صور الأطفال التي هزّت العالم...هل هذا ما حدث فعلاً؟

صور الأطفال التي هزّت العالم...هل هذا ما حدث فعلاً؟


12/09/2018

يحمل الحضور الكثيف لصورِ ومقاطع فيديو الأطفال في وسائل الإعلام، لا سيّما على مواقع التواصل الاجتماعي خاصةً، أسئلةً واسعةً، غالباً ما يتمّ تجاهلُها في معرض انسياقنا الأعمى وراء الصورة، التي أصبحت النافذة العامة للعين البشرية؛ فمن منّا يأخذ موافقة طفلهِ على نشر صورةٍ  له أو مقطعِ فيديو؟ نحن نُعامل أطفالنا بقوانين التبعية، التي أملاها شكلُ الأسرة الممتدة في مجتمعاتنا، والتي تحمل في تضاعيفها عدم اعترافٍ صريحٍ باستقلال ووجود أطفالنا.

نُعامل أطفالنا بقوانين التبعية التي أملاها شكلُ الأسرة الممتدة والتي تحمل في عدم اعترافٍ باستقلال أطفالنا

في إحدى القنوات العربية، أُجريت مقابلة مع طفلٍ، لِما أثار من ضجةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب صوره التي نشرتها والدتُه له لتُشارك العالم الافتراضي جماله، ومن خلال المشاهدة، يتضح إجبارُ الطفل على هذه المقابلة في انفجار غضبه ومحاولته نزع الميكروفون وإنهائه المقابلة قائلاً: "أزعجتوني" ومع ذلك، لم يُعرْ أحدٌ اهتماماً لانزعاجه، لا المذيع ولا والداه، لقد استمرت المقابلة ولم توقفهم كلمة "أزعجتوني" عن نشرها، ولا المشاعر التي تقف وراءها. ربما لحسن حظّ بعض أطفال العالم كأطفال فرنسا، أنّ حكومتهم استصدرت "قوانين الخصوصية الصارمة" وهي عقوبات تشمل الوالدين قد تصل إلى سجن عام، وغرامة 45000 يورو، إذا أُدينا بنشر تفاصيل حميمة عن أطفالهم دون موافقتهم.

الاهتمام الذي تحولّ إلى هوسٍ بالصورة، جعلَنا نغفل عمّا قبلها وما بعدها، لنشكّل للآخر رؤية مثالية ومكتملة من خلال لحظةٍ مؤطرة؛ حيث نُعلّم أطفالنا الابتسامات اللاصقة أمام الحدقة الزجاجية، دون أنْ ننتبه إلى أنّ الحياة أهم من الكاميرا التي ننفق الحياة عليها لنلتقط صورة للحياة. أليست إهانة لإنسانية أطفالنا ومشاعرهم حين نحتفل بصورهم أكثر منهم؟ إحدى المدارس نشرت صوراً على صفحتها في موقع الفيس بوك، التقطتها من احتفالٍ أقامته للترحيب بالأطفال في بداية هذا العام الدراسي، تلك الصور الجميلة التي توحي بجهدٍ تربويٍّ تمّ بذله، لم توثّقْ ما قالته إحدى مشرفات المدرسة لتلميذٍ بعمر ثمانية أعوام أثناء الاحتفال "وقّف منيح يا حيوان"، هذه الجملة التي تهدم منظومة تربوية بأكملها!

لحسن حظّ بعض أطفال العالم  أنّ حكوماتهم استصدرت قوانين خصوصية صارمة تُدين نشر تفاصيل عنهم  دون موافقتهم

إذا تجاوزنا واقع الطفل الآمن، إلى واقع الطفل في مناطق النزاع، وهي كثيرة في مجتمعاتنا، ستأخذ الصورة بُعداً مختلفاً قلّما تتدخل به الحلقات الأقرب للطفل؛ كالأسرة والمدرسة، هذا البعد الذي يتجاوز منطق الخصوصية، بحكم واقع الحرب بما هي هدرٌ كامل لإنسانية الإنسان، يحيل الصورة إلى رسالة، تنقل آثار العنف والتوحش، على أطفالٍ تضمن سلامتهم جميع الشرائع والمواثيق الدولية ورقياً، وبمقدار ما تكون صور الأطفال المنكوبين صادمةً، بمقدار ما يطفو الضمير الخشبي للعالم، لهذا تتم تغذية قنوات الإعلام ومواقع التواصل بصورٍ يمحو بعضها بعضاً؛ إذ إنّ هذا السيلان يفرغ الصورة من المعنى.

الهاجس الإنساني لجملةٍ من المصورين، الذين قد يدفعون أرواحهم في محاولاتهم لالتقاط صورة، لا يمكن إغفاله ولا التقليل من شأنه، فهناك الكثير من الصور التي التقطوها، قد شغلت وسائل الإعلام، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وأبكت مذيعي الأخبار على الهواء مباشرةً أثناء تقديمها، صورٌ يقال إنّها "هزت العالم"؛ ولنا أن نسأل كيف تبدّت هذه الهزة؟ هل غيّرت مجرى الأحداث "كصورة الفتاة كيم في حرب الفيتنام"؟ هل أوقفت مآسي هؤلاء الأطفال؟ هل أعادت تفكير مشعلي الحروب وتجارها بمدى غبائهم وتوحشهم؟ الواقع يجيب على ذلك، إنها هزّةٌ آنيّةٌ ينتج عنها تعاطفٌ آنيّ، لا يلبث أن يخبو، إنها بمثابة "أكشن" يُستثمر في الغايات الرخيصة لقنوات الإعلام، ومواقع التواصل، بالتلاعب بمنسوب أدرينالين البشرية، من أجل تحقيق نسب متابعةٍ مرتفعة، تفوح منها رائحة الربح، المبدأ ذاته الذي تقوم عليه الحرب.

هل غيّرت صورة الفتاة كيم في حرب الفيتنام مجرى الأحداث أو أعادت تفكير مشعلي الحروب بمدى وتوحشهم؟

إنّ استغلال الطفل لأيّ غرضٍ دعائيّ، هو انتهاكٌ للطفولة وللإنسانية، ويبدو أنّ الطفولة سلعة مربحة، لما تحققه من نسب المتابعة المرتفعة كما ذكرت؛ فالنشاط الإعلامي لكثير من القوى يتعمّد عرض صورٍ ومقاطع فيديو للأطفال، لإيصال رسائل من خلالهم، وهذا ليس ببعيد عمّا تنتهجه الجماعات المتطرفة، في بث صورٍ ومقاطع لأطفالٍ يتدربون على السلاح، أو يُجبرون على تنفيذ أعمال يندى لها جبين الإنسانية، وربما ما تعرضه داعش على قنواتها ومواقعها خير مثالٍ على ذلك.

وإذا تقصّينا المشهد بشكلٍ أوسع، قد نضع الكثير من إشارات الاستفهام حول عمل منظمات المجتمع المدني المهتمّة بالشأن الإنساني؛ حيث قام الكثير منها بحملات إعلامية ترتكز على صور الأطفال، مرفقةً إياها بأرقام حساباتٍ بنكيةٍ من أجل التبرع، وقد حصلت هذه المنظمات على مبالغ كبيرةٍ في كثيرٍ من الأحيان، والمفاجئ أنّ ما تم إنفاقه على الطفل يكاد لا يُذكر قياساً بالمبالغ المجموعة، بالإضافة إلى أنّ الكثير من المساعدات أو النشاطات التي قُدّمت تحت ضوء الكاميرا، كانت تهدف إلى الشهرة والتسويق الشخصي، أو التسويق للمؤسسة التابعة لمنظمة من المنظمات.

ثقافة الصورة باتت الثقافة الرسمية للعالم وتعتمد على ذاكرةٍ مؤقتة، ثقافة تؤسس للنسيان والسطحية

إننا نمتلك أرشيفاً عظيماً لمآسي الأطفال، وقد يكون جزءاً منه المعارض الفوتوغرافية التي شغلت أهم صالات العرض العالمية، هذه المعارض توثّق لجرائم وانتهاكات من خلال لقطات فنية لتلك المآسي، فصور أطفال سورية ولاجئيها احتلت أولى المراتب في جوائز أفضل الصور الصحافية العالمية للعام 2015 من منظمة "وورلد برس فوتوز" وقد جاء على لسان المنظمة "أنّ الصور الفائزة سوف تدور على أكثر من 50 مدينة حول العالم في معارض مختلفة لتعرّف عن المصورين الصحافيين وعن طبيعة أعمالهم". هذه المعارض التي سيذهب إليها المهتمون بكامل أناقتهم، ما الذي سيثيرهم؟ فنيّة الصورة؟ أم المصور الذي خاطر بحياته؟ أم محتوى الصورة؟ ربما مرةً أخرى نحتفل بالصور على حساب الحياة، هذه المساهمات الجانبية رغم جديتها لم تُثمر، واقع الطفل السوري الذي ازداد سوءاً يؤكد ذلك.

إنّ ثقافة الصورة باتت اليوم الثقافة الرسمية للعالم، إنها ثقافة تعتمد على ذاكرةٍ مؤقتة، ثقافة تؤسس للنسيان والسطحية. الصورة التي باتت الاعتراف الوحيد بالوجود، في عالمٍ قلقٍ مهددٍ بمحو كل القيم، هي فقط اعترافٌ بوجودٍ افتراضي، يغيب عنه العمق الذي ساهم يوماً ما في ارتقائنا. صور أطفالنا جزءٌ من خصوصيتهم، وهي أمانة بين أيدينا، ونشر هذه الخصوصية ذنبٌ ربما يُغتَفر، إذا صبّ في مصلحة الطفل بشكلٍ فعليّ، وإلّا فنحن نخون هذه الأمانة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية