"مخدّرون..": الذكاء الاصطناعي والرفع من وتيرة التحكم الرقمي في الإنسان

الذكاء الاصطناعي والرفع من وتيرة التحكم الرقمي في الإنسان

"مخدّرون..": الذكاء الاصطناعي والرفع من وتيرة التحكم الرقمي في الإنسان


24/05/2023

قلة هي الإصدارات البحثية ذات الصلة بالعالم الرقمي ومعضلة الذكاء الاصطناعي التي تدفع بالقارئ لأن يُعيد النظر في تعامله مع التطبيقات الرقمية التي يتعامل معها بشكل يومي، والكتاب الذي نتوقف عند بعض مضامينه في هذا العرض يندرج على الأرجح في هذا السياق.

نحن في ضيافة كتاب يحمل عنوان "مخدرون: الإنسانية تحت سطوة علم التقنية"، للباحث الإسباني دييغو هيدالغو، والصادر باللغة الإسبانية والفرنسية على حدٍّ سواء، وهو الكتاب الذي أصبح حديث الساحة خلال الآونة الأخيرة عند متتبعي الثورة الرقمية ومنها الذكاء الاصطناعي.

يرى دييغو أنّ الثورة الرقمية اليوم جعلت الإنسان المعاصر ليس واعياً بأنّه يتعرض للخداع وحسب، أو أنّ الوضع يتجه نحو التعميم والشمولية، بل جعلته لا يستوعب أنّها تتجه نحو الحدّ أو التقليص من فعله أيّاً كان، من أبسط الممارسات اليومية إلى القرارات المصيرية

جاء الكتاب موزعاً على مقدمة و(10) فصول موزعة على (300) صفحة، متضمناً مجموعة من المراجع ذات الصلة بمضمون العمل الذي يبدو أشبه بجرس إنذار بخصوص التحديات والمخاطر التي تواجه الإنسان المعاصر مع المستجد التقني في شقه الرقمي بالتحديد.

يرى دييغو هيدالغو أنّ الثورة الرقمية اليوم جعلت الإنسان المعاصر ليس واعياً بأنّه يتعرض للخداع وحسب، أو أنّ الوضع يتجه نحو التعميم والشمولية، بل جعلته لا يستوعب أنّها تتجه نحو الحدّ أو التقليص من فعله أيّاً كان، من أبسط الممارسات اليومية إلى القرارات المصيرية، وإذا استمر الوضع على هذه الوتيرة، وخاصة مع ارتفاع وتيرة اعتماد الإنسان على الآلة في أداء مهام يومية، تحت شعار الاستفادة من التقدم التقني، فإنّ الأمر يقتضي طرح أسئلة عن احتمال السقوط في فخ الاغتراب، وهذا أمر مرعب في حدّ ذاته، معتبراً أنّنا إزاء تعريف مستجد لمفهوم الظلامية بسبب هذه المعضلة مفاده؛ أنّ الظلامية اليوم في الثورة الرقمية أصبحت تفيد نقد التقدم التكنولوجي، بحيث أصبحت أغلب الأصوات التي تنتقد هذه الانزلاقات التقنية ضد إنسانية الإنسان متهمة سلفاً من قبل الشركات التي تقف وراء هذه التطورات التقنية بأنّها أصوات ظلامية، بسبب جرأتها على نقد هذه الانحرافات.

غلاف الكتاب

تفيد إحدى أهم مضامين الكتاب، وقد تكررت في أكثر من مقام، أنّنا بصدد تأدية ثمن باهظ جداً في تعاملنا مع الثورة الرقمية مقابل المكاسب المتواضعة المحصلة منها، والأدهى أنّ نسبة من ساكنة المعمور ليست واعية بما يكفي بقيمة هذا الثمن.

تضمّن الكتاب انتقادات مباشرة وصريحة ضد ما وصفه المؤلف بـ "الأوليغارشية الرقمية"، متسائلاً عن السياقات التي أوصلتنا إلى نظام عالمي رقمي هدفه أن تتحكم فيه فئة مصغرة من الأفراد في مصائر شعوب ودول، ممّا يساهم في تقويض حرياتنا الجماعية

يرى المؤلف أنّه مع التطور الحاصل في آليات المراقبة، وكما أصبح أمراً عادياً بأنّ التكنولوجيا الرقمية تخول لفرد أو لشركة سلطة التحكم في المجتمعات، بما في ذلك تهديد المجتمعات وتهديد الإنسانية، فعلينا أن نسأل أنفسنا هل أصبح قدراً محتوماً على المجتمعات الليبرالية أن تقبل بدرجات كبيرة الحدّ من حرياتها الفردية، على غرار ما عاينّا في حقبة الجائحة؟ ويقصد ظاهرة الحجر الصحي الذي عمّ العالم.

من التكنولوجيات الصلبة إلى التكنولوجيات الغازية

تطرّق المؤلف إلى جوهر الخطاب الرقمي في حقبة الذكاء الاصطناعي، والذي يروج على سبيل المثال لشعار مضلل يزعم أنّ هذه الثورة قادرة على حل جميع المشاكل عبر الانفتاح التكنولوجي، بما تطلب من الكاتب التدقيق في المقصود من هذه التقنية وخاصة التكنولوجيات المرتبطة بالاتصالات والرقمنة، وقد أحصى في هذا السياق (3) أنماط منها، في أفق كشف المخاطر بما اصطلح عليه "سيطرة التكنولوجيات الـ (3)"، وهي التكنولوجيات الصلبة والسائلة والغازية، وهي الحالة التي تميز العصر الراهن، مع فارق أنّها تهدد الوظيفة الإنسانية.

تمتد التكنولوجيات الصلبة من عام 1960 حتى عام 2007، أمّا التكنولوجيات السائلة، فتمتد من عام 2007 حتى عام 2000، وأخيراً نحن نعيش في حقبة التكنولوجيات الغازية التي بدأت منذ منعطف 2000، وسبب ذلك أنّه في غضون ذلك العام، سوف يتم الإعلان عن إطلاق الهاتف الذكي، والذي يعتبره المؤلف في صلب الثورة الرقمية المهددة للخصوصية البشرية بشكل لا تمرّ به من قبل.

بخصوص التكنولوجيا السائلة مثلاً، فإنّها لا تشجع قط على أخذ مسافة من الإدمان أو حتى الحد منه، والأمر هنا يشبه سياسات منع التدخين في بعض الأماكن ومنع استعمال الهواتف الذكية، مع السماح به في أماكن أخرى، دون أن يفيد ذلك المنع النهائي أو التقليل من حالات الإدمان على الارتباط بالتطبيقات الرقمية، وما زاد المشهد تعقيداً أنّه مع الهواتف الذكية، ارتفعت مؤشرات الإدمان على تلك التكنولوجيا، ويقصد هنا ارتفعت مؤشرات الإدمان في حقبة التكنولوجيا الغازية، داعياً إلى ثورة كوبرنيكية بخصوص نماذج اقتصادية بديلة، وإرادات سياسية نوعية من أجل وضع حدٍّ لهذا التحكم الرقمي.

 الاستعمال المتعدد للتكنولوجيا الرقمية، والارتباط الكلي بهذه التكنولوجيا، يصب في فقدان سيطرة الإنسان على الآلة، وهذا كفيل بتدمير الحضارة الإنسانية

 

توقف الكتاب أيضاً عند مجموعة من النتائج المباشرة والمرتبطة بالاستعمالات الرقمية، وتهم تأثيرها على سلوكنا وعلى العلاقات الإنسانية، بما في ذلك أبسط الممارسات اليومية، وأحصى منها (5) نتائج على الأقل: تقويض الحياة الخاصة وتغيير أنماط التفكير؛ تصدير بعض مؤهلات الإنسان نحو الآلة وتقليص سيرورة التعلم الذاتي؛ صعوبة الظفر بالاستقرار النفسي في وسط رقمي يعلي من الوضع الظرفي؛ الرفع من الضغط الاجتماعي؛ وأخيراً إضعاف الروابط المجتمعية المؤسسة للعيش المشترك، مفصلاً في كلّ نتيجة من خلال نتائج مجموعة من الدراسات، وهذه إحدى أهم مميزات الكتاب، أي كثرة الإحالات على أعمال بحثية من عدة قارات، بحيث يبدو حتى لدى متتبعي الموضوع أنّهم إزاء فرصة لتصبح مراجع جديدة حول الموضوع، غير متداولة في الساحة، ومردّ ذلك سعة اطلاع المؤلف وتبحره في الاشتغال على الموضوع.

نقد الأوليغارشية الرقمية

بخصوص التأثير الذي تحدثه الثورة الرقمية على الحريات الإنسانية بسبب توسيع دائرة وأداء شبكات المراقبة، سواء كانت تابعة للدولة أو تابعة للقطاع الخاص، فإنّ هذا التأثير يصب على المدى المتوسط، إن لم نتحدث عن المدى القريب، في تكريس التحكم في الإنسان.

تضمّن الكتاب انتقادات مباشرة وصريحة ضد ما وصفه المؤلف بـ "الأوليغارشية الرقمية"، متسائلاً عن السياقات التي أوصلتنا إلى نظام عالمي رقمي هدفه أن تتحكم فيه فئة مصغرة من الأفراد في مصائر شعوب ودول، ممّا يساهم في تقويض حرياتنا الجماعية، مضيفاً أنّ الاستعمال المتعدد للتكنولوجيا الرقمية، والارتباط الكلي بهذه التكنولوجيا، يصب في فقدان سيطرة الإنسان على الآلة، وهذا كفيل بتدمير الحضارة الإنسانية.

من إشارات الكتاب كذلك أنّ كثرة التفاعل الرقمي، من قبيل التفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإعجابات ونشر الروابط، تساهم في تغذية البيانات الضخمة التي توظفها الشركات العابرة للقارات، وقبلها إدارات مواقع التواصل الاجتماعي، ولذلك تعتبر هذه البيانات الضخمة اليوم بترول العصر، ويتضح ذلك جلياً خلال الأعوام الأخيرة مع التطورات المرتبطة بفورة تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

يرى المؤلف أنّ الحدّ من الحرية الإنسانية يتم بشكل قسري، أي رغماً عنا، وذلك عبر وتيرة المراقبة الشاملة وقدرة المؤسسات الرقمية على التحكم في الإنسان وفي أفعاله وبالتالي التحكم في أفكاره، ومن نتائج ذلك أنّنا ننتقل شيئاً فشيئاً من مقام الإدمان على استعمال الهاتف الذكي، نحو مقام التضحية بالحرية الفردية والجماعية مقابل مكاسب متواضعة لا تضاهي سمو تلك الحريات الفردية والجماعية.

بدائل فردية وجماعية ضد التحكم الرقمي

بخصوص البدائل التي يقترحها الإسباني دييغو هيدالغو كما جاءت في الفصل العاشر من الكتاب، فقد وزعها على عدة مقترحات، تهم تارة العمل الفردي الخاص بكل مستعمل لهذه التكنولوجيات الرقمية، أو تهم العمل الجماعي والمؤسساتي، بما في ذلك حتمية تدخل الحكومات وصناع القرار من أجل مواجهة هذه المخاطر المباشرة وغير المباشرة المرتبطة بنزعة التحكم الرقمي الذي تشتغل عليه تلك "الأوليغارشية الرقمية"، معتبراً أنّه من شأن هذه البدائل التي اقترحها أن تساعدنا في مواجهة التجديدات المرتبطة بالأنظمة التكنولوجية.

على سبيل المثال، تتميز التكنولوجيا الصلبة بوجود زر الإغلاق في أغلب الآلات والأجهزة من قبيل أجهزة الكمبيوتر، داعياً إلى أهمية رد الاعتبار لفلسفة هذا الزر من أجل تقويض تأثيرات التكنولوجيا السائلة، فالأحرى مواجهة مخاطر التكنولوجيا الغازية التي كرستها الهواتف الذكية، مستشهداً هنا بما يصدر عن رموز مؤسسات التكنولوجيا أنفسهم في سياق ضبط تعامل أطفالهم مع هذه التكنولوجيا، ولهذا الاعتبار وغيره، يصف المؤلف الهاتف الذكي بأنّه براديغم التكنولوجيا السائلة.

مؤلف الكتاب

وردّاً على منتقدي هذه البدائل، أكد دييغو هيدالغو أنّ الاعتراض على هذا التحكم الرقمي الذي تمارسه علينا التكنولوجيا الرقمية في الحقبة الغازية، لا يفيد بالضرورة العودة إلى العصر الحجري، بقدر ما يروم التنبيه إلى الحق في أخذ مسافة من التحكم، والحق في العيش دون أن نصبح أسرى هذه المنصات الرقمية بما في ذلك الانفصال عنها، النسبي أو الكلي، بين الفينة والأخرى، مؤكداً أيضاً في معركة سياسية ضد الإيديولوجيا الرقمية الحلولية، ولو أخذت الإنسانية علماً بحقيقة الرهانات المرتبطة بهذه المؤسسات التكنولوجية العالمية، فإنّ هذه المعركة من المفترض أن تصبح حديث الساعة في الأعوام والعقود القادمة.

أمّا المدافعون عن الحق في الاختيار، بما في ذلك الحق في التماهي مع التطبيقات الرقمية بمقتضى أفق الحرية المتوفر فيها، فقد اعتبر المؤلف أنّه بالرغم من طابع الحرية المزعوم في خطاب المؤسسات الرقمية العالمية، إلّا أنّ الواقع يُفيد أنّها تريد عالماً تتعامل معه دون قوانين ودون قضاة، ولذلك تسعى للتأثير على الوظائف التشريعية والقضائية، سواء في قطاع التطبيقات الرقمية أو في قطاع الشركات، بهدف توسيع دائرة سلطتها بحيث تعتبر نفسها سلطة قائمة بذاتها، وليست قطاعاً اقتصادياً كباقي القطاعات الاقتصادية في الساحة، محلياً وقارياً وعالمياً.

ليس هذا وحسب، فالمؤلف لا يتردد في وصف هذه الشركات بأنّ هاجسها هو تجاوز مؤسسات الدولة، ولذلك تسعى إلى مضايقة شرعية السلطة السياسية، على اعتبار أنّ هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون نظاماً رجعياً من منظور تلك الرهانات الاقتصادية التي تشتغل عليها المؤسسات المعنية، والمقصود هنا ما يُصطلح عليه تكتل "الغافا"، أي التكتل الذي يُحيل على مؤسسات "غوغل" و"آبل" و"فيسبوك" و"أمازون"، وهناك من يضيف حرف الميم، في إحالة على مؤسسة "مايكروسوفت"، وهي مؤسسات أمريكية، مقابل مؤسسات صينية منافسة على التوجه التوسعي نفسه، قارياً وعالمياً.

مواضيع ذات صلة:

الذكاء الاصطناعي: هل سيكون أخطر من القنبلة النووية؟

الذكاء الاصطناعي.. الدماغ لن يعود حكراً على الإنسان



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية