هل نجرؤ على الاختيار الحر؟

هل نجرؤ على الاختيار الحر؟


18/08/2020

"اختر حياتك"؛ جملة صغيرة اعتمد عليها مروّجو البرمجة اللغوية العصبية، المتصدّرة في علوم التنمية البشرية، وباتت عنواناً عريضاً تتفرّع منه عناوين كثيرة تهدف في ظاهرها إلى تنمية القدرات الذاتية واختيار الذات. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نجرؤ على الاختيار الحر، أم أننا محكومون لقيم اجتماعية وثقافية تسيّر خياراتنا وفق أنظمتها السائدة والمألوفة؟

الاختيار مرتبط بالحرّية والفردانية بالضرورة، ومن المُفترض أنّ القائم بالضرورة هو قائم بالفعل، لكنّ البيئة الاجتماعية المحيطة بالأفراد في المجتمعات المختلفة، تفرض سلطتها على الفعل والضرورة، وتُغفل ما يتضمّنه مفهوم الحرّية، أو ارتباطه بالاختيار.

تمتاز ثقافة المجتمعات كافةً بمجموعة من العادات والتقاليد والقواعد والمعايير الرئيسية للحياة العامة

تمتاز ثقافة المجتمعات كافةً بمجموعة من العادات والتقاليد والقواعد والمعايير الرئيسية للحياة العامة، وتستمرّ في بعض المجتمعات من جيل إلى جيل، يستعيدها الأفراد ويعيدون إنتاجها، ممّا يؤدي إلى "التعقيد الاجتماعي"، حسب "إدغار موران"، فتتيح تلك الثقافة أمرين مهمّين؛ الأوّل: بناء ثقافة جديدة على الثقافة الموروثة، ونقدها والحوار معها بشكل يتناسب مع متطلبات العصر وتطوّره، والثاني: إعادة إنتاج الثقافة الموروثة بهيئتها التامة؛ المتصلبة والمتعصبة والمتخلفة، وقولبة لسلوك الأفراد، كما يحصل في المجتمعات المتخلفة، التي لا تنفكّ تتوارث ثقافتها من الماضي الذي لم يمضِ بعد.

السلطة تقنن العمل وتقنن الإبداع والسلوك أيضاً وهي إخماد للفردانية والحرّية والاختيار

لكننا لا نستطيع أن ننفي أنّ التوارث بات في وقتنا الحاضر بنسب متفاوتة، قد تكون متقاربة في بعض الأحيان، فالأفراد التوّاقون للحرّية يمارسونها بحذر شديد في سلوكهم اليومي داخل مجتمعاتهم؛ أي إنّ على هؤلاء الأفراد مراعاة المنظومة الاجتماعية السائدة، وإلّا أصبحوا ناشزين عنها ونابذين لها، ممّا يؤدي إلى نبذهم وتهميشهم من قِبل تلك المنظومة، يبدأ ذلك منذ طفولة الفرد الذي يولد حرّاً، فتتقلص حرّيته منذ اللحظة الأولى للولادة، ومن أوّل تعبير يطلقه الطفل في البكاء، سرعان ما تهرع الأم إلى إغلاق فمه بإرضاعه أو حمله لإسكاته، ويتطوّر هذا القمع في اختيار ألعابه في مراحل نموه التالية، ثمّ يبدأ الأمر والنهي؛ لا تفعل هذا، ولتفعل ذاك، حتى يصل إلى مرحلة التعليم التلقينية بالقمع الممنهج واختيار زملائه بما يتناسب مع ذهنيّة الأهل ورغباتهم وأهوائهم الخاصّة، "مثلما تربينا نربّي أبناءنا"، وتستمرّ تلك الرغبات والأهواء إلى سن البلوغ، حيث يعتاد الفرد على كبت رغباته وخياراته الحرّة وعدم الإفصاح عنها، من هنا تنكبح الفردية والاستقلالية والذاتية، وتذوب في الجماعة أو العائلة أو القبيلة، "فالبيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية تقيّد الفردية وتنظمها وتضبطها وفق أنساقها الخاصة وأعرافها وتقاليدها السائدة، ففي كلّ خطوة تخطوها الفردية تصطدم بالسلطة/ السلطات الناهية والآمرة، وتنطلق في وقت باكر جداً جدلية الحرّية والسلطة، و/أو الحرّية والعرف والشريعة والقانون"، حسب الباحث جاد الكريم الجباعي.

الاختيار مرتبط بالحرّية والفردانية بالضرورة ومن المُفترض أنّ القائم بالضرورة هو قائم بالفعل

الحرّية الفردية هي أساس الحرّية/ الحرّيات الجماعية، أو العامة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً، وهي الانطلاقة الأولى نحو الفضاء الإنساني الحر، الذي يتسع لكلّ كائن بشريّ ويحدّد كينونته وصيرورته الدائمة.

السلطة تقنن العمل والإبداع، والسلوك أيضاً، وهي إخماد للفردانية وللحرّية، وللاختيار، فالطالب المبدع في الموسيقى والرسم، لا يستطيع اختيار دراستهما قبل أن يقرّر الأهل مصيره في دراسة الطب أو الهندسة؛ لأنّ النظام الاجتماعي الصارم أكثر ما يفخر بالطب والهندسة، أمّا الفنون، فيعتبرها هوايات لملء الفراغ وحسب، ممّا يولّد عند الأفراد عمليات المقاومة غير الحرّة، أو التمرّد على واقع المنظومات الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية، ومن ثمّ، فالمنظومة/المنظومات هي سلطة، والسلطة تتنافر مع الحرّية وتكبح جماحها، وتطلق عنان الكبت والقمع والمنع، والحدّ من نمو الفردية، ونمو الاختيار، هذا التنافر بين الحرّية والسلطة يدفع الأفراد للسير في مسار الانحراف والتجاهل لتلك المنظومات القمعية لإثبات الذات خارج مجتمعاتها، أو ضمنها داخل جماعات أخرى قد تكون أكثر تعقيداً في منظومتها، وأكثر تطرّفاً وأكثر تعصّباً.

الأفراد التوّاقون للحرّية يمارسونها بحذر شديد في سلوكهم اليومي داخل مجتمعاتهم

الإرادة الحرّة هي الكفيلة بتحقيق الذات؛ لأنّ الفرد الإنساني قائم بذاته وكينونته، وحين تغيب الإرادة الحرّة يصبح الفرد مغترباً عن ذاته، ويسير بانقياد قسري، إن لم نقل بانقياد تلقائي خلف السلطة، ويصبح البُعد الأخلاقي مدجناً يرتبط ارتباطاً تاماً بالسلطة القائمة، فاختيار الحياة ليس مرهوناً بالآخرين، ولا مرهوناً ببرمجة المجتمع على نسق واحد، أو برمجة الحزب أو المؤسسة، فلكلّ فرد خاصيته، وحرّيته واختياراته الخاصة.

المجتمعات القائمة على التمييز والمعتادة على التبعية والخضوع للسلطة لا يمكن أن تنتج أفراداً أحراراً

لبّ المشكلة يكمن في ثقافة المجتمعات ووعيها بالمعرفة الخلّاقة والمنتجة والمبدعة؛ فالمجتمعات القائمة على التمييز الجنسي والديني والعرقي، والمعتادة على التبعية وإخضاع الذات الحرّة للسلطة؛ لا يمكن أن تنتج أفراداً أحراراً، ولا يمكن إلّا أن تعيد إنتاج الجهل والتخلف والفقر والمرض، وفق تقديم المصلحة الخاصة على المصالح العامة، وعدم ربط المصلحتين معاً، فهل تستطيع الزوجة في مجتمعاتنا، على سبيل المثال، أن تختار ذاتها بعيداً عن منظومة الأسرة، وهل تستطيع الفتاة في بعض المجتمعات أن ترفض الختان بإرادتها الحرّة، وهل يستطيع الفرد (ذكراً وأنثى) أن يحدّد خياراته خارج "العقل الجمعي الذي يوجد خارج عقول الأفراد"، كما سمّاه عالم الاجتماع "إميل دوركهايم" فيخضع الأفراد لهذا العقل الجمعي ولتعاليمه وتوجيهاته، في إلزام تامٍّ لإملاءاته؟     



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية