
تعاني القارة الأوروبية منذ أعوام من تصاعد التهديدات الإرهابية التي باتت تشكل تحدياً أمنياً وسياسياً واجتماعياً للحكومات الأوروبية، وعلى الرغم من التراجع النسبي في عدد الهجمات الإرهابية الكبرى خلال الأعوام الأخيرة إلا أنّ طبيعة هذه الهجمات أصبحت أكثر تعقيداً وأكثر تأثيراً على المستوى النفسي والسياسي للمجتمعات الأوروبية.
ويسلط مؤشر الإرهاب لعام 2024 الصادر عن المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات الضوء على أبرز معالم هذا التهديد مستعرضاً التغيرات في أنماط العمليات الإرهابية والدول الأكثر تأثراً والعوامل المحفزة لانتشار التطرف والجماعات المسلحة في أوروبا، كما يقدم تحليلاً معمقاً للجهود الأوروبية المبذولة لمكافحة الإرهاب والتحديات التي تواجهها هذه الجهود.
مؤشر الإرهاب في أوروبا
يشير مؤشر الإرهاب الذي يعتمده المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب والاستخبارات إلى تطورات معقدة في المشهد الأمني في أوروبا، ويعتمد المؤشر على عدة معايير منها عدد الهجمات الإرهابية المنفذة وعدد الضحايا والخسائر الاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى العوامل المتعلقة بأهداف هذه الهجمات وأماكن وقوعها، وتشير البيانات الأخيرة إلى انخفاض تدريجي في عدد الهجمات الإرهابية التقليدية إلا أنّ العمليات الفردية والمستقلة أصبحت أكثر انتشاراً وتعقيداً، ويُلاحظ أيضاً أنّ الجماعات الإرهابية تغير استراتيجياتها بشكل دوري لتبقى قادرة على تنفيذ هجمات صعبة التوقع وكثيفة التأثير.
إضافة إلى ذلك يُظهر المؤشر أنّ الخلايا الإرهابية النشطة باتت أقلّ ارتباطاً بالتنظيمات المركزية الكبرى مثل داعش والقاعدة، ويعتمد الإرهابيون بشكل متزايد على الهجمات الفردية أو ما يُعرف بـ "الذئاب المنفردة" التي يتم تحفيزها عن بعد عبر الإنترنت أو من خلال شبكات سرية محلية.
الدول الأكثر تأثراً بالإرهاب
تشير بيانات المركز إلى أنّ بعض الدول الأوروبية تتصدر قائمة الدول الأكثر تأثراً بالإرهاب مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وتواجه هذه الدول تهديدات مستمرة نتيجة لعوامل سياسية واجتماعية وثقافية.
في فرنسا تُعدّ قضايا الهجرة والهوية الوطنية والسياسات العلمانية الصارمة من بين الأسباب الرئيسية التي تجعل البلاد هدفاً مفضلاً للجماعات الإرهابية، وقد شهدت فرنسا هجمات بارزة استهدفت رموزاً دينية وثقافية مثل الهجوم على مجلة شارلي إيبدو وهجمات أخرى استهدفت المدنيين في الأماكن العامة.
أمّا في ألمانيا، فقد ارتبطت التهديدات الإرهابية بشكل كبير بأزمة اللاجئين والهجرة غير الشرعية، وتستغل الجماعات الإرهابية هذه القضية لتجنيد أفراد من الفئات المهمشة أو لتنفيذ عمليات تخريبية مستغلة الفوضى التي قد تنشأ عن هذه الأوضاع.
وفي المملكة المتحدة فإنّ التهديد الإرهابي يرتبط بتاريخ طويل من الصراعات الداخلية والسياسات الخارجية المثيرة للجدل، إضافة إلى وجود خلايا إرهابية نشطة تتغذى على التوترات العرقية والاجتماعية، كما أنّ الحكومة البريطانية تواجه تحديات كبيرة في مراقبة الأنشطة المتطرفة عبر الإنترنت وتحديد الأفراد الذين يتعرضون للاستقطاب.
أنماط العمليات الإرهابية
شهدت أوروبا تحولاً واضحاً في طبيعة وأنماط العمليات الإرهابية، وقد انتقلت من الهجمات المنظمة إلى الهجمات الفردية والعشوائية التي يصعب التنبؤ بها، وأصبحت الهجمات باستخدام السكاكين أو المركبات وسيلة شائعة للجماعات المتطرفة لتحقيق أهدافها بتكلفة أقلّ وبأساليب يصعب تتبعها. وأشار المركز الأوروبي إلى زيادة ملحوظة في استخدام التكنولوجيا مثل الهجمات السيبرانية التي تستهدف البنى التحتية الحيوية مثل أنظمة الطاقة والمواصلات والأنظمة المالية.
علاوة على ذلك تسعى الجماعات الإرهابية لاستغلال قضايا اجتماعية وسياسية مثل التوترات العرقية أو النقاشات حول الهجرة لتبرير أعمالها أو لتجنيد المزيد من الأفراد في صفوفها.
أسباب ودوافع الإرهاب في أوروبا
تعكس التهديدات الإرهابية في أوروبا مجموعة من الأسباب والدوافع التي تتشابك بين عوامل داخلية وخارجية، فعلى الصعيد الداخلي تُعتبر قضايا التهميش الاجتماعي والفقر والعزلة الثقافية من أبرز العوامل التي تدفع الأفراد للانخراط في الجماعات المتطرفة، وتشير الدراسات إلى أنّ المهاجرين وأبناء الجيل الثاني يعانون من مستويات عالية من البطالة وضعف الاندماج الاجتماعي ممّا يجعلهم عرضة للتطرف.
أمّا على الصعيد الخارجي، فإنّ الأزمات السياسية والصراعات المسلحة في الشرق الأوسط وأفريقيا تُعدّ من بين العوامل الرئيسية التي تغذي الإرهاب في أوروبا، وتستفيد الجماعات الإرهابية من حالة عدم الاستقرار في هذه المناطق لتوسيع نطاق عملياتها وتصدير إيديولوجياتها إلى الخارج.
كما أنّ التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي لعبا دوراً رئيسياً في تسهيل نشر الفكر المتطرف، وتستخدم الجماعات الإرهابية هذه المنصات لتجنيد الأفراد وتوجيههم لتنفيذ عمليات إرهابية بشكل مباشر أو غير مباشر.
جهود مكافحة الإرهاب في أوروبا
تبنت الدول الأوروبية استراتيجيات شاملة ومتعددة لمواجهة التهديدات الإرهابية، وركزت هذه الجهود على تعزيز التعاون الاستخباراتي بين الدول وتبادل المعلومات حول الأنشطة الإرهابية والخلايا النائمة، كما سعت الحكومات إلى تعزيز الرقابة على الإنترنت ومنع انتشار المحتوى المتطرف وإغلاق المواقع الإلكترونية التي تروج للعنف والتطرف.
إضافة إلى ذلك قامت الدول الأوروبية بتحسين سياساتها المتعلقة بالهجرة واللجوء لضمان عدم استغلال الجماعات الإرهابية لهذه القضايا، وتمّ اعتماد برامج إعادة تأهيل وإدماج للمقاتلين العائدين من مناطق الصراع بهدف منعهم من العودة إلى النشاط الإرهابي.
على المستوى التكنولوجي تعتمد الدول الأوروبية بشكل متزايد على أدوات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات ورصد الأنشطة المشبوهة، ممّا يساعد على تحسين قدرة الأجهزة الأمنية على التنبؤ بالهجمات وإحباطها قبل وقوعها.
التحديات التي تواجه مكافحة الإرهاب
رغم الجهود المبذولة فإنّ مكافحة الإرهاب في أوروبا تواجه تحديات كبيرة تعرقل تحقيق نتائج حاسمة، ومن بين هذه التحديات التنسيق البطيء بين الدول الأوروبية الذي يؤدي إلى ضعف في تبادل المعلومات والبيانات الحساسة، كما أنّ التمويل الإرهابي يُعدّ من أصعب الملفات، وتعتمد الجماعات الإرهابية على أساليب متطورة مثل العملات الرقمية وغسل الأموال لتمويل أنشطتها.
إضافة إلى ذلك تظل منصات التواصل الاجتماعي ساحة مفتوحة لنشر الفكر المتطرف واستقطاب الأفراد رغم الجهود الحكومية لإغلاق الحسابات والمواقع المتطرفة، وأخيراً يمثل الحفاظ على التوازن بين تعزيز الأمن واحترام حقوق الإنسان تحدياً كبيراً، وتواجه الحكومات الأوروبية ضغوطاً متزايدة للحفاظ على الحريات الفردية في ظل تصاعد التهديدات الأمنية.
ويمثل مؤشر الإرهاب في أوروبا أداة تحليلية مهمّة لفهم ديناميكيات التهديدات الإرهابية وتطورها عبر الأعوام، ومن خلال هذا التحليل يتضح أنّ مكافحة الإرهاب في أوروبا تتطلب تبني استراتيجيات شاملة تتعامل مع الأسباب الجذرية للتطرف وتستفيد من التطورات التكنولوجية لتعزيز الأمن الداخلي، وعلى الرغم من التحديات المستمرة فإنّ تعزيز التعاون الدولي والإقليمي يظل ضرورة ملحة لتحقيق نتائج مستدامة في مواجهة الإرهاب.