أنّ ثمة علاقة توظيف متبادلة بين الغرب والإسلاميين، فمن جانب يعمل الغرب على توظيف العديد من التيارات الإسلامية في تحقيق أهداف ومصالح خاصة به في الدول العربية والإسلامية، مقابل توظيف من التيارات الإسلامية للغرب في ترك مساحة لها تستطيع من خلالها أن تمارس أنشطتها في الغرب، ممّا منحها القدرة على التغلغل والتأثير هناك.
ويذكر القرضاوي في كتابه "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة" أهداف الإخوان من العمل في الغرب، ويرى أنّ الوجود الإسلامي في الغرب ضرورة لعدة أسباب؛ منها تبليغ رسالة الإسلام ودعوة غير المسلمين إليه، ومتابعة من يدخل في الإسلام وتوفير مناخ إسلامي يساعده، واستقبال المسلمين المهاجرين من الدول الإسلامية إلى الغرب، والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية والأرض الإسلامية في مواجهة القوى والتيارات المعادية، وللتأثير على صناع القرار والساسة في الغرب وعدم ترك الساحة هناك للنصارى واليهود لاتخاذ سياسات لها تأثير على المسلمين سواء في داخل تلك الدول أو في العالم الإسلامي، ويرى ضرورة إنشاء مجتمعات مغلقة أشبه بـ "الجيتو اليهودي"، ولكن مع الانفتاح بدرجة لا تؤدي إلى الذوبان في الغرب، وإنّما بصورة تسمح بالتأثير فيه سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي.
وإلى جانب ذلك فإنّ الإخوان يعملون على تحقيق بعض الأهداف الأخرى من خلال التواجد في الغرب وممارسة نشاط تنظيمي به، ومن هذه الأهداف التأثير في الرأي العام الغربي تجاه القضايا التي تخص الجماعة، وكسب الدعم الغربي تجاه الجماعة في مقابل تكوين موقف مضاد تجاه الأنظمة العربية التي هي في خصومة مع الجماعة، وكذلك نشر الفكرة الإخوانية انطلاقًا من فكرة عالمية الدعوة كما ذكرنا، وأيضًا التنسيق بين فروع الإخوان في العالم ودعم بعضها البعض، وكذلك توفير مجتمعات بديلة تصلح أن تكون ملاذات آمنة للجماعة في أوقات الصدام مع الأنظمة العربية، حيث خلال تلك الأوقات يستطيع أفراد التنظيم وقياداته الهروب إليها وإعادة ترتيب الأوراق من خلالها والمحافظة على الهيكل التنظيمي حتى زوال الأزمة، كما يساعد التواجد الإخواني في الغرب على تلقي التمويلات من دول وأشخاص عبر المؤسسات المختلفة الخيرية والاقتصادية والتعليمية التابعة للتنظيم الدولي والموجودة بشكل رسمي في الغرب.
استراتيجية التسلل الناعم
وفقًا للباحث سمير أمغار في دراسته عن الإخوان في أوروبا والصادرة عن مكتبة الإسكندرية، فإنّ جماعة الإخوان بدأت في الظهور في أوروبا منذ الستينيات، حين أسسها لاجئون سياسيون وطلاب وافدون من المشرق والمغرب للدراسة، وقد شرع شباب المهاجرين بالانضمام إلى صفوفهم منذ ذلك الوقت، وخلال عقدين من الزمن أصبحت جماعة الإخوان التنظيم الإسلامي الأكثر ثقلًا في أوروبا، فقد حظيت بإمكانات مالية كبيرة مكنتها من نسج شبكة ضخمة من الخدمات الاجتماعية والدينية خلال أعوام قليلة، ويصف أمغار تنظيم الإخوان في أوروبا بأنّه تيار فكري ذو تأثير ومرونة يمتدّ إلى شتى المجالات.
وقد كشفت وثيقة قديمة تم العثور عليها في العام 2001، ويرجع تاريخها إلى فترة الثمانينيات، في منزل القيادي في التنظيم الدولي الراحل يوسف ندا من جانب السلطات السويسرية، كشفت عن ملامح ما تمّت تسميته بـ "المشروع الكبير"، الذي يوضح خطة الإخوان للعمل في أوروبا، وهي من الوثائق المهمة التي تسببت في انتباه الغرب إلى التهديد الذي يمثله الإخوان لهم، ومن بين ما جاء في الوثيقة عمل الجماعة على إنشاء مراكز رصد للمعلومات وتجميعها وتخزينها والاستفادة منها، وإنشاء مراكز للدراسات والبحوث، وبناء المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والعلمية والدخول في ميادين الخدمة الاجتماعية، والاستمرار في تربية الأفراد والأجيال، والعمل على التأثير على مراكز القوى المحلية والعالمية لصالح الإسلام، والعمل في المؤسسات المختلفة ذات مراكز القوى واستخدامها لصالح الإسلام، وإنشاء جهاز إعلامي واعٍ وقدير، وحماية الدعوة بالقوة اللازمة لأمنها محليًا وعالميًا، والاتصال بالحركات الجهادية وبناء الجسور معها ودعمها وإقامة تعاون مشترك.
وتتبع جماعة الإخوان نمطًا متشابهًا في العمل داخل كل المجتمعات سواء العربية أو الغربية، حيث تقوم باستخدام استراتيجية "التسلل الناعم" الذي يهدف إلى التغيير المتدرج والانتقال من مرحلة إلى أخرى مع الوقت، والتغلغل داخل مؤسسات المجتمع بشكل طبيعي، والعمل على ترسيخ أفكار الجماعة في المجتمع لتصبح ثقافة سائدة داخل شريحة منه وإعادة تشكيل الشخصية بما يتوافق مع أفكارها، وتكوين حاضنة شعبية حاملة لأفكارها وداعمة لها في مواقفها، ويسمح لها هذا التسلل بالقدرة على التأثير من خلال توظيف المؤسسات التي تعمل من خلالها وتوجيه سياساتها بما يخدم أهداف الجماعة ومصالحها. وقد وصف وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو خلال مناقشة التقرير الذي أعدته اللجنة المكلفة بمتابعة نشاط الإخوان في فرنسا طريقة عمل الجماعة بأنّها "إسلاموية خجولة"، ويعني أنّها تعمل على التغلغل بطريقة سلسة وناعمة في مؤسسات الدولة من أجل إحداث تغيير على المدى البعيد، فالتقرير يصف التهديد الذي تمثله الجماعة بأنّه ليس بالتهديد العنيف المباشر، كما هو الحال بالنسبة إلى الجماعات الجهادية، ولكنّه تهديد طويل الأمد يتمثل في التآكل التدريجي لقيم العلمانية، والتهديد بنزعة انفصالية من خلال خلق مجتمعات موازية وبديلة داخل المجتمع الفرنسي وهو ما يهدد التماسك الوطني. ويقول أيضًا وزير الداخلية: إنّ الإخوان يعملون من خلال جميع المجالات في المجتمع ويشكّلون شبكات في الرياضة والتعليم والطب والعدالة والثقافة والمنظمات الطلابية والنقابية والسياسية والجمعيات، ويقومون بإعطاء تعليمات للتصويت في الانتخابات، ويوقعون شراكات اقتصادية مع العلامات التجارية الكبرى، وتشير دراسات ألمانية عن جماعة الإخوان إلى أنّها تنظيم مخادع يُظهر ما لا يُبطن، ويقول علنًا ما يخالف عقيدته السرّية.
في فرنسا تعمل الجماعة من خلال اتحاد المنظمات الإسلامية الذي تم تغيير اسمه ليكون "مسلمي فرنسا" فيما بعد، وهو اتحاد تتبعه (250) جمعية دينية إسلامية تعمل في مجالات مختلفة خيرية وتعليمية وثقافية وبحثية وإغاثية، وتشرف على مجموعة كبيرة من المساجد التي تمارس من خلالها الدعوة، وتقوم كذلك من خلالها باستقطاب الأفراد وضمّهم إلى الجماعة بشكل تنظيمي، وتعمل على السيطرة على الجالية المسلمة واحتكار الحديث باسمها. وتشير دراسة بعنوان "التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين" أعدّها مركز (تريندز) للأبحاث إلى أنّ الإخوان يمتلكون شيئًا أشبه بالشبكة العنكبوتية داخل المجتمع الفرنسي، وهي عبارة عن مجموعة كبيرة من العلاقات التي ينسجها الإخوان ويستطيعون من خلالها التسلل إلى الجامعات والنقابات والأحزاب السياسية وغير ذلك من المؤسسات، ويشرف على هذه العملية عدد من المؤسسات التابعة للجماعة في فرنسا مثل منظمة "مسلمو فرنسا، ومجلس الإفتاء للمسلمين في فرنسا، ورابطة الطلاب المسلمين، والمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية"، ومن خلال هذه الشبكة تستطيع الجماعة التأثير في المجتمع والتأثير على صناعة القرار داخل الدولة.
يتضح من ذلك أنّ جماعة الإخوان من خلال طبيعة تنظيمها القائم على السرّية والغموض، وإيديولوجيتها الإقصائية النابعة من اعتقادها بأنّها التي تمثل الإسلام، ونزعتها الانفصالية في المجتمعات بسبب شعورها بالتميز عن الآخرين والاستعلاء تجاههم، ورفضها لفكرة الدولة الوطنية والعمل على هدمها وإقامة دولة كبرى متجاوزة لحدود الدول، واستراتيجيتها في العمل القائمة على التسلل الناعم داخل المجتمع وإعداد نفسها كبديل للأنظمة الحاكمة والتيارات السياسية الأخرى وانتظار لحظة التغيير المناسبة؛ يتضح من كل ذلك أنّ الجماعة فيها عيوب بنيوية تجعل منها عبئًا على أيّ مجتمع توجد فيه، وتهديدًا لكلّ أنظمة الحكم سواء كانت استبدادية أو ديمقراطية، ولكل التيارات السياسية والفكرية المختلفة معها، ممّا يجعل الصدام محطة رئيسية في مسارها، والإخفاق نتيجة حتمية في تجربتها.