هل تتبخر "الإخوان المسلمون" ويختفي أعضاؤها؟

هل تتبخر "الإخوان المسلمون" ويختفي أعضاؤها؟

هل تتبخر "الإخوان المسلمون" ويختفي أعضاؤها؟


24/06/2025

أمينة خيري

الجماعات القائمة على أفكار لا تتبخر، ربما تتبدد الجماعة من أفراد ومقار وأملاك في هواء السياسة أو تقلبات الحب والكراهية ومصالح التوازنات، لكن الأفكار تبقى. هي لا تبقى فقط، بل تورّث من جيل إلى آخر بهدوء وسكون، انتظاراً للحظة الفارقة وعودة الظهور للعلن، وغالباً ينشط العمل السري، وقد يتخذ مناحي عنف مشوب بثأر لا يخلو من كراهية. وأبرز النماذج الحية لدورة الحياة العصية على الانتهاء جماعة "الإخوان المسلمين".

إنها الجماعة الأشهر في التاريخ الحديث، وفي أقوال أخرى الأخطر. تأسست قبل نحو مئة عام وتغلغلت في المجتمعات بالشرق والغرب تغلغلاً يليق بآلاف الأعوام. داهنها بعضهم، وناصبها بعضهم الآخر العداء. وانتمى إليها الملايين، ولم ينفصل عنها سوى قليلين. تتوسع وتتوغل وتتغول، تارة بأجنحة الأعمال الخيرية الملائكية، وأخرى بأفكار السطوة والتمكين الشيطانية.

وتُرسخ وجودها في دولة ما، وتَفقده في أخرى. تلجأ إلى الغرب رافعة راية التعرض للاضطهاد ومرتدية قناع المظلومية، مذرفة دموع معاناة الظلم والطغيان، وتستقر في الشرق لأنها على أسس "المدينة الإسلامية الفاضلة" التي تعد بها والمجتمع المسلم المتدين الذي تصنعه والركائز الإسلامية السامية والراقية التي لا تقدمها سواها.

وبين هذه وتلك، يظل "الإخوان المسلمون" أكثر الجماعات الدينية السياسية في التاريخ الحديث التي أتقنت وأبدعت وأجادت القيام بدور الفأر أثناء جولات الكر والفر مع الدول والأنظمة، سواء التي حاربتها ومنعتها، أو تلك التي ارتضت بها جماعة ذات وجود ونشاط ومعاقل.

وكان الأردن آخر معاقل الوجود "شبه الرسمي" و"شبه المقبول" و"شبه المسكوت عنه" لجماعة "الإخوان المسلمين" منذ عام 1946. واليوم ينهار هذا القبول لأسباب عدة، بعضها معلن وبعضها الآخر ستكشف عنه الأحداث ويسرده التاريخ.

وشهدت الأيام الأخيرة خطوات مفاجئة ومتسارعة وجذرية في علاقة الأردن بالجماعة المثيرة للجدل واللغط والفرقة، فوزارة الداخلية الأردنية أعلنت حزمة من القرارات في شأن الجماعة، أبرزها اعتبارها جمعية غير مشروعة وحظر كل أنشطتها ومصادرة ممتلكاتها المنقولة وغير المنقولة واعتبار الانتساب إليها أو الترويج لأفكارها أمراً محظوراً وإغلاق مكاتبها ومقارها ومنع القوى السياسية والإعلام ومستخدمي الـ"سوشيال ميديا" ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من التعامل مع أو نشر ما يتصل بالجماعة وأذرعها.

قبلها بما يزيد على عقد وبعد عام عاصف من حكم الجماعة في مصر وتظاهرات شعبية لإسقاطها، صدرت قرارات وأحكام قضائية مشابهة، ومن مصر والأردن إلى السعودية والإمارات، وكذلك خارج حدود المنطقة العربية حيث كندا وكازاخستان وروسيا، تواجه الجماعة قرارات الحظر وتجريم النشاط والانتشار، وبالطبع الأفكار.

لكن هل تتبخر الجماعة؟ وإذا تبخرت أموالها ومقارها وأنشطتها هل تتبدد أفكارها؟ وهل يتبخر أعضاؤها والمنتمون والمتربون في كنفها والمتعاطفون معها؟

متظاهرو "الشرعية"

كل من عاصر وعايش التظاهرات الحاشدة لطلاب وطالبات جامعة الأزهر في حي مدينة نصر (شرق القاهرة) عامي 2013 و2014 التي عرّفتها الجماعة بـ"تظاهرات الشرعية"، لا يسعه سوى تذكر مشاهد الطلاب الغفيرة التي ظلت تخرج من حرم الجامعة بصفة يومية على مدى أشهر لدعم "شرعية" الرئيس الإخواني السابق الراحل محمد مرسي وحكم "الإخوان"، هاتفين "الشعب يريد تطبيق شرع الله" و"إسلامية إسلامية".

وكل من عايش هذه التظاهرات يتذكر كيف دخل هؤلاء الطلاب في مواجهات دامية مع رجال الأمن بدافع أيديولوجيات وقناعات وأفكار تربوا عليها وتجذرت في قلوبهم وعقولهم طوال سنوات دراستهم، وربما منذ ولدوا في بيوت تغلب عليها التربية والتنشئة "الإخوانية".

وكل من عاصر فعالياتهم، سواء مستحضراً "نوستالجيا" الجماعة مترحماً على أشهر الشرعية والشريعة أو ناقماً عليها كارهاً لها، يعرف أن الجماعة جرى حظرها، لكن رجالها ونساءها وأطفالها وأفكارها أحياء يرزقون.

أبناء الجماعة وبناتها حاملو الأفكار المتجذرة منذ نحو قرن من الزمان لم يتبخروا في أي من الدول التي جرى حظر الجماعة فيها، ولو كان هؤلاء مدفوعين بالعمالة والخيانة وتقاضي الأموال من جهات خارجية أو عدائية لكان الأمر سهلاً هيناً.

وبينما العالم يتابع حظر الجماعة في أحد أواخر أقوى معاقلها، يقف من يجري حظرهم وأبناؤهم وأحفادهم ومن في محيطهم ممن تأثروا بهم وهم مدفوعون بقناعات حملها معظمهم أباً عن جد ويورثونها لصغارهم من دون شك.

ومن بين هؤلاء من شرب جانباً معتبراً من قناعاته داخل قاعات الدرس في المدارس والجامعات، وآخرون تغلغلت في أوصاله ضمن مكونات التربية والتنشئة في البيت والمسجد والشارع، وجميعهم يحمل تركيبته الفكرية معه أينما ذهب في رحلة العمل في البنك والمستشفى والمدرسة والشركة الخاصة والمصلحة الحكومية والمصنع والورشة وغيرها، حيث خلع الأفكار على باب المصلحة أمر غير وارد. وعمليات الحراك والتفاعل الاجتماعي اليومية بينهم وغيرهم تدور رحاها على مدى الساعة.

وأعضاء الجماعة "المحظورة" في دول العالم أحياء ويتكاثرون بالزواج والتوريث، وأفكارهم يجري وسيجري تناقلها، ولا سيما أن طبيعة فكر جماعات الإسلام السياسي، على رأسها "الإخوان المسلمون" لا تفنى أو تتبدد من تلقاء نفسها، أو استجابة لتضييق أمني، مهما بلغ من قوة أو حسم. ومئات الجولات من الكر والفر بينهم من جهة، والأنظمة والمجتمعات من جهة أخرى لم يسفر أي منها عن إجهاض للفكرة أو إنهاء للجماعة، فقط يخلدون لبيات شتوي أو صيفي، حتى تصبح الأجواء مناسبة ليطلوا برؤوسهم وأفكارهم وغاياتهم من جديد، سواء في صورة ولادة جديدة للجماعة أو عبر عمل إرهابي، يسمونه "مقاومة" أو "جهاداً" أو "حرباً" من أجل البقاء.

التكوين النفسي للجماعة

مستشار الرئيس المصري للصحة النفسية والتوافق المجتمعي وأستاذ الطب النفسي أحمد عكاشة كتب في مقالة عنوانها "التكوين النفسي للإخوان" (2021) أن الطب النفسي يرجع مصدر التطرف الفكري إلى التنشئة الاجتماعية المبكرة التي تنتج تشوهات فكرية مبكرة. وهذه التنشئة هي حجر الأساس لتبنيهم فكراً يقبل بالقتل باسم المعتقد، ويعتبر نفسه مقدساً وغيره من التوجهات والأيديولوجيات دنساً، مشيراً إلى الميل الذي يعتري نسبة كبيرة من أتباع هذا الفكر من أنه كلما زاد التشدد والتزمت، كان ذلك دليلاً على شدة التدين، ويجري التعامل مع الوسطية باعتبارها ضعفاً وتفريطاً.

وضمن جهود فهم التنشئة والتركيبة الفكرية لأتباع الجماعة، يشير عكاشة إلى الفرق بين الإرهابي قائداً والإرهابي تابعاً، فالأول عادة شخصية راديكالية متطرفة غير قابلة للمرونة أو الحوار أو النقاش، وينقل هذا التوجه إلى الآخرين، ويكون عادة ذا قدرة على إقناع الآخرين بما يقول، ولا سيما بين القابلين للإيحاء والطاعة من دون وعي أو انتقاد.

ويتطرق عكاشة إلى وسائل التدريب لصناعة هذه الأعداد من أتباع الجماعة، وأحد أبرزها هو الحرمان من التعرض لأية أفكار أو منبهات للمخ قد تنافس أو تؤثر في ما يجري بثه في فكر المتلقين. وهؤلاء يجري تدريبهم على فكر ديني واجتماعي محدد، ولا يجري تعريضهم بأية أفكار أخرى أو منبهات للمخ، ويكون الأساس مبدأ السمع والطاعة، لا يقرأ أو يسمع إلا ما له علاقة بالدين والفقه الصادر عن مشايخ الجماعة، وكل ما عداها كريه وغير مقبول. ويخلص عكاشة إلى أن كل ما سبق يهيئ الأتباع والمتعاطفين لرفض التخلي عن أفكار الجماعة أو مناقشتها أو الإقرار بوجود غيرها.

المصادرة والأفكار

مصادرة أموال الجماعة وممتلكاتها وحظر أنشطتها وإغلاق مدارسها وإخضاع مستشفياتها ومراكزها "الاجتماعية" وغيرها لإدارة الدولة، لا ينهي أفكار الجماعة المتوارثة كالجينات في كثير من العائلات حيثما وجدت.

ومنذ تأسيسها عام 1928 والجماعة تقدم نفسها وتتوسع وتترسخ في كثير من الدول العربية وبين الجاليات المسلمة في غير العربية، لا باعتبارها جماعة دعوية أو اجتماعية أو خيرية، بل كمجتمع أو بالأحرى دولة موازية.

وضمن دراسة عنوانها "الدولة والجماعات الرأسية: الوجود من خلال النفي" (2018)، يصف المؤلف أستاذ العلوم السياسية نصر محمد عارف "الإخوان" بـ"الجماعة الرأسية". والجماعات الرأسية تكون ذات طبيعة عرقية، أو دينية، أو لغوية، أو مذهبية يؤمن أفرادها بأنهم مختلفون ومتمايزون عن المجتمع وبأن هذا الاختلاف يشمل معظم، إن لم يكُن كل، جوانب حياتهم، وبذلك يختلفون عن المجتمع في معظم أو كل معايير التمايز بين الأفراد. ويكون لهم نظام اجتماعي خاص وتنظيم سياسي خاص ومؤسسات اقتصادية خاصة وفعاليات فكرية وثقافية خاصة وفكر ديني خاص، وذلك على النقيض من الجماعات الأفقية التي تتمايز في واحد أو اثنين فقط من معايير التمايز الموجودة في التقسيم الرأسي، كأن يكون لهم فكر سياسي خاص، أو نظام اقتصادي خاص، لكن يتشاركون مع باقي المجتمع في باقي مناحي الحياة، ويشاركونه باقي معاييره وممارساته.

الجماعة، كما يشير عارف "تقدم نفسها على أنها مجتمع مثالي جديد يسعى إلى إيجاد مدينة فاضلة، طبقاً لفهم قيادتها للمثالية والفضيلة. هي جماعة رأسية شمولية تغطي جميع مناحي الحياة. وعلى حد تعبير مؤسسها حسن البنا، فإن دعوة ’الإخوان المسلمين‘ دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية، مما يعني أنها مجتمع موازٍ للمجتمع الأصلي ودولة بديل للدولة وفرقة دينية جديدة تعتنق نسخة جديدة من الدين".

وعلى مدى عام واحد فقط حكمت خلاله الجماعة مصر، سابق "الإخوان" الزمن إلى الاستعانة بـ"شبه المؤسسات" التي شيدوها على مدى العقود لتكون مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، بما في ذلك ما يشبه الجيش، مع استبدال مكونات مؤسسات الدولة بمكوناتهم الخاصة، أو تدشين مؤسسات جديدة وجميعها تحت قيادات "إخوانية"، سواء كانت مؤهلة أو غير مؤهلة، حيث الانتماء لـ"دولة الجماعة" يفوق الانتماء للدولة الوطنية في الأهمية والتأهل.

ويشير عارف إلى أن مثل هذا الوضع يمثل تهديداً لأي مجتمع ودولة، بل دين أيضاً، قائلاً إن "جماعة الإخوان في حقيقتها تنظيم حداثي غربي يتخذ من الحزب الشيوعي مثالاً يقتدي به في الهيكلية التنظيمية، ومن الجماعات النازية قدوة في التفرد والعلو والنقاء البشري والمثالية الربانية في الفكر والثقافة والسلوك، ومن الجماعات الماسونية نموذجاً يحتذى في السرية وتقديس التنظيم والانغلاق عن باقي المجتمع".

استعادة الحكم الإسلامي

وبحسب المؤسس حسن البنا، وكما هو راسخ في فكر أعضاء وأتباع والمنتمين ممن ولدوا في عائلات ومجتمعات مغلقة على نفسها فعلياً وإن كانت تبدو منتظمة في المجتمع ظاهرياً، الهدف الأسمى لما تقول الجماعة إنها تمثله من "طابع إصلاحي ومضمون دعوي هو استعادة الحكم الإسلامي".

وبحسب كتاب التاريخ من مؤرخي الجماعة الذين ولدوا من رحمها على مدى عقود، فإن أهم ما في رسائل حسن البنا (مانيفستو الجماعة) تأكيد الشمولية لطبيعة الإسلام، كما يعتنقونه. "الإسلام دين ودولة، وسيف وقرآن. والوطنية حدودها أرض الإسلام، والقومية تحدها تعاليم الإسلام". وبحسب ما جاء ضمن رسالة المؤسس حسن البنا في ما يعرف بـ"المؤتمر الخامس للإخوان" عام 1938، "أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة لتنظيم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف".

وعلى رغم الاختلاف حول نسبة المكون القطبي في تكوين ونشأة أتباع ومنتسبي والذين نشأوا في كنف الفكر "الإخواني"، فإنه مكون أساس يرثه الأبناء والأحفاد من الآباء والأجداد. ويشار إلى أن سيد قطب يعرفه "الإخوان" بـ"المفكر الإسلامي شهيد الدعوة والتربية والثقافة"، ويعرفه غير "الإخوان" بـ"منظر ومفكر الإخوان الأول، ومؤسس مبدأ تكفير المجتمعات بما فيها الإسلامية التي لا تتبع مفهوم الإسلام الشامل، وما يتطلبه ذلك من خروج على الأنظمة، والجهاد، لا لأغراض دفاعية فقط، بل لترسيخ مفهوم المجتمع الإسلامي الشامل".

وأُعدم سيد قطب عام 1966، لكن أفكاره و"دعوته" والمبادئ التي أكدها ما زالت تشكل جزءاً كبيراً من فكر الجماعة ومنتسبيها. ليس هذا فقط، بل تفرض نفسها بصورة واضحة ضمن الدول التي يتعرض فيها التنظيم للتضييق، وكذلك في أوقات الشدة مثل الدفاع عن فرصة حكم لاحت في الأفق ثم أُجهضت (مثلما جرى في مصر عام 2013 مثلاً)، أو كوسيلة للضغط على الدولة والمجتمع أو ترويعهما على أمل في تحقيق أهداف خاصة بالجماعة. إنه معتنق العنف الهادف إلى غاية "أسمى"، بحسب أعضاء الجماعة، ألا وهي ترسيخ أسس المجتمع الإسلامي الشامل.

ويصعب فرز نسبة فكر حسن البنا مقارنة بفكر سيد قطب في تركيبة أعضاء ومنتسبي والمتعاطفين مع جماعة "الإخوان المسلمين" في أرجاء العالم حالياً، لكن يمكن القول إن المكونين حاضران، فأوضح المفكر الإسلامي محمد سليم العوا الفرق بين المنظومتين قائلاً إن "الإسلام عند سيد قطب لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات، مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي. المجتمع الإسلامي هو الذي يطبّق فيه الإسلام عقيدة وعبادة، شريعة ونظاماً، وخلقاً وسلوكاً. والمجتمع الجاهلي هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه تصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه. وقد يكون المجتمع إذا لم يطبق الشريعة مجتمعاً جاهلياً ولو أقر بوجود الله سبحانه. وهاتان الفكرتان (الجاهلية) اللتان أصابتا المجتمعات الإسلامية والبشرية كافة والتحرر منهما والانعتاق من أسرهما بتطبيق الحاكمية هما الفكرتان الرئيستان في منهج سيد قطب".

ويشير إلى أن وجه الاختلاف بينه وحسن البنا أن الأخير اعتبر التنظيم والإصلاح أولوية، أما سيد قطب فأعطى الفكر والاعتقاد السياسي الأولوية، فكرس نفسه للتمييز بين الكفر والإيمان في علاقة الحكم والحاكم بالمحكومين، وعلاقة النظام الكافر والمجتمع المحكوم الراضي بهذا الحكم والآثار المترتبة على ذلك.

عائلات ومؤسسات

تقديرات غير رسمية، بعضها طرحه مسؤولو الجماعة أنفسهم قبل أعوام، تشير إلى أن أعضاء ومنتسبي ومن ولدوا في كنف أسر "إخوانية" في العالم يبلغون نحو مئة مليون شخص، منهم من ينتمي إلى الجماعة مباشرة وبصورة واضحة، ومنهم من يتخذ أسماء وصفات مختلفة، ويبدو وكأنه جمعية إسلامية خيرية، أو منظمة إسلامية فكرية، أو مؤسسة مجتمع مدني تسعى إلى نشر التسامح والأخلاق الحميدة، أو مركز بحثي يُعنى بالعلاقات بين الشرق والغرب، أو تنظيم نسائي، أو حضانة للأطفال، أو مركز رياضي للشباب، أو مسجد لتحفيظ القرآن وتعليم التلاوة، أو مستوصف طبي لعلاج الفقراء ودفن موتاهم وتزويج نسائهم، وغيرها.

وتنتشر الجماعة، سواء عبر تنظيمات أو جمعيات أو حتى عائلات وأفراد في دول عدة حول العالم، وعلى سبيل المثال لا الحصر الجماعة موجودة في بريطانيا بصورة واضحة وكبيرة ومؤثرة. ويقول مدير برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن لورنزو فيدينو ضمن دراسة عنوانها "الإخوان المسلمون في بريطانيا" (2015) إن للجماعة حضوراً في نحو 90 دولة، وفي كل دولة تتخذ الحركة أشكالاً مختلفة، متكيفة مع الظروف السياسية المحلية. وتعمل الكيانات المرتبطة بـ"الإخوان" في كل دولة وفقاً لرؤية مشتركة، لكن باستقلالية تامة في محتوى العمل، مما يجعلها حركة عالمية غير رسمية يصعب تطويقها أو حصرها بصورة كاملة.

ويقسم فيدينو، مؤلف كتاب "الإخوان المسلمون الجدد في الغرب" (2010)، حضور الجماعة في بريطانيا إلى ثلاث فئات، "الإخوان الخالصون" والمنتسبون والجمعيات المتأثرة بالجماعة. و"الإخوان الخالصون" هم أعضاء في فروع مختلفة للجماعة من الوافدين من دول عدة مثل مصر والعراق وليبيا وغيرها الذين رسخوا وجودهم في بريطانيا على مدى ما يزيد على نصف قرن. وداخل كل فرع في بريطانيا، تعمل الأنشطة على دعم أنشطة الجماعة الأم في الدول الأصلية، تارة بصورة علنية وأخرى سراً حيث جمع التبرعات لحركة "حماس" (الفرع الفلسطيني للجماعة) مثلاً، بحسب الدراسة.

وتضيف أنه في أعوام لاحقة، اكتسبت أنشطة أعضاء الفرع المصري لـ"الإخوان" في لندن اهتماماً كبيراً، فدخلت المجموعة الصغيرة من كبار القادة والناشطين الشباب في جهود إعلامية وقانونية وضغط تهدف إلى تحدي النظام المصري بعد الإطاحة بحكمهم عام 2013، وهؤلاء على صلة وثيقة بنشطاء الجماعة الآخرين حول العالم.

والفئة الثانية تتألف من الكيانات والأفراد المنتسبين إلى "الإخوان"، وهي منظمات أنشأها أفراد تربطهم علاقات شخصية قوية بالجماعة، لكن تعمل بصورة مستقلة تماماً عن أي هيكل إخواني، ومعظمها يتجاوز الانقسامات الوطنية. ويرى المؤلف أن هذه الفئة أصبحت تعاني ضعفاً مع ما تعرضت له الجماعة في دول "الربيع العربي" وشيوع الانقسامات الأيديولوجية داخلها والاختلاف حول أولويات العمل وسط هذه التطورات.

أما الفئة الثالثة من الحضور "الإخواني" في بريطانيا، فهي المنظمات المتأثرة بجماعة "الإخوان المسلمين"، وتشمل منظمات أسسها أفراد تربطهم صلات وثيقة بـ"الإخوان"، ومن بينها جمعيات خيرية وأخرى طلابية، ومنظمات ترجع أصولها إلى "الجماعة الإسلامية" (الحركة الشقيقة لـ"الإخوان" في جنوب آسيا) التي طورت عملها كما ظهر خلال أحداثٍ شهدتها منطقة تاور هاملتس عامي 2013 و2014، أو ما سمي "مؤامرة حصان طروادة" الخاصة ببعض المدارس ذات نسبة المسلمين المرتفعة في برمنغهام خلال الفترة نفسها.

وكانت مجموعات من الشباب المسلمين أعلنت منطقة تاور هاملتس (شرق لندن) قبل أعوام "منطقة خاضعة لقوانين الشريعة الإسلامية"، وعُلّقت لافتات في متنزه بارتلت كتب عليها "لا تصطحب كلبك للتمشية هنا. المسلمون لا يحبون الكلاب. هذه منطقة إسلامية الآن"، إضافة إلى حالات تحرش لفظي بسيدات وفتيات يرتدين "ملابس غير لائقة" و"لا تناسب الأجواء الإسلامية"، وغيرها.

الدعم الغربي

يمكن القول إن الدعم الغربي الرسمي المتأرجح بين "القوي جداً" و"المتوسط" للجماعة ووجودها باعتبارها "ممثلة للإسلام الوسطي" على مدى عقود، ولا سيما عقب الإطاحة الشعبية بحكمهم في مصر عام 2013، من أبرز العوامل التي تمنع الجماعة من "التبخر".

وحظيت الجماعة وأفرادها والمتعاطفون والمنتمون والمنتسبون بقدر كبير من الدعم والمباركة وأحياناً التأييد الرسمي الغربي في أعقاب الإطاحة بحكمها في مصر عام 2013، فعواصم غربية عدة مثل لندن وبرلين وغيرهما شهدتا فعاليات "إخوانية" متعددة الأصول والأعراق والجنسيات ترفع راية المظلومية وتطالب بمعاقبة ومحاكمة من أطاحوا بحكمها. وتوسع نطاق الدعم والمباركة، فخرجت مئات التقارير الحقوقية المنددة بالدولة المصرية، ومطالبة بكل إصرار بدمج الجماعة "السلمية" وأعضائها "السلميين" وأفكارها "السلمية" وأهدافها "السلمية" ضمن الحكم والحياة اليومية.

وعلى رغم صدور تقارير شبه رسمية غربية تثبت عنف الجماعة وخرقها للقوانين، فإن معظم هذه التقارير إما لم يرَ النور أو جرى التكتم عليه أو اعتباره مسيساً، فعلى سبيل المثال لم يحظّ التقرير الذي أعدّه سفير بريطانيا السابق لدى السعودية سير جون جنكنز عن الجماعة باهتمام يذكر عندما نُشر قبل نحو عقد.

وعلى رغم عدم توصية جنكنز بإعلان الجماعة إرهابية في بريطانيا، فإنه أشار إلى ارتباط الجماعة بـ"أعمال عنف في دول بالشرق الأوسط" وأن لديها علاقة إشكالية ومعقدة مع العنف.

ومثل هذا "التساهل" أسهم في إعطاء الجماعة إشارات خضراء للمضي قدماً، وأسهم في إعطائها وأفرادها أوكسجين الحياة والاستمرار. كما حظيت الجماعة بدعم سياسي كبير وواضح من الإدارة الأميركية وقت كان باراك أوباما رئيساً خلال فترتيه بين 2009 - 2017. ووصفت تقارير صحفية عدة زيارة وزيرة الخارجية الأميركية لمصر حينئذ هيلاري كلينتون في يوليو (تموز) عام 2012، أي بعد أيام من صعود الجماعة للحكم، بأنها "تعهد صامد (من الإدارة الأميركية) بالدعم (للجماعة)".

ولعبة القط والفأر بين كثير من الدول العربية والجماعة التي لم تفتر منذ أطلت الجماعة برأسها إلى النور قبل نحو قرن، تقابلها لعبة أحادية في الغرب حيث الغالبية المطلقة من الدول "تحب" الجماعة أو "تجلّها" أو "تصدق سردية المظلومية" أو "تعتبرها قانونية ما دام أنها لم تخرق القانون على أراضيها" أو "تتعامل معها باعتبارها مكوناً مهماً في توازنات القوة مع الدول العربية تضغط بها تارة وتهدد بها تارة أخرى وتفرضها دائماً".

ويشير لورنزو فيدينو ضمن دراسته عن الجماعة في بريطانيا إلى أن الغالبية المطلقة من الدول الغربية "لا تجرم الانتساب للجماعة، عكس عدد من الدول العربية التي ذاقت طعم الجماعة ونكهة المنتسبين". 

ورسائل الدعم والمباركة الغربية ظلت طوال أحداث ما سُمي "الربيع العربي"، ولا سيما في تونس ومصر، تقوي من شوكة الجماعة، وتعضد من ثقة منتسبيها بأنفسهم وبأفكارهم، وفي الوقت نفسه تعزز شعورهم بأنهم مضطهدون في أوطانهم، مما يدفع الأجيال الجديدة منهم نحو مزيد من التمسك بمعتقد الجماعة وفكر التنظيم، حتى إن خرجوا على قادتهم.

ويبدو الأمر غريباً، لكنه حقيقة، إذ إن أبرز مقومات إبقاء الجماعة على قيد الحياة هو علاقتها الملتبسة والمتأرجحة مع الغرب، إنها علاقة الحب - الكراهية. ومن ضمن أبلغ ما كُتب عن العلاقة الملتبسة ما جاء في كتاب أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة "كوين ماري" البريطانية مارتين فرامبتون "الإخوان المسلمون والغرب: العداء الذي يميز التنظيم" (2018)، وأورد أن "الغرب بمثابة درع ضروري للمنظمة، حتى مع أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تبدو دائماً وكأنها تقدم بعض الوعود بالاعتدال أو الإصلاح، وهو الوعد الذي أغرى الدبلوماسيين الغربيين على أمل في أن تطرف الإخوان يمكن أن يتغير ليتناسب على نحو أفضل مع الأهداف والتطلعات الغربية".

هوة سحيقة لا تعيها الغالبية من أصحاب الشأن بين الأسس التي يتعامل بها الغرب مع الجماعة من جهة، وبين حقيقة الجماعة من جهة أخرى. وأصحاب الشأن هم الواقعون في قبضة الجماعة فكرياً وفعلياً، وكذلك المعرضون للوقوع في قبضتها حال وصولها إلى الحكم مثلما جرى في مصر وتونس لبعض الوقت. وتضاف إليهم الجماهير العريضة ذات الفهم البسيط والشعبوي للدين والاستعداد الكبير للانصياع وراء كل من بدأ كلامه بـ"قال الله" و"قال الرسول". وهنا، يُشار إلى قاعدة شعبية في كثير من الدول لا تعرف شيئاً عن "مانيفستو" الجماعة او أهدافها أو أدواتها، وتكتفي بالمستوصف الخيري والمساعدات الغذائية ووعود الآخرة التي تحملها الجماعة.

أما الغرب الداعم الذي يعتبر "الإخوان" "منظومة وسطية" أو "جماعة سياسية تقبل بالتعددية" أو "منصة دينية ذات أذرع سياسية تحظى بغالبية الأصوات في الفعاليات الانتخابية مما يجعلها تفعيلاً للديمقراطية"، فهو لا يرى سوى الوجه الدبلوماسي للجماعة، وفي ذلك يرسل رسائل إيجابية لأتباعها ومنتسبيها، مما يعطيها شرعية لا تحظى بها في معاقلها الأصلية.

واقع الحال السياسي يشير إلى أن نهج أميركا مثلاً تجاه "الإخوان"، وتجاه الإسلام السياسي بصورة عامة، ظل محكوماً في المقام الأول والأخير بالضرورات السياسية والجيوسياسية لها، لا بالافتراضات حول طبيعة الجماعة الإسلامية، أو وسطيتها المحمودة، أو حتى وجهيها المتناقضين، الأول تكفيري استحواذي فوقي يهدف إلى أستاذيتها أينما وجدت في الدول العربية، والثاني متسامح مسالم يذرف دموع المظلومية والاضطهاد في دول المهجر واللجوء.

الفصل بين الدين والدولة

وعلى رغم أن الغرب يعي جيداً بأنه لم يتطور وينهض ويتقدم ويحقق ما حققه من حضارة إلا بعد ما أنهى الصراع بين المجتمع والسياسة والحياة من جهة، وبين الدول الدينية من جهة أخرى، وعلى رغم علم الغرب اليقيني بأن هذا المبدأ عام ولا استثناءات فيه، فإنه يحافظ بحسب مصالحه وتوازناته على دعم الجماعة وأبناء عمومها واعتبارها مؤهلة للحكم ما دام أنه جرى الاحتكام لصناديق الانتخابات.

ويضاف إلى هذا الدعم الغربي للجماعة على مدى عقود، وهو الدعم الذي يظل ينفث فيها أوكسجين البقاء، ولو بين الحياة والموت، الدعم غير المحدود الذي حظيت به من قبل الجماعات والمنظمات الحقوقية، ومن بينها ما قام بدور محوري في تصويرها على أنها جماعات ملائكية تقاوم الأنظمة "القمعية" العربية التي "تفبرك" قصصاً وخيالات عن الإسلام السياسي باعتباره عنفاً وتهديداً عابراً للحدود، بهدف بقاء الحكام في مناصبهم.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتب المدير التنفيذي لـ"هيومان رايتس ووتش" عام 2012 تحت عنوان "حان وقت التخلي عن الطغاة والتمسك بحقوق الإنسان: رد الفعل الدولي على الربيع العربي" الأسطر التالية "على المجتمع الدولي أن يتصالح مع الإسلام السياسي وقت أن يكون الإسلام السياسي هو ما تفضله الغالبية. الأحزاب السياسية تتمتع بجماهيرية حقيقية في معظم مناطق العالم العربي، السبب يعود جزئياً لأن كثيراً من العرب رأوا أن الإسلام السياسي (ضد) الحكم المستبد، لأن الأحزاب الإسلامية بصورة عامة أحسنت تمييز نفسها من خلال برامج الخدمات الاجتماعية، مما لم توفره الدولة الفاسدة التي لا تخدم إلا نفسها، ولأن الإسلاميين يتمتعون بمزايا تنظيمية لم تتوافر لنظرائهم من الأطراف العلمانية التي شاركت الإسلاميين التعرض للقمع نفسه. وجزء من السبب لأن الإسلام السياسي يعكس القيم المحافظة والدينية لكثير من الناس في المنطقة. تجاهل هذه الشعبية يعني انتهاك مبادئ الديمقراطية".

من جهتها استثمرت الجماعة "خير استثمار" في كوادرها ليفهموا ويتعاملوا ويتعلموا ويندمجوا ويؤثروا في المجتمعات الغربية، فأصبح منهم الباحثون في مراكز الفكر الكبرى، وكتاب مقالات الرأي في الصحف المؤثرة، والمستشارون في الأجهزة المعلوماتية، وأساتذة الجامعات وغيرها من مجالات التأثير، مما أسهم في تقوية شوكة الجماعة واكتساب منتسبيها مزيداً من الثقة والدعم.

وتبقى سمة تنفرد بها الجماعة وتسهم في حمايتها من التبخر، ولا سيما وسط غياب الأفكار والثقافة والمفاهيم البديلة في كثير من الدول العربية، واستمرار تمسك بعضهم بالخلطة السحرية بين الدين والسياسة، وهي القدرة على الانشطار، سواء بمعناه البيولوجي أي الانفصال عن الكائن أو الجماعة الأصلية وخروج كائنات أو جماعات منفصلة عن الأصلية، لكن متطابقة معها، أو بمعناه النووي، فتنقسم نواة الذرة إلى جزيئات أصغر، وتظل على قيد الحياة مستعدة لمعاودة الانقضاض.

خلاصة القول إن الجماعة تفقد معاقلها وتضعف شوكتها، لكن يظل الأتباع والمتعاطفون والمنقادون والمغيبون على دينها، لحين تطهير الفكر وتنقيح المعتقد وتصحيح المسار الثقافي. لماذا؟ لأن الأفكار لا تتبخر.

اندبندنت




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية