انسحاب فرنسا من دول الساحل الأفريقي... هل يُعرض أمن المغرب العربي للخطر؟

انسحاب فرنسا من دول الساحل الأفريقي... هل يُعرض أمن المغرب العربي للخطر؟


13/03/2022

أثار انسحاب فرنسا وشركاؤها من مالي ومنطقة شمال أفريقيا، بعد نحو (8) أعوام من تواجدها فيها، العديد من التساؤلات حول مستقبل هذه المنطقة ودول المغرب العربي، في ضوء التقارير الغربية عن تنامي البصمة الروسية.

وفي 17 شباط (فبراير) الماضي، أعلنت فرنسا وكندا و(27) دولة شريكة من أوروبا وأفريقيا عن التنسيق فيما بينها لنقل مواردها العسكرية - من بينها الوحدة الأساسية المكونة من (2200) جندي فرنسي - من مالي إلى دول مجاورة.

اقرأ أيضاً: بمبلغ (85) مليون دولار أمريكي.. مساعدات إماراتية جديدة لمواجهة المجاعة في أفريقيا

 وجاء الإعلان بعد أيام من طرد السفير الفرنسي في مالي، وأسابيع من الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو، وهي دولة أخرى في الساحل بقيت بعد الاستقلال في الفلك الفرنسي لفترة طويلة، لكنّها أظهرت في الأعوام الأخيرة عدم تسامح تجاه وجود باريس.  

وبحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، أصبح الوجود الفرنسي غير مرغوب به بشكل متزايد لدى حكومة مالي وشعبها، على مدى الأعوام الـ8 الماضية.

مراحل تطوّر التواجد الفرنسي في المنطقة

في تحليل لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تناول لويس دوغيت غروس، دبلوماسي فرنسي، تاريخ التواجد الفرنسي في المنطقة ومراحل تطور ذلك التواجد، ففي عام 2013  أطلقت فرنسا "عملية سيرفال" استجابة لطلب مالي الدعم لمنع تنظيم "القاعدة" والجماعات المتحالفة معه من الاستيلاء على العاصمة باماكو، وفي عام 2014 استُتبعت "سيرفال"  بـ"عملية برخان" التي كانت أهدافها أوسع نطاقاً، وتمثّلت في استهداف تنظيمي "القاعدة"   و"داعش"، والجماعات الإرهابية المحلية.

 ووفقاً لـ"غروس"، يُشكّل إعلان 17 شباط (فبراير) عن نقل القوات الخطوة الثانية التي يتم اتخاذها خلال الأشهر القليلة الماضية لإعادة هيكلة (تنظيم) عملية "برخان"، ففي تموز (يوليو) 2021 أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنّ الجيش الفرنسي سيغلق قواعده في شمال مالي، وكان الدافع وراء هذا التحول هو تطور التهديد نفسه، مع انتقال القادة الإرهابيين في الغالب من الشمال إلى "المثلث الحدودي" بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ وقد نتج ذلك أيضاً عن قيام الجهات العسكرية الأخرى - أي "فرقة العمل الأوروبية (تاكوبا) و"المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل" - بزيادة عدد فرقها، ممّا سمح لفرنسا بتقليص نطاق وجودها.

يثير عدم الاستقرار في دول الساحل قلقاً في فرنسا، حيث تعتمد على إمدادات اليورانيوم من (3) مناجم في النيجر ومالي

 

 وتجدر الإشارة إلى أنّ الولايات المتحدة قدّمت دعماً كبيراً لكلّ واحدة من تلك العمليات، لاسيّما من خلال إمكانيات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والنقل. وخلال قمة مجموعة الـ20 التي عُقدت في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 في روما، تعهّد الرئيس بايدن والرئيس ماكرون بزيادة تعاونهما في منطقة الساحل.

 الكهرباء الفرنسية ومصادرها في خطر

يثير عدم الاستقرار القوي في دول الساحل قلقاً خطيراً في فرنسا، حيث تعتمد صناعتها النووية إلى حدٍّ كبير على إمدادات اليورانيوم من (3) مناجم تقع في النيجر ومالي، وفقاً لتقرير نشرته وكالة نوفا الإيطالية في 17 شباط (فبرير) الماضي.

 وتمتلك فرنسا نحو (58) مفاعلاً نووياً لتوليد الكهرباء، وهي لا تبني حالياً إلّا مفاعلاً نووياً وحيداً من الجيل الجديد (المفاعل النووي الأوروبي المضغوط) بدأت أعمال بنائه في 2007 في فلامانفيل.

اقرأ أيضاً: أين تقف أفريقيا من الحرب الأوكرانية؟

 وفي نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أعلن إيمانويل ماكرون أنّ فرنسا ستستأنف بناء مفاعلات نووية لضمان استقلالها في مجال الطاقة وتحقيق أهدافها المناخية. وقال في كلمة تلفزيونية: "من أجل ضمان استقلالية فرنسا من ناحية الطاقة ولضمان إمداد بلادنا بالكهرباء وتحقيق أهدافنا، ولا سيّما حيادية الكربون في عام 2050، سنقوم لأوّل مرّة منذ عقود بإعادة بناء مفاعلات نووية في بلدنا، وسنواصل تطوير الطاقات المتجددة".

 الانقلابات وتقدّم الطغمة

يقول غروس: إنّه بعد وصول الطغمة العسكرية في مالي إلى السلطة عبر انقلاب أيار (مايو) 2021، تدهورت بسرعة علاقات البلاد مع الدول الغربية والأفريقية، فسرعان ما تبنّت السلطات الانتقالية خطاباً قومياً معادياً للوجود الفرنسي، وكانت تلك التصريحات تلقى أحياناً صدىً إيجابياً بين سكان المناطق الحضرية في باماكو.

 وسارع المجلس العسكري إلى الانحراف عن خريطة الطريق الانتقالية التي اتفق عليها مع "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا"، معلناً أنّه يخطط للبقاء في السلطة لمدة (5) أعوام، على حدّ قول غروس.

 وعلى الجبهة العسكرية، أضاف غروس أنّ السلطات المالية أعاقت تدريجياً حرية العمل الفرنسية والأوروبية، ورفضت تصاريح التحليق، ووضعت حواجز أمام انتشار القوات الغربية في المهمات المحلية.

 ظهور ذراع روسيا الاستخباراتي

يزعم الدبلوماسي الفرنسي أنّه "مع تصاعد التوترات، قامت الطغمة العسكرية بتوظيف "مجموعة فاغنر"، التي تُعتبر من أقوى الشركات العسكرية الخاصة في روسيا. ورسمياً، برّر المجلس العسكري هذه الخطوة على أنّها وسيلة لدعم المعركة ضد الإرهابيين، ولكن على أرض الواقع، كان أعضاء "مرتزقة فاغنر" يتصرفون وكأنّهم حرس الإمبراطور منذ انتشارهم في وقت مبكر من هذا العام، وهو ترتيب يعكس حرص المجلس العسكري على التمسك بالسلطة، كما لاحظ العديد من المراقبين والمسؤولين."

 

دبلوماسي فرنسي: إنّ إعادة انتشار القوات الأوروبية تمثل تغييراً استراتيجياً كبيراً بالنسبة إلى المغرب العربي والساحل

 

وإزاء هذا الانقسام السياسي والعسكري التدريجي، فرضت "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" و"الاتحاد الأوروبي" عقوبات اقتصادية ضدّ المجلس العسكري في كانون الثاني (يناير). وفي النهاية، قررت فرنسا وشركاؤها نقل قواتهم في محاولة للالتفاف على المجلس العسكري، ومحاربة التنظيمات الإرهابية انطلاقاً من البلدان المجاورة.

 وفي تقرير نُشر في 17 شباط (فبراير) الماضي قالت وكالة نوفا الإيطالية للأنباء: إنّ نفوذ موسكو قد ترسخ بالفعل على نطاق واسع في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث أرسلت حكومة بانغي في الأشهر الأخيرة إخطاراً إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تحدد فيه نيتها توفير (600) مدرّب روسي إضافي لقوات الدفاع والأمن لجمهورية أفريقيا الوسطى: (200) بين القوات المسلحة لأفريقيا الوسطى، و(200) من الدرك الوطني و(200) آخرين من الشرطة، بالإضافة إلى (535) مدرّباً روسياً موجودين بالفعل رسمياً في أفريقيا الوسطى، على الرغم من أنّ العديد من المصادر الأمنية تدّعي أنّ عدد المدربين الروس الموجودين في بانغي هو في الواقع أعلى من ذلك بكثير بين (800 و2000).

 تهديد جهادي أكبر للدول العربية

حذّر الدبلوماسي الفرنسي من تحوّل مالي مجدداً إلى قاعدة خلفية للجماعات الإرهابية، في سيناريو قد يعكس المكاسب الجوهرية التي تحققت في الأعوام الأخيرة، ويعرّض العديد من الدول العربية لتهديد جهادي أكبر، على حدّ تعبيره.

 

حذّر غروس من تحوّل مالي مجدداً إلى قاعدة خلفية للجماعات الإرهابية، ممّا قد يُعرّض الدول العربية لتهديد جهادي أكبر

 

قال غروس: إنّ "إعادة انتشار القوات الأوروبية تمثل تغييراً استراتيجياً كبيراً بالنسبة إلى المغرب العربي والساحل، ومن غير الواقعي للغاية الافتراض بأنّ بضع مئات من "مرتزقة فاغنر" وعناصر القوات المسلحة المالية، لديها القدرة على فرض الأمن في مساحة تمتد على (900) ألف كيلو متر مربع من الأراضي الشمالية المعرّضة للخطر، وتنفيذ جهود فعالة لمكافحة الإرهاب في تلك الأراضي".

اقرأ أيضاً: الولايات المتحدة تحاول قصقصة أجنحة حزب الله في أفريقيا... آخر إجراءاتها

وأوضح غروس أنّ "فاغنر والطغمة العسكرية في مالي يفتقرون إلى سلسلة قيادة فعالة وقدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع المناسبة. وربّما يفتقرون إلى الإرادة السياسية، حيث يبدو أنّ المجلس العسكري يركز على تعزيز سلطته في باماكو بدلاً من استعراض نفوذه في المناطق الهامشية"، مضيفاً: "أفاد المراقبون أنّ جزءاً من مرتزقة فاغنر في مالي قد يكونون سوريين وليبيين بدلاً من عملاء روس سابقين، وأنّهم أكثر ميلاً للتركيز على تأمين مصادر دخلهم بدلاً من محاربة الجهاديين بشكل فعّال".

 ونبّه غروس: "لذلك، هناك خطر كبير من تحوّل مالي مجدداً إلى قاعدة خلفية للجماعات الإرهابية، ومن شأن هذا السيناريو أن يعكس المكاسب الجوهرية التي تحققت في الأعوام الأخيرة، ويُعرّض العديد من الدول العربية لتهديد جهادي أكبر."

 وبالفعل، ينحدر معظم قادة العمليات و"الأمراء" الإرهابيين المفترضين، الذين قضت عليهم فرنسا، من بلدان المغرب العربي كالجزائر وموريتانيا والمغرب وتونس - من بينهم القائدان البارزان في تنظيمي "القاعدة" و"داعش" عبد المالك دروكدال وعدنان أبو وليد الصحراوي.

 ليبيا في خطر

ونبّه الدبلوماسي الفرنسي إلى أنّ تحوّل مالي مجدداً إلى قاعدة خلفية للجماعات الإرهابية قد يمثل خطراً على ليبيا أيضاً، مشيراً إلى أنّ "منطقة فزان الواقعة في أقصى الجنوب كانت في السابق قاعدة خلفية مهمّة للإرهابيين. واليوم هناك القليل من القوات المحلية المتاحة - إن وُجدت - لمراقبة طرق التهريب أو حركة المقاتلين عبر تلك الحدود التي يسهل اختراقها."

اقرأ أيضاً: "تأقلم أو مُت"... دراسة تتوقع أن تدفع أفريقيا ثمناً باهظاً لتغير المناخ.. ما الجديد؟

 وأضاف: "وبالتالي، فإنّ رحيل القوات المتحالفة من مالي قد يكون له آثار مضاعفة في الخارج، ممّا يسهّل إعادة تشكيل طرق الإمداد ومصادر التمويل للعديد من الجماعات الإرهابية العاملة عبر الصحراء."

مالي تواجه أزمة مالية... هل تلجأ للشرق الأوسط؟

أدّت العقوبات التي فرضها أبرز الشركاء الاقتصاديين والسياسيين لمالي في "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" و"الاتحاد الأوروبي" إلى عجز السلطات الانتقالية في كانون الثاني (يناير) عن إصدار سندات بقيمة (47) مليون يورو، كما شهدت البلاد عجزاً مزمناً في الميزانية، ممّا دفع المسؤولين إلى البحث عن طرق دعم أخرى.

 وفي 10 شباط (فبراير)، زار وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب الدوحة للقاء نظيره القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ووفقاً لعدة منافذ إعلامية في مالي، طلب ديوب دعماً مالياً للالتفاف على آثار العقوبات الاقتصادية.

 وبعد يومين، التقى بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في طهران، حيث أعلنا عن آلية تنسيق ثنائية مزمعة، ومع ذلك، لم تتحقق أيّ من هذه المبادرات حتى الآن.

 الموقف الجزائري

رأى الدبلوماسي الفرنسي أنّ السلطات الجزائرية قد تعيد النظر في إعادة تنظيم "عملية برخان" بـ"تفاؤل حذر" من الناحية النظرية، مضيفاً: "ربّما ترحّب برحيل مستعمرها السابق- فرنسا- عن حدودها الجنوبية. وقد تفكّر أيضاً في لعب دور دبلوماسي نشط لإحياء اتفاقية الجزائر للسلام لعام 2015، والتي ضمنت وقف إطلاق النار بين الجماعات المسلحة للطوارق والحكومة المالية."

اقرأ أيضاً: معلومات استخبارية عن أنشطة "القاعدة" و"داعش" في أفريقيا

 وأشار إلى أنّه "نظراً إلى علاقات الجزائر القوية مع موسكو، من الممكن أن تطمئن حتى من احتمال وجود نفوذ روسي أكبر في الدول المجاورة من خلال مجموعة فاغنر"، لافتاً إلى أنّه "عملياً، قد يؤدي الانتقال المفاجئ لقوات مكافحة الإرهاب الأوروبية جنوباً إلى دوامة استراتيجية في العاصمة الجزائرية، فعلى المستوى الدبلوماسي، لم يحرز الطرفان تقدّماً يُذكر في تنفيذ اتفاق الجزائر للسلام بعد الانقلاب الأول الذي حدث في مالي في آب (أغسطس) 2020، وكان التقدم أكثر ضعفاً بعد الانقلاب الثاني في أيار (مايو) الماضي. وفي الوقت الحالي لا يُظهر المجلس العسكري أيّ اهتمام بتحسين الوضع في الشمال."

 

حذّر الدبلوماسي الغربي من أنّ تحوّل مالي إلى قاعدة خلفية للجماعات الإرهابية قد يمثل خطراً أيضاً على ليبيا

 

ورجّح غروس أنّه "قد يؤدي نشر وكلاء فاغنر هناك خلال الأشهر المقبلة إلى إثارة التوترات مع الطوارق، والتي قد تنتقل عبر حدود الجزائر الجنوبية الطويلة التي لا تخضع لمراقبة تُذكر، وعلى وجه التحديد في المناطق التي تكمن فيها بعض أهم المواد الهيدروكربونية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، إنّ سجل فاغنر في عرقلة الدول المجاورة (على سبيل المثال، جمهورية أفريقيا الوسطى) قد يدفع الجزائر إلى التريث."

 الحلول المقترحة

شدّد الدبلوماسي الغربي على ضرورة مواصلة الضغط السياسي والاقتصادي الغربي على المجلس العسكري في مالي للحدّ من التداعيات المحتملة على دول المغرب العربي، من خلال تشجيع العملية الديمقراطية، والحدّ من نفوذ موسكو.

 وأضاف غروس: "في سياق الحرب على أوكرانيا، يجب مراقبة أيّ تقدم محتمل للأصول الروسية بحذر، ومن المهم بشكل خاص التركيز على التواصل الاستراتيجي من أجل التصدي للسرديات الروسية والجهادية."

 ورأى غروس أنّ إشراك الجزائر للمساعدة في تخفيف التوترات بين الطوارق والحكومة المالية "قد يكون خياراً دبلوماسياً مناسباً"، مضيفاً: "بالإضافة إلى الجهود المتجددة لتنفيذ اتفاق السلام لعام 2015، يمكن أن تكون الجزائر حليفة في الحفاظ على دور بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي"، والتي قد تكون مهددة من قبل المجلس العسكري و"مرتزقة فاغنر".

 والبعثة الأممية مسؤولة رسمياً عن مراقبة تنفيذ اتفاق الجزائر، ومكلّفة بمراقبة احترام حقوق الإنسان أيضاً، ممّا قد يمنحها حرّية العمل للمساعدة في مراقبة أنشطة "فاغنر". ومن المهم أيضاً الحفاظ على حسن سير أعمال البعثة الأممية للحدّ من العواقب السلبية على الجزائر والمغرب العربي الأوسع.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية