إثيوبيا والصراع الأهلي... هل تنتصر المركزية أو الفيدرالية؟

إثيوبيا والصراع الأهلي... هل تنتصر المركزية أو الفيدرالية؟


26/12/2021

برز اسم إثيوبيا خلال الأعوام الأخيرة مع قضية وأزمة "سد النهضة"، التي ترافقت مع الحديث والتأكيدات على أنّها دولة صاعدة وناهضة تنفض غبار الماضي ومآسيه، وتتطلع لمكانة مرموقة بين الأمم. إلا أنّه مع تصاعد الصراع الأهلي خلال الأشهر الأخيرة، سرعان ما عادت إلى الواجهة صورة مغايرة، حيث ظهرت من جديد كدولة أفريقية مُرهَقة، تمزّقها الصراعات الداخلية وتهدد مستقبلها. فهل تذهب هذه الدولة التي يفوق عدد سكانها (100) مليون نسمة إلى سيناريو التفكك والانهيار؟ أم أنّ العودة إلى مسار التوحد والنهوض ستكون وشيكة؟

تاريخ من التقلبات في الحكم

عقب الإطاحة بالإمبراطور الإثيوبي الأخير هيلا سيلاسي، عام 1974، تولّت الحكم سلطة عسكرية ذات توجه ماركسي عرفت باسم "الحكومة العسكرية المؤقتة لإثيوبيا الاشتراكية"، والتي استمرت حتى عام 1991. إلا أنّ عهدها شهد حرباً أهلية مستمرة بين المكونات الأثيوبية. وبعد تصاعد الاحتجاجات في أعقاب المجاعة التي ضربت البلاد أواسط الثمانينيات، تمكنت الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية (وهي تحالف لمجموعة من القوى الثورة)، من الإطاحة بالحكومة في عام 1991، وفرّ الرئيس المُطاح به، منغستو هيلا مريام، إلى خارج البلاد.

أقاليم إثيوبيا الـ11

وبعد عام 1991 تمكّنت عرقية التيغراي من البروز كأقوى مجموعة عِرقيّة، واستطاعت السيطرة على مفاصل الحكم في البلاد، وذلك الرغم من كَوْن نسبتهم لا تتعدى قرابة الـ (6%) من إجمالي التعداد السكاني في البلاد. خَضَعت كل الشعوب لسلطة التيغراي وذلك مقابل إقرار صيغة حُكْم جديدة أتاحت لكل إقليم بعضاً من الاستقلالية؛ إذ أرسى الرئيس ميليس زيناوي، في عام 1992 نظام حكم فيدرالي قام على أساس تقسيم البلاد إلى أقاليم، وذلك انطلاقاً من اعتبار أنّ البلاد تضمّ عرقيّات متنافرة لا تجمع بينها لغة ولا دين ولا ثقافة، وإنما فقط الجغرافيا، وتم إضفاء الطابع الرسمي على النظام الفيدرالي في عام 1995 عندما دخل الدستور الإثيوبي الجديد حيز التنفيذ.

بعد الإطاحة بالحكم الاشتراكي عام 1991، أعاد التيغراي هيكلة الجيش والأجهزة الأمنيّة بحيث تمكنوا من جمع مقاليد الحكم في أيديهم على حساب العرقيّات الأخرى

وطوال قرابة الـ3 عقود سيطر التيغراي على الائتلاف الحاكم في البلاد، وأعادوا هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، وتمكنوا من جمع مقاليد الحكم في أيديهم على حساب العرقيّات الأخرى، التي أصبحت تعاني من التهميش والإقصاء، وبالذات مجموعة الأورومو ذات الأغلبية المسلمة وأكبر عرقية في البلاد.

انتفاضة الأورومو... ونظام حكم جديد

ومع ارتفاع وتيرة اضطهاد الأورومو، وتوسّع النظام الحاكم في مصادرة أراضيهم، اندلعت احتجاجات الأورومو المناهضة للحكومة في عام 2015، التي انطلقت بالتحديد إثر نزاع حول مُلكية بعض الأراضي، ومن ثم ارتفع سقف الاحتجاجات ليشمل المطالبة بالحقوق السياسية. ونجم عن الاضطرابات مقتل المئات واعتقال الآلاف، طوال مدة (3) أعوام، ولم تفلح أعمال القتل والاعتقال في وقف الاحتجاجات؛ ممّا أدى إلى انهيار الحكومة رئيس الوزراء في حينه، هايلي مريام ديسالين، وصعود ائتلاف حاكم يقوده آبي أحمد إلى السلطة في نيسان (أبريل) 2018.

جنود من الجيش الفيدرالي الإثيوبي مأسورون من قبل مقاتلي التيغراي في حزيران 2021

سياسات جديدة... تنتهي بحرب

اعتمد آبي أحمد في بداية عهده إصلاحات شاملة بغية إنهاء أعوام الحكم الاستبدادي؛ تضمنت رفع الحظر عن الأحزاب السياسية، وإطلاق سراح المعتقلين، والسماح للمنفيين بالعودة. إلا أنّه وعلى مستوىً آخر، اتجه الرئيس آبي أحمد، وحزبه الحاكم حزب "الازدهار"، نحو تبنّي سياسات جديدة في البلاد، قامت على أساس الابتعاد عن سياسات الفيدرالية، وتبنّي آليات ونموذج حكم أكثر مركزية، واستعادة قوة المركز مقابل التهميش والإخضاع للأطراف، وكان هذا التوجه هو البداية لأزمات جديدة في إثيوبيا.

اقرأ أيضاً: تيغراي تتهم قوى خارجية بإطالة عمر المعركة في إثيوبيا... ما علاقة تركيا؟

وتتجه مخططات آبي أحمد وحزبه نحو إرساء أسُس مرحلة جديدة تتسم بالتخلي عن طابع الحكم اللامركزي والتوجّه نحو نموذج الدولة المركزية في الحكم، بما في ذلك إجراء تعديلات دستورية تضمن ذلك، وفي سبيل ذلك يراهن حزب الرخاء على تحقيق الأغلبية في الانتخابات التي كان من المفترض أن تُقام في حزيران (يونيو) 2020، إلا أنّه مع الشعور بعدم وجود الجاهزية والقدرة على تحقيق انتصار حاسم، اتجه الحزب نحو تأجيل موعد إجراء الانتخابات مع استخدام حجة وباء "كورونا" لتبرير قرار التأجيل، وهو ما قابلته الأحزاب والتكتلات الأخرى بالمُعارضة والرفض، وفي مقدمتها حزب "الجبهة الشعبية لتحرير تغراي".

اقرأ أيضاً: جبهة تيغراي تأسر الآلاف من الجنود الإثيوبيين... وهذه آخر التطورات

ومع تعنّت آبي أحمد ورفضه إقامة الانتخابات في موعدها، نظّمت "الجبهة الشعبية لتحرير تغراي" الانتخابات في إقليم التغراي من دون الرجوع إلى الحكومة، وهنا تطوّرت الخلافات بين الطرفين حتى اشتعلت المعارك بينهما في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020.

في بداية المعارك استطاع الجيش الفيدرالي بسط السيطرة على إقليم التيغراي، وذلك بدعم من ميليشيات أمهرية، جاءت من إقليم الأمهرة المجاور، وأيضاً من الجيش الإريتري الذي عبر الحدود لمؤازرة قوات الجيش الإثيوبي، وذلك مع انتشار أخبار وأنباء عديدة تتحدث عن ارتكاب انتهاكات ومجازر وأعمال اغتصاب جماعي في الإقليم.

من احتفالية الذكرى الـ40 لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي عام 2015

وفي 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 أعلنت أديس أبابا الانتصار على الإقليم المتمرد. إلا أنّ الأمور سرعان ما انقلبت إثر ذلك، وتمكّن مقاتلو تيغراي من تحقيق تقدم سريع، وخاصّة منذ حزيران (يونيو) 2020، واستعادوا السيطرة على معظم أجزاء الإقليم، ومن ثمّ شرعوا منذ تموز (يوليو) 2021 بالتوغل في إقليم العفر ثمّ إقليم الأمهرة.

وتصاعد الصراع خلال العام 2021 مع إعلان التيغراي التحالف مع "جبهة تحرير أورومو"، الناشطة في المنطقة المحيطة بالعاصمة "أديس أبابا"، وهي حركة متمردة تنادي بتقرير مصير شعب الأورومو، كانت الحكومة الإثيوبية قد صنفّتها حركة "إرهابية". وفي 11 آب (أغسطس) 2021 تم الإعلان عن تحالف عسكري معارض يضم (9) حركات أطلق عليه اسم "الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية"، بعد انضمام سبع فصائل أخرى، هي: حركة تحرير شعب بني شنقول، وحزب كيمانت الديمقراطي، ووحدة عفار الثورية الديمقراطية، وحركة آغاو الديمقراطية، وجيش تحرير شعب غامبيلا، وجبهة سيداما للتحرير، وجبهة تحرير الصومال الغربي.

اتجه الرئيس آبي أحمد، وحزبه الحاكم حزب "الازدهار"، نحو تبنّي سياسات قامت على أساس الابتعاد عن الفيدرالية، وتبنّي نموذج حكم أكثر مركزية

خلال العام الأول من الحرب، سقط آلاف الضحايا، وشُرّد أكثر من (1.7) مليون شخص. وبدلاً من أن يتمكن آبي أحمد من تحقيق انتصار حاسم وسريع لصالحه، كما كان يزعم في البداية، فإنّ الهجوم على التغراي أتى بنتائج عكسية؛ إذ انتهى بسلسلة من الهزائم وباتت قوات المعارضة على بعد (300) كيلومتر فقط من العاصمة أديس أبابا؛ ممّا أجبر آبي أحمد على إعلان حالة الطوارئ ودعوة السكان لحمل السلاح للدفاع عن مدنهم. وقد شهدت إثيوبيا خلال الحرب انقساماً حاداً بين سكان البلاد من العرقيات المختلفة، عززته خطابات الكراهية المنتشرة عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.

اقرأ أيضاً: رئيس وزراء إثيوبيا يحشد ضد التيغراي بعد هذه التطورات... تفاصيل

في جوهرها، فإنّ هذه الحرب تُعدّ صراعاً بين مشروعين: الفيدرالية التي تتبنّاها جبهة التيغراي، ومشروع "الدولة المركزية" الذي يتبناه آبي أحمد وحزب الرخاء الذي يريد إعادة إنتاج النظام الإمبراطوري في ثوب جديد.

سيناريوهات متباينة

تتعدد السيناريوهات المتوقعة لنهاية الأزمة، فيبرز بدايةً احتمال انتصار التيغراي والقوات المتحالفة معهم، وذلك بالنظر إلى الوضع على الأرض واقتراب القوات من العاصمة والسيطرة على مدن استراتيجية خارج إقليم التيغراي. وهو انتصار سوف يُزيح آبي أحمد من الحكم، لكنّه سيمثل تهديداً سياسياً جديداً في البلاد؛ إذ إنّه يعني احتمالية اندلاع حرب جديدة بين العرقيات المناهضة للتيغراي، وربما يعني صراعاً طويل الأمد، على تقاسم السلطة في البلاد، خاصّة بين ركنيْ التحالف الأساسيين، التيغراي والأورومو.

الدكتور محمد عبد الكريم: الأزمة الإثيوبية تمثل تهديداً وجودياً للإقليم (القرن الأفريقي) برمته وليس لإثيوبيا وحدها

بينما يُشير السيناريو الثاني إلى احتمال استمرار نزاع طويل قد يدفع العرقيات المشاركة فيه، وفي مقدمتها التيغراي، والأورومو، وبني شنقول، وعفار، والأمهرة، للذهاب إلى خطوة أبعد من المواجهة العسكرية، وهي الانفصال عن دولة إثيوبيا، وذلك بالاستناد إلى الحق الذي تمنحه المادة (39) من الدستور المُقرّ عام 1995، التي تعطي الحق لكل شعب من شعوب إثيوبيا حق تقرير المصير والانفصال غير المشروط.

اقرأ أيضاً: الدائرة تضيق على آبي أحمد.. وجبهة تيغراي تتقدّم نحو العاصمة

أو قد تتجه الأمور باتجاه عقد تسوية بين إقليمي تيغراي وأورومو من جهة والحكومة الإثيوبية من جهة أخرى، بحيث تضمن توقف الزحف نحو العاصمة والحفاظ على الأراضي المكتسبة، وإجراء استفتاء في الإقليمين للانفصال عن إثيوبيا. أو قد يحصل سيناريو مختلف، يتحقق عبر إزاحة الجيش الإثيوبي لآبي أحمد من الحكم، وذلك باعتبار أنّه يمثل عائقاً كبيراً في البلاد؛ كونه المتسبب في الأزمة الراهنة التي تهدد بقاء الدولة الإثيوبية. وبحيث يكون مثل هذا الانقلاب مقترناً بتوجّه قادة الجيش الإثيوبي نحو عقد اتفاق تسوية مع المتمردين، وذلك إدراكاً بأنّ النزاع لا يمكن أن يُحلّ بالقوة وحدها.

خلال العام الأول من الحرب، سقط آلاف الضحايا، وشُرّد أكثر من (1.7) مليون شخص

الدكتور محمد عبد الكريم، خبير الشؤون الأفريقية بمعهد الدراسات المستقبلية في بيروت، ومؤلف كتاب "إثيوبيا من الهيمنة إلى العزلة"، في حديثة لـ "حفريات" حول أبعاد وتأثيرات الأزمة والمسارات التي من المرجح أن تمضي بها، يرى أنّ: "الأزمة الإثيوبية تمثل تهديداً وجودياً للإقليم (القرن الأفريقي) برمّته وليس لإثيوبيا وحدها؛ حيث فقد يقود تصاعدها إلى ارتفاع ضخم في أعداد اللاجئين الذين سيسعون إلى عبور الحدود الإثيوبية إلى دول الجوار (في تكرار كارثي ومضاعف لأزمة لجوء التيغرانيين إلى السودان طوال العام الفائت)، حيث تشير تقارير للأمم المتحدة - لم تنشر بعد - إلى توقعات بمحاولة مئات الآلاف من اللاجئين الفرار إلى جيبوتي وكينيا وولاية "أرض الصومال" بجمهورية الصومال الفيدرالية".

اقرأ أيضاً: إثيوبيا تفتعل أزمة إنسانية في تيغراي... بيان يوضح ممارسات الحكومة الاتحادية

ويتابع: "وبعد صمت مُطوّل من قبل الاتحاد الأفريقي ومؤسساته إزاء الأزمة في إقليم التيغراي عند وقوعها قبل أكثر من عام، وما نتج عنها من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وأعمال ارتقت – بأدلة وُثّقت لاحقاً - إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ورفض متكرر لتداول المسألة أفريقياً باعتبارها شأناً داخلياً إثيوبياً، بادر الاتحاد بتدشين دبلوماسية نشيطة في الأزمة بقيادة مبعوثه في القرن الأفريقي الرئيس النيجيري السابق، أوليجسون أوباسانجو، قامت في جوهرها، في التحليل النهائي، كما اتضح من بياني أوباسانجو أمام مجلس السلم والأمن الأفريقي ومجلس الأمن الدولي في 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، على تبنّي مقاربة أديس أبابا للأزمة، ورفض أي تدويل لها، رغم الوضع الإنساني المزري القابل لمزيد من التدهور في الأسابيع المقبلة".

ويرى عبد الكريم أنّ: "المقاربات الإقليمية والدولية، وعدم القدرة على تنسيقها بشكل كافٍ، تكشف وجود تخوفات عميقة وتصوّرات متعارضة لسُبُل الحفاظ على النظام الإقليمي مستقراً، في حدّه الأدنى، ففي حين تَجْنَح الولايات المتحدة، وخلفها قوى فاعلة في الإقليم إلى فرض التسوية وإطلاق "إثيوبيا ما بعد آبي أحمد" كحلٍّ مرحلي للأزمات الإقليمية، يواصل الاتحاد الأفريقي دوراً مضطرباً لا يحظى بقبول المعارضة المسلحة؛ ممّا يشي بفشله في النهاية، ويفسح المجال أمام المقاربة الدولية بتنسيق ثنائي مع بعض الدول الأفريقية".

اقرأ أيضاً: تحذيرات من كارثة إنسانية في إقليم تيغراي.. تفاصيل

ويبقى المؤكد أنّ الفوضى الإثيوبية في حال استمرارها وتصاعدها فإنّها من المرجح أن تمتد وتضرب المصالح الإقليمية والدولية، وذلك باعتبار أنّ إثيوبيا دولة كبرى ومركزية على مستوى منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وهي المنطقة التي تتسم باحتضانها لعدد كبير من الصراعات وحالات عدم الاستقرار السياسي الممتدة طيلة عقود، من المشاكل والاضطرابات في الصومال شرق إثيوبيا، إلى الاضطرابات في السودان غرباً، وصولاً إلى الخلاف المتصاعد حول مياه النيل، بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية