رواية "رغوة سوداء": لاجئون أفارقة في جحيم "الفردوس الإسرائيلي"

رواية "رغوة سوداء": لاجئون أفارقة في جحيم "الفردوس الإسرائيلي"


04/10/2018

يحاول الكاتب الإريتري حجي جابر في عمله الروائي الأحدث "رغوة سوداء" الصادر عن دار تنوير للنشر (2018) التعرف إلى عالم لاجئي الاضطهاد والديكتاتورية الإريترية المنتشرين في أصقاع العالم، ويحاول كذلك تعريف هذا الكائن اللاجئ، الذي سينتقل من محطة إلى أخرى، ليكتسب أسماء جديدة، وديانات مختلفة، وليحاول في كل مرة، الوصول إلى الفردوس الأرضي.

تستند الرواية إلى عددٍ من الوقائع التاريخية والاجتماعية مثل فكرة هجرة يهود الفلاشا إلى إسرائيل في بداية التسعينيات

تنفتح الرواية بسرد قصة شاب يُدعي داويت الذي لم يكن يهودياً، فاخترع لنفسه شخصية جديدة، مغيّراً اسمه وتاريخه، وليجرّ خلفه حمولات ثقيلة، حتى يستطيع الخروج مع يهود الفلاشا إلى إسرائيل. وهناك تبدأ معاناة جديدة يكتشفها في المهاجرين سُمر البشرة الذين سبقوه إلى هناك، ويدخلنا الكاتب في تفاصيل حياتهم وبؤسهم ومعاناتهم، ثم في حياة وبؤس الذين هاجروا إلى أرض الميعاد مع حلم أنهم ستوفر لهم حياة كريمة.

لكن ما أن يصل إلى "أرض الميعاد"، حتى يتبدّد وهم الفردوس الإسرائيلي، ليلجأ إلى تغيير اسمه مرة أخرى ويعيش حياة أخرى، لكن كل هذا لم ينقذه من حالة الخوف التي يواجهها، ولا من التمزقات التي يعانيها، سواء بسبب لون بشرته أو بسبب كونه مهاجراً.

لعبة السرد

لا يخلو العمل الروائي عند جابر، وفي "رغوة سوداء" بشكل خاص من نبرةٍ جمالية، ولغة مشدودة، ككتلة عضل، مع ملكة جيدة في الحكي، أو في الاختلاق بالأحرى، "وما الحكي إلا اختلاق، عدا ذلك هو محض تقليد رديء لساعي البريد"، تقول الرواية. (ص 212)

غلاف رواية "رغوة سوداء" لحجي جابر

عمل جابر يقوم بنزوعٍ واضحٍ للسرد التوثيقي، وبالتقاطٍ واعٍ للتفاصيل، بخلق الحكايات. يتجلّى ذلك من قدرة داويت على نسج عشرات القصص في محاولاته إقناع موظف مكتب الأمم المتحدة للاجئين في توطينه في بلد أوروبي، في سرد يذكرنا بشهرزاد في "ألف ليلة وليلة"، تلعب الحكاية هنا الدور نفسه؛ أن تمد لصاحبه/ها حبل النجاة، عليه أن يسترضي الموظف الأوروبي بمكتب اللجوء بحكاياته، حتى يمحنه فرصة اللجوء إلى أوروبا، وأي اختلال في تماسك الحكاية، أي نتوءات، ستظهر في وجه الأوروبي على شكل لا.

اقرأ أيضاً: فيفيان نوري.. من مخيمات اللجوء إلى هوليوود

يبرع الكاتب في الانتقال ببطله بين زمنين وعدة أماكن، مستخدماً عدداً من التقنيات السردية، فهو ينتقل بين ماضي (داويت) وحاضره من خلال تغيير اسم البطل، دون أن يحتاج إلى استدعاء تاريخ محدد. إذ يعرف القارئ أن (داويت) هو البطل بعد انتقاله من أديس أبابا إلى إسرائيل، أما الماضي فيحمل اسم (ديفيد) مرة و(داود) مرة أخرى. ويتنقل مكانياً بين مخيمات (نداغبونا) و(غوندار) في كل من إرتيريا وإثيوبيا، بكل ما تحويه تلك الأماكن من آلام وصراعات.

الغوص في قلب المأساة

تضعنا الرواية في قلب التمزقات الداخلية التي تعانيها شخصية الشاب داويت، وتصور لنا الفراغ الداخلي الذي يواجهه، وشكوكه عن جدوى مواصلة الطريق، لا يعرف اذا ما كان يقصد مسجد الأقصى أم كنيسة القيامة أم الحائط، أو عما إن كان سيصبح داود أم ديفيد م داويت، "كل الذي يعرفه أنه فارغ من الداخل ويبحث عن شيء يستند عليه". (ص 233)

الكاتب الإريتري حجي جابر

مجيئه إلى إسرائيل متطابق بشكل مذهل في حياته في الجحيم الإرتيري، ورحلة مجيئه إلى إسرائيل تشبه رحلة هروبه منها، "كأنما كتب عليه أن يتنقل من بلد إلى بلد ولا وطن في الطريق". (229)

استناداً إلى الواقع

تستند الرواية إلى عددٍ من الوقائع التاريخية والاجتماعية، مثل فكرة هجرة يهود الفلاشا إلى إسرائيل في بداية التسعينيات، وعن وجود الأفارقة في القدس، وهم أناسٌ أتوا إلى مدينة القدس لأسباب مختلفة، حسبما تشرح شخصية ماريل؛ صاحب المحلّ التجاري: "بعضهم جاء لمجاورة الأقصى، وهؤلاء يطلق عليهم المجاورون، والبعض جاء يحارب إسرائيل بمجرد أن أعلنت دولتها عام ثمانية وأربعين، وهناك أفارقة أقدم جلبهم البريطانيون لبناء سكة القطارات، وحين عادوا إلى بلدانهم سحروا الناس بحكاياتهم عن القدس". (ص 240)

اقرأ أيضاً: رواية آلموت.. رحلة أدبية في مجاهل الإرهاب المقدس

لكن هل هم فلسطينيون؟ ليست المسألة محسومة تماماً، ولكن حسبما تقول شخصية ماريل؛ هم خصوم لإسرائيل، لكنهم مضطرون بالوقت نفسه لاستخدام هوية زرقاء تعود لها، "المضحك أنّ إسرائيل تكتب في خانة الجنسية "أردني" بحكم أنّ القدس الشرقية كانت تتبع الأردن قبل أن تحتلها إسرائيل، لكن الأردن يحرمهم من وثائقه ويعتبرهم وافدين على المكان. ولأنّ اتفاق أوسلو يمنع السلطة من منح سكان القدس هويات فلسطينية، لم يجدوا بدّاً من استخدام وثائق خصومهم". (ص 240)

الإسرائيليون يعادون السود هناك بسبب موقفهم من الاحتلال

تزيد هذه المفارقات من حالة التيه التي يعشيها داويت؛ فالإسرائيليون يعادون السود هناك بسبب موقفهم من الاحتلال، وبعض الفلسطينيين لم يتقبلوا لون بشرتهم. إنها الرغوة السوداء، تطفو على السطح رغم كل محاولاتها أن تصبح في قلب المكان. ومن هنا تأتي بلاغة العنوان.

قوة الحكاية

إنّ قيمة هذه الرواية تظهر من خلال سرد معاناة داويت داخل مسارين؛ الأول أدبي يتمتع بالعاطفة الإنسانية العميقة، ومسار إنساني أو توثيقي، يتعلق بشرح أوضاع اللاجئين الإريتريين، وهو مسار عُرف به الكاتب في معظم أعماله السابقة: (سمراويت؛ 2012) و(مرسي فاطمة؛ 2013) و(لعبة المغزل؛ 2015). وعبر السرد التوثيقي الواقعي الأقرب إلى الشهادات الأدبية، يظهر الكاتب ليس مجرد ناقل لقصص الآخرين، وموثق لها، إنما هو صاحب الحكاية.

إنها الرغوة السوداء تطفو على السطح رغم محاولاتها أن تصبح في قلب المكان ومن هنا تأتي بلاغة العنوان

سنعرف في نهاية الرواية، أن حجي جابر كتب هذه الرواية لروح الشاب الإريتري "هبتوم ولدي ميكائيل زرئوم" الذي قتلته الشرطة الإسرائيلية عن طريق الخطأ، لكنها بدت مرتاحة حين عرفت أنّ قتلها له مجرد خطأ تافه لا يستوجب الاعتذار لأحد، فهو محض لاجئ، دخل إلى بلادها بطريقة غير شرعية، فيما انشغل الفلسطينيون بالتساؤل، ولم جاء الإريتري إلى بلادنا؟.

من هنا أيضاً تحسب لحجي جابر براعة نجاته من نرجسية السرد الذي تتسم به أغلب الروايات التوثيقية من هذا النوع، حين تعتبر الضحية أنّ آلامها هي الآلام الوحيدة في هذا العالم، فتعمّد الكاتب في هذا العمل بفضح آخر نظام كولونيالي في العالم؛ كولونيالية إسرائيل، وعنصريتها وممارستها القتل المجاني بحق أصحاب الأرض، وبحق الذين خدعتهم بوعود الخلاص والميعاد.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية