
محمد مأمون الرشيد
بينما ينشغل العالم بالحزن على معاناة الشعب الفلسطيني، تشهد إندونيسيا مشهدا مختلفا. ففي الثاني من فبراير 2025، اندلعت مظاهرات واسعة النطاق في 22 مدينة للمطالبة بوقف الهجمات الإسرائيلية على غزة. شارك أكثر من 20 ألف شخص في هذه الاحتجاجات، حيث تركزت أكبر الحشود في جاوة الشرقية (15 ألف متظاهر)، تليها جاوة الغربية، جاوة الوسطى، وكاليمنتان الجنوبية (2000 مشارك لكل منها)، بالإضافة إلى يوجياكارتا (1500 مشارك)، غير أن خلف هتافات الدعم للقضية الفلسطينية، ظهرت أجندات أخرى، أبرزها الخطاب الذي يروّجه حزب التحرير الإندونيسي، التنظيم المحظور الذي يسعى إلى إعادة إحياء مشروع الخلافة الإسلامية.
منذ حظره رسميا عام 2017، واصل حزب التحرير الإندونيسي نشاطه سرا عبر المنصات الرقمية وحشد الجماهير. لقد تحوّل الصراع الفلسطيني إلى أداة سياسية يستخدمها الحزب للطعن في شرعية الدولة القومية، وزعزعة النظام القائم، وطرح الخلافة كبديل وحيد. بالتالي، لم تعد القضية مجرد تضامن مع فلسطين، بل أصبحت فرصة لتعزيز وجود الحزب وإعادة نشر أفكاره.
في الشرق الأوسط، يُنظر إلى حزب التحرير منذ سنوات على أنه تهديد للاستقرار الوطني. فقد حظرته الأردن ومصر وشنتا حملات قمع ضده، بينما اعتبرته السلطة الفلسطينية منافسا لجماعة الإخوان المسلمين، وسعت تركيا إلى الحد من انتشاره. لكن التطور الأبرز جاء في يناير 2024، عندما صنّفت بريطانيا الحزب كمنظمة إرهابية عقب مظاهرات مؤيدة لحماس رُفعت خلالها شعارات تدعو إلى الجهاد. وأكد وزير الداخلية البريطاني جيمس كليفرلي أن الحزب يروج لأفكار معادية للسامية ويمجد العنف، بما في ذلك هجوم السابع من أكتوبر 2023. وبذلك، أصبح هامش تحرك الحزب أكثر ضيقا في بريطانيا، غير أن تجاربه السابقة تثبت أنه قادر دائما على إيجاد طرق للبقاء والانتشار.
لم تكن إندونيسيا استثناء، إذ استغل حزب التحرير المشاعر العامة تجاه غزة لاختراق الساحة السياسية والاجتماعية من جديد. ففي المظاهرات التي نظمها، كان خطاب الخلافة حاضرا بقوة إلى جانب الشعارات المناهضة للغرب والدولة القومية. بالنسبة للحزب، غزة ليست مجرد قضية فلسطينية، بل رمز لمواجهة الديمقراطية التي يراها نظاما فاشلا.
تزداد تعقيدات المشهد الفلسطيني مع تصاعد التساؤلات حول مستقبل غزة بعد انتهاء الحرب. فقد مهدت الهدنة الأخيرة الطريق للإفراج عن الأسرى وفتحت بابا لاحتمال إنهاء الصراع، لكن المسألة الأكثر إلحاحا تبقى: من سيتولى الحكم في غزة بعد الحرب؟ هذا الجدل يشمل أطرافا متعددة، بدءا من حماس التي لا تزال تحافظ على نفوذها الميداني، إلى السلطة الفلسطينية التي فقدت ثقة الكثيرين، وصولا إلى إسرائيل التي تسعى إلى ضمان أمنها في المنطقة.
وفي ظل هذه التحديات، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتصب الزيت على النار، حين قال “ستتولى الولايات المتحدة السيطرة على غزة وتحولها إلى ريفييرا الشرق الأوسط.” هذه التصريحات وفرت ذخيرة جديدة لحزب التحرير والجماعات الإسلامية في إندونيسيا لتعزيز مزاعمهم بأن الغرب يسعى لمحو فلسطين من الخارطة، مما يمهد الطريق لحملة دعائية أكثر تشددا ضد القوى الغربية. ليس هذا فحسب، بل إن مقترح ترامب بترحيل الفلسطينيين إلى مصر والأردن فاقم حالة عدم الاستقرار الإقليمي، مما أعطى الجماعات الإسلامية المتشددة فرصة لاتهام الدول العربية بخيانة القضية الفلسطينية.
في المقابل، يحمل معظم الإندونيسيين رؤية مختلفة عن حزب التحرير. فبينما يستغل الحزب القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية، يدعم معظم المسلمين الإندونيسيين حل الدولتين باعتباره النهج الأكثر عقلانية وعدالة. بالنسبة للكثيرين، لا يُنظر إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي كقضية دينية بحتة، بل باعتباره مسألة إنسانية وحقوقية بالدرجة الأولى. وهذا التوجه يتماشى مع السياسة الخارجية الإندونيسية التي تركز على الدبلوماسية والسلام والتوازن في العلاقات الدولية.
لقد تبنت إندونيسيا نهجا دبلوماسيا ثابتا في دعم القضية الفلسطينية، حيث أكدت وزيرة الخارجية ريتنو مارسودي (2019 – 2024)، أن موقف إندونيسيا ثابت ولن يتغير حتى تنال فلسطين استقلالها الكامل. وقد حظي هذا الالتزام بتقدير كبير من قبل السلطة الفلسطينية، التي منحت مارسودي وسام “نجمة الاستحقاق من وسام دولة فلسطين” تقديرا لدور إندونيسيا المستمر في دعم القضية. وأكد مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الخارجية رياض المالكي أن إندونيسيا تقف في طليعة الدول الداعمة لطموحات الشعب الفلسطيني، وتسعى إلى تحقيق استقلاله ضمن حدود الرابع من يونيو 1967، مع القدس عاصمة له.
على الرغم من هذا الدعم الرسمي الثابت، يسعى حزب التحرير إلى تشويه هذه الحقائق عبر الترويج لفكرة أن الجهاد العالمي تحت راية الخلافة هو الحل الوحيد للقضية الفلسطينية. هذه ليست مجرد اختلافات في وجهات النظر، بل هي محاولة متعمدة لتحريف الرأي العام نحو التطرف. لا يقتصر دور حزب التحرير والجماعات الإسلامية الأخرى في إندونيسيا على تعبئة الشارع، بل يتعدى ذلك إلى خلق تصور بأن الحكومة الإندونيسية فشلت في الدفاع عن فلسطين بسبب عدم اتخاذها خطوات أكثر صرامة. هذه السردية قد تعزز حالة عدم الثقة بالحكومة، لاسيما بين الأجيال الشابة التي تتعرض بشكل متزايد لدعاية الحزب على وسائل التواصل الاجتماعي. إن تفاقم الاستقطاب السياسي قد يفتح الباب أمام المزيد من التطرف، مما يجعل المجتمع الإندونيسي أكثر عرضة للأفكار الراديكالية.
يؤكد المحلل السياسي الإندونيسي المختص في شؤون الشرق الأوسط سميث الحضر أن ارتباط القضية الفلسطينية بالدين هو أحد الأسباب الرئيسية لتأثيرها العاطفي العميق على المجتمع الإندونيسي. ويضيف في حديثه لـبي بي سي إندونيسيا “هناك من يستغل القضية الفلسطينية لأغراض سياسية، وهناك من يتعامل معها بموضوعية باعتبارها قضية سياسية بالدرجة الأولى” (16 يوليو 2014). وهذا يدل على أن حزب التحرير يعتمد على العاطفة الشعبية لتعزيز شرعيته الأيديولوجية، وليس بدافع التضامن الحقيقي مع الفلسطينيين.
تستحق غزة تضامنا عالميا حقيقيا، ولكن في إندونيسيا، تحولت هذه القضية في الكثير من الأحيان إلى ورقة سياسية بيد الجماعات الإسلامية. حزب التحرير لا يدافع عن فلسطين بقدر ما يدافع عن أجندته الخاصة. إن الدعم الصادق لغزة يجب أن يستند إلى مبادئ إنسانية، وليس أن يُستغل لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة قد تهدد استقرار الدولة. ومع تنامي الدعاية الرقمية لحزب التحرير، يجب على الحكومة الإندونيسية اتخاذ خطوات إستراتيجية لضمان عدم استخدام التعاطف مع فلسطين كمدخل للتطرف وتهديد الديمقراطية.
في النهاية، فلسطين لا تحتاج إلى المزيد من الشعارات والجدل الإعلامي، بل إلى حلول حقيقية. يجب أن يبقى الدعم للقضية الفلسطينية ضمن الأطر الدبلوماسية الرسمية، دون السماح للجماعات المتطرفة بتحويلها إلى أداة لتحقيق مكاسب أيديولوجية. فإذا لم يتم التعامل مع هذه المسألة بحكمة، فقد لا يقتصر التهديد على إندونيسيا وحدها، بل قد يمتد إلى استقرار المنطقة بأكملها.
العرب