هل ينجح قيس سعيّد في تمرير مشروع الدّستور الجديد؟

هل ينجح قيس سعيّد في تمرير مشروع الدّستور الجديد؟


20/07/2022

في أيار (مايو) الماضي، أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد مرسوماً يتعلق بتشكيل "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، كي تعدّ مشروع دستور جديد. وقد عيَّن على رأسها عميد كلية الحقوق السابق الصادق بلعيد، أحد المتحمسين لمشروع الرئيس. وفي 20 حزيران (يونيو)، قدم رئيس اللجنة للرئيس مشروع الدستور. ومع ذلك، فإن النص الذي نشرته رئاسة الجمهورية في الجريدة الرسمية، كان بعيداً جداً من المشروع الذي صاغته اللجنة. ألقى هذا الخلاف بين الرئيس واللجنة التي كلفها إعداد الدستور، وهو خلاف من داخل المعسكر المؤيد للرئيس، بظلاله على الجدل العام حول فصول الدستور.

سعياً إلى مزيد إحكام السيطرة على السلطة، هندس الرئيس سعيد دستوراً على مزاجه. خلافاً للدستور الحالي، فإن مشروع الدستور الجديد يمنح رئيس الدولة صلاحيات وسلطات واسعة، تبدو أكبر مما هي حتى في الدول ذات النظام الرئاسي كالولايات المتحدة وفرنسا. والنزعة الرئاسوية في هذا الدستور تبدو واضحة في حيازة رئيس الدولة كل صلاحيات السلطة التنفيذية، وتعزز موقع الرئيس في النظام السياسي، مع عدم وجود روادع رقابية أو قضائية في مواجهة هذه السلطة المطلقة. فالرئيس ليس مسؤولاً، لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الجنائية. ويملك صلاحية اللجوء إلى حالة "الاستثناء" من دون حد أو قيد من المحكمة الدستورية، كما هي الحال في الدستور الحالي. ويملك تسمية الحكومة وإقالتها، من دون حاجة لنيل الثقة من البرلمان وحق تسمية قضاة المحكمة الدستورية، التي تقلصت صلاحياتها بوضوح.

وسعياً أيضاً إلى إنزال "أحلام الديموقراطية المباشرة" التي يهواها الرئيس منذ سنوات إلى حيز الواقع، وضع الرئيس اللبنات الأولى لمشروعه "التاريخي". من دون الجهر بذلك، يبدو واضحاً من خلال مشروع الدستور الجديد، أن الرئيس قيس سعيد يريد ترسيخ مشروعه للبناء القاعدي ضمن النظام السياسي الجديد، ذلك أن فصولاً كثيرة من من الدستور الذي طرحه تشير إلى هذا التوجه، ومنها إنشاء غرفة ثانية للبرلمان تسمى "المجلس الوطني للجهات والأقاليم''، يتكون من نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم، وقد منح صلاحيات وسلطة مساوية لصلاحيات الغرفة الأولى للمجلس النيابي، فيما تم التخلي في هذا المشروع نهائياً عن مسألة "اللامركزيّة" مع الإحالة على "المجالس المحلية"، وهي إحدى الهياكل الرئيسية في مشروع البناء القاعدي للرئيس.

وشأنه شأن كل الخطوات التي أقدم عليها سعيد منذ 25 تموز (يوليو) 2021، أثار مشروع الدستور الجديد، مع ما صاحبه من خلاف مع أعضاء اللجنة الاستشارية، جدلاً محلياً واسعاً، وتراوحت المواقف تجاهه بين التأييد والرفض والحياد. وعلى الرغم من أن الرئيس التونسي ما زال يحافظ على مستوى من الشعبية، إلا أنه يكاد يكون قد خسر أغلب الأحزاب السياسية والمنظمات التي دعمته منذ إعلان حالة الاستثناء. لذلك عبر عدد قليل من الأحزاب السياسية الوازنة عن قبول مشروع الدستور الجديد والدعوة إلى التصويت له في الاستفتاء العام، أغلبها أحزاب قومية عربية، ليس غريباً عليها الهوس بالقائد المخلص.

في المقابل، كانت جبهة الرفض أكثر عدداً. وينقسم الرافضون لدستور سعيد إلى قسمين: قسم أول يضم الأحزاب والمنظمات الرافضة لمسار الرئيس منذ 25 تموز (يوليو) 2021. أما القسم الثاني فلا ينطلق من رفضه للدستور الجديد من رفض لمسار الرئيس كلياً، لكنه يرفض صيغة الدستور بوصفه دستوراً يركز السلطات على نحو مطلق في يد الرئيس وغير واضح في مسألة الهوية والدين. في المقابل، اختار الاتحاد العام التونسي للشغل، المركزية النقابية ذات التمثيل القوي شعبياً وسياسياً، البقاء على الحياد، بعدما قرر "ترك حرّية التصويت – على مشروع الدستور الجديد - لفائدة الهياكل النقابية".

لكن الاتحاد سجل في الوقت نفسه تحفظات عديدة عن نسخة الدستور المقترحة للاستفتاء، منها "غياب النص عن الطابع المدني للدّولة، وإغفال منظومة القيم الكونية وما شاب بعضها من تقييد أو غموض، كبعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وفي غياب الضمانات أو نفي الهيئات التعديلية، ما قد يتهدّد الحريات والحقوق عند الممارسة والتأويل ويوفّر الفرصة لانتهاكها". كما تحفّظ أيضاً على "التجميع الكبير للسلطات والتركيز الواسع للصلاحيات لدى رئيس الجمهورية في المشروع المقدّم، وغياب تسقيف المواعيد الانتخابية، وتحجيم باقي الهيئات الدستورية وهياكل الدولة، وغيرها من العناصر الغامضة أو الملغَّمة، وهو ما من شأنه أن يهدّد الديموقراطية".

لذلك، يمكن اعتبار بقاء المنظمة النقابية على الحياد انتصاراً للرئيس سعيد، إذ يعادل قرارها البقاء على الحياد ويفوق قوة الرفض في المعسكر السياسي، ذلك أن دعوة اتحاد الشغل إلى التوصيت بــ"لا" أو مقاطعة الاستفتاء على الدستور كان يمكن أن تفشل مشروع الرئيس نهائياً، لما يملكه من قوة شعبية وجهاز تنظيمي واسع ومؤثر في كل أنحاء البلاد وقطاعات المجتمع.

يتوجه التونسيون يوم 25 تموز إلى مكاتب الاقتراع للتصويت في الاستفتاء العام حول مشروع الدستور الجديد، ورغم اختلال موازين القوى الشعبية لفائدة الرئيس قيس سعيد في مواجهة خصومه، إلا أنه سيوجِد للمرة الأولى في تاريخ تونس المعاصر انقساماً سياسياً حاداً وواضحاً حول مشروع الدستور، بعد تجربتين سابقتين في 1956 و2014. 

بيد أن سيناريو نجاح الاستفتاء وإقرار الدستور الجديد، يبدو الأقرب إلى التحقق، لجهة الشعبية التي ما زال يحظى بها الرئيس حتى الآن، وتطور القوى الشبابية والاجتماعية الداعمة له على المستوى التنظيمي، بخاصة أن الرئيس ما زال يحظى بدعم قوي من مؤسسات الدولة الصلبة، الأمنية والعسكرية، ويسيطر بالكامل على الجهاز الإداري، وهذه الأجهزة ستعمل بالتأكيد على إنجاح الاستفتاء، بوصفه ليس فقط استفتاءً على مشروع الدستور، بل هو في الحقيقة استفتاء على شرعية الرئيس نفسه. ومن المحتمل أن يمضي سعيد مباشرة بعده في وضع القانون الانتخابي الذي ستُجرى على أساسه انتخابات 13 كانون الأول (ديسمبر) 2022 التشريعية، والذي ستكون ملامحه قريبةً جداً من البناء القاعدي الذي يريد الرئيس تكريسه، من خلال الاقتراع على الأفراد وسحب الوكالة من النواب، والانتخاب من القاعدة إلى القمة عبر المجالس المحلية والجهوية، وتصعيد النواب عبر المحليات وليس من خلال الانتخاب المباشر للبرلمان.

ومع ذلك، يمكن أن يكون ضعف المشاركة الشعبية نقيصة أيضاً في مسار الاستفتاء، كما كان الشأن بالنسبة إلى الاستشارة الوطنية الشعبية الرقمية، التي لم يتجاوز عدد المشاركين فيها نصف مليون مواطن من مجموع تسعة ملايين يحق لهم التصويت، رغم الاستعانة بكل أجهزة الدولة لإنجاحها مطلع العام الحالي. في المقابل، لم يضع الرئيس التونسي أي عتبة لنسبة المشاركة كي يتم من خلالها تحديد نجاح الاستفتاء من عدمه، تاركاً الباب مفتوحاً أمام كل التأويلات، والتي تذهب في معظمها في اتجاه أنه سيُعلن عن نجاح الاستفتاء مهما كانت نسبة المشاركة، وهو ما يفتح المجال واسعاً أمام الطعن في نتائج الاستفتاء سياسياً وليس قانونياً، ويضعف كثيراً من شرعية الرئيس سعيد الشعبية ويعزز موقع المعارضة.

لكن من خلال المسار السياسي الذي يسلكه الرئيس سعيد منذ عام تقريباً، فإنه في حال وقوع هذا الاحتمال، فإن سعيد لا يبدو أنه قابل للتراجع عن تنفيذ مشروعه في تكريس البناء القاعدي وتغيير النظام السياسي نحو ما يعتبره "ديموقراطية مباشرة"، وتحوّل سرديته الشعبوية من مجرد خطاب وشعارات إلى نهج وممارسة.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية