
سلط تقرير أمريكي صادر عن مؤسسة (جيمس تاون) المعنية بتحليل السياسات الاستراتيجية للدول الضوء على الحرب السودانية وتأثير الإسلاموية والسلاح والذهب والأبعاد العرقية فيه.
وقال المركز في دراسته: إنّ السودان أنهى أكثر من ربع قرن من الحكم الإسلامي العسكري بإطاحة الرئيس عمر البشير عام 2019، الذي استند حكمه إلى الإسلاموية والتطبيق الوحشي للقوة العسكرية. وتم تشكيل حكومة مدنية عسكرية مشتركة لقيادة الانتقال إلى دولة ديمقراطية بقيادة مدنية. ومع ذلك، أنهى الانقلاب الذي قادته القوات العسكرية والأمنية السودانية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 أيّ تقدم نحو الحكم المدني، وقطع في الوقت نفسه معظم الروابط الاقتصادية والمالية للسودان مع الغرب.
وأضافت الدراسة أنّ اتفاق الإطار الذي كان سيوقع في 6 نيسان (أبريل) 2023، الذي دعا إلى الاندماج بين القوات المسلحة السودانية برئاسة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" قد فشل، لأنّ العديد من كبار ضباط القوات المسلحة ملتزمون بإيديولوجية إسلاموية ترفض فكرة الحكومة العلمانية. ولفتت الدراسة إلى أنّ أنصار الرئيس السابق في القوات المسلحة السودانية يستغلون هذا النزاع لإيجاد حالة من انعدام الأمن السياسي المواتية لعودة الحكم العسكري الإسلاموي، وفي نهاية المطاف اندلع قتال على مستوى البلاد بين الفصيلين في 15 نيسان (أبريل) 2023.
وتناولت الدراسة الأبعاد العرقية للصراع، حيث إنّ العديد من عرب دارفور، الذين يشكلون قاعدة قوات الدعم السريع، يكرهون الطبقة الحاكمة في الخرطوم، التي تتكون في الغالب من أعضاء القبائل العربية القوية في شمال السودان التي تتخذ من نهر النيل موطناً لها، والتي سيطرت على البلاد منذ الاستقلال في عام 1956: الجعليين، والدنقلا، والشايقية "البشير من الجعليين، والبرهان من الشايقية". أمّا عرب النهر، فإنّهم ينظرون بدورهم إلى عرب دارفور على أنّهم متخلفون و"أفارقة". ومثله كمثل العديد من عرب دارفور، من المرجح أن يعتقد حميدتي أنّه لن يُقبل أبداً من قبل النخبة العسكرية والسياسية النهرية. من ناحية أخرى، يُنظر إلى البرهان في دارفور بصفته المهندس الرئيس لإبادة المسلمين غير العرب، ويتذكره الناس جيداً لتهديداته بإبادة شعب الفور، الذين كانوا الحكام السابقين لدارفور.
وتابعت الدراسة: منذ أن أصبح الحاكم الفعلي للسودان في عام 2019، أظهر البرهان عجزه عن كبح جماح قوات الدعم السريع. فقد سمح لها بأن تصبح، كما يصف البعض، "دولة داخل الدولة". وقد قدمت هذه القوات لبعض الوقت تدريباً أفضل وفرصاً أكبر لكسب المال مقارنة بالانضمام إلى القوات المسلحة السودانية.
وعرضت القوات المسلحة السودانية دمج قوات الدعم السريع في الجيش خلال عام أو عامين على الأكثر. وفي المقابل، اقترحت قوات الدعم السريع جدولاً زمنياً مدته (10) أعوام، "بعبارة أخرى، ليس هناك اندماج حقيقي على الإطلاق". واقترح وسطاء الأمم المتحدة حلاً وسطاً مدته (5) أعوام، وهو ما رفضه الطرفان بسرعة.
وذكرت الدراسة أنّ سلطة ونفوذ حميدتي سوف يختفيان إذا أصبحت قوات الدعم السريع تحت قيادة هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة السودانية. وبالتالي، فقد طالب زعيم قوات الدعم السريع برفع تقاريره شبه العسكرية مباشرة إلى حكومة مدنية. وهذا من شأنه أن يحافظ على استقلالية قوات الدعم السريع، مع السماح لحميدتي بالحفاظ على دور سياسي رئيسي.
ومع ذلك، في 17 نيسان (أبريل) 2023 حلّ البرهان قوات الدعم السريع، ووصفها بحركة "تمرد"، مضيفاً أنّ الأمر داخلي، ولا يتطلب تدخل المجتمع الدولي.
وحول دور الذهب في الصراع، أوضحت الدراسة أنّ السودان الآن ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا. ولكنّ ما يصل إلى 80% من الإنتاج يتم تهريبه إلى خارج البلاد، ومعظمه إلى روسيا. وهذا لا يساهم بأيّ حال من الأحوال في زيادة إيرادات الدولة التي تقلصت بشدة بالفعل بسبب انفصال جنوب السودان الغني بالنفط.
منذ أن أصبح الحاكم الفعلي للسودان في عام 2019، أظهر البرهان عجزه عن كبح جماح قوات الدعم السريع، وسمح لها بأن تصبح "دولة داخل الدولة".
في آذار (مارس) 2023 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على شركة (إم إنفست) وشركتها التابعة لـ (سودان ميروي جولد)، وهما شركتان للتعدين مرتبطتان بمجموعة فاغنر الروسية؛ بسبب الاتجار غير المشروع بالذهب "المنهوب بالقوة من التجار المحليين". وكان مسؤول تنفيذي في منجم ذهب سوداني قد أبلغ صحيفة التلغراف في آذار (مارس) 2022 أنّ روسيا تهرّب (30) طناً من الذهب من السودان كل عام لبناء احتياطياتها، وإضعاف آثار العقوبات المفروضة عليها بسبب غزوها لأوكرانيا. ويتم نقل الذهب في طائرات صغيرة من مطارات عسكرية غير خاضعة للتفتيش الجمركي. ووصف وزير المعادن السوداني، وهو حليف لقوات الدعم السريع، هذه المزاعم بأنّها "لا أساس لها".
وكانت المناجم النائية التي تديرها شركة (ميروي جولد) تحت حراسة أفراد من مجموعة فاغنر الذين شاركوا أيضاً في تدريب قوات الدعم السريع. ومن غير الواضح ما إذا كانت فاغنر ما زالت مستمرة في أداء عملها في السودان.
وتابعت الدراسة: "في دارفور اكتُشِف الذهب في عام 2012 في جبل عامر (شمال غرب كبكابية). وفي تموز (يوليو) 2015 استولى الشيخ موسى هلال وأتباعه من المحاميد على جبل عامر بعد ذبح المئات من عرب بني حسين الذين يعملون في المناجم. وقد جنى موسى أرباحاً هائلة حتى اعتقاله في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، وانتقلت السيطرة على المناجم إلى حميدتي وقوات الدعم السريع. وبدورها سيطرت القوات المسلحة السودانية على جبل عامر في تشرين الأول (أكتوبر) 2020.
وذكرت الدراسة أنّه يتم تصدير الذهب المهرب عادة عبر جمهورية أفريقيا الوسطى التي تحتلها مجموعة فاغنر، أو عن طريق الجو إلى القاعدة الروسية في اللاذقية بسوريا. وقد اتُهم عناصر فاغنر بشنّ هجمات على عمال مناجم الذهب بالقرب من الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى. وليس لدى موسكو مصلحة كبيرة في العودة إلى الحكم المدني في السودان، حيث ستكون إحدى المهام الأولى للحكومة الجديدة هي السيطرة على صادرات الذهب لضمان وصول الإيرادات إلى الخزانة العامة بدلاً من الأيدي الخاصة.
وبعيداً عن الذهب، تم التوصل إلى اتفاق في شباط (فبراير) 2023 بين روسيا والحكام العسكريين في السودان لإنشاء قاعدة بحرية روسية على ساحل البحر الأحمر مقابل الأسلحة والمعدات العسكرية. وتسمح الصفقة التي تبلغ مدتها (25) عاماً، مع تمديد تلقائي لمدة (10) أعوام، إذا لم يعترض أيّ من الجانبين، بإنشاء قاعدة تضم (300) فرد عسكري روسي، وقادرة على استيعاب (4) سفن روسية في وقت واحد، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية، وقد أعرب دبلوماسيون فرنسيون وأمريكيون وبريطانيون ونرويجيون عن مخاوفهم بشأن المشاركة المتزايدة لشركات وأفراد مجموعة فاغنر في السودان، والتي تم تسهيل الكثير منها من قبل قوات الدعم السريع.
أمّا عن الإسلاموية في الجيش، فقد أكدت الدراسة أنّ قوات الدعم السريع اتهمت "القادة العسكريين الفاشيين" في الجيش بـ "الهوس الديني". ويحتل العديد من الإسلاميين الموالين للبشير، المعروفين باسم "الكيزان"، مناصب بارزة في الرتب العليا في الجيش. وكثف هؤلاء وحزب المؤتمر الوطني الإسلامي المحظور "الذي يعمل الآن تحت اسم الحركة الإسلامية"، نشاطهم في الصراع الأخير، ودعوا إلى اغتيال مبعوث الأمم المتحدة ومهاجمة المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في الخرطوم. ويصف الإسلاميون الناشطين المؤيدين للديمقراطية بأنّهم علمانيون يحاربون العقيدة الإسلامية في السودان.
قبل اندلاع القتال الحالي حذرت قوى الحرية والتغيير وشركاؤها من جهود حزب المؤتمر الوطني لإثارة مواجهة بين الجيش وقوات الدعم السريع من شأنها أن تخلق ظروفاً مواتية للعودة إلى الحكم الإسلامي.
وبينت مؤسسة (جيمس تاون) أنّ الإسلاميين البارزين وأعضاء حزب المؤتمر الوطني، "بما في ذلك المحتجزون بتهمة انتهاكات حقوق الإنسان"، غادروا مرافق الاحتجاز وعادوا إلى المناصب الحكومية، "خاصة الاستخبارات العسكرية ووزارة الخارجية"، بعد الانقلاب العسكري في عام 2021، بينما حلّ البرهان لجنة كُلفت بالبحث في الترتيبات الفاسدة بين حكومة حزب المؤتمر الوطني والجيش. وتم تعيين الجنرال أحمد إبراهيم مفضل، الموالي لحزب المؤتمر الوطني، في تشرين الثاني (نوفمبر ) 2022، لقيادة جهاز المخابرات العامة، خليفة جهاز الأمن والمخابرات الوطني القوي الذي فرض قبضة حديدية على المعارضة السياسية خلال نظام البشير. إنّ قوات الدعم السريع، التي يُنظر إليها على أنّها خائنة لفشلها في منع الإطاحة بالبشير، مكروهة بشكل خاص من قبل الإسلاميين.
وبعد الحرب بأيام تم إخلاء السجون في جميع أنحاء البلاد من آلاف السجناء الجنائيين والسياسيين، إمّا بالإفراج وإمّا بالفرار. ومن بين الذين خرجوا من سجن كوبر سيّئ السمعة أحمد هارون، المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وإسلاميون بارزون من نظام البشير، بما في ذلك نائب الرئيس السابق علي عثمان محمد طه، وعوض الجاز، ونافع النافع. وتزعم قوى الحرية والتغيير وقوات الدعم السريع أنّ الجيش لديه خطة لإعادة الإسلاميين إلى السلطة. ويُعتقد أنّ البشير نفسه ما يزال في مستشفى سجن عسكري.
وختمت المؤسسة دراستها بالقول: إنّه من المرجح أن يسمح انتصار القوات المسلحة السودانية بترسيخ الحكم العسكري الإسلامي، في حين قد يفسح انتصار قوات الدعم السريع المجال لحكومة مدنية، ولكن فقط تحت سلطتها، وإنّ أيّ حرب في السودان لديها فرصة كبيرة للامتداد إلى جيرانها غير المستقرين، مثل تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وجنوب السودان. وتتواجد مجموعة فاغنر بالفعل في الدول الـ (3) الأخيرة.