هل تنهي العودة إلى النظام الرئاسي هيمنة حركة النهضة على المشهد السياسي التونسي؟

هل تنهي العودة إلى النظام الرئاسي هيمنة حركة النهضة على المشهد السياسي التونسي؟


22/10/2020

قبل نحو عام استطاع أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد أن يحسم الانتخابات الرئاسية، ليستقر داخل قصر قرطاج رئيساً مستقلاً لتونس، بيد أنّه واجه خلال عامه الأول جملة من التحديات الداخلية والإقليمية والدولية، صنعت مشهداً متوتراً ضرب أركان النظام السياسي التونسي، فضلاً عن التداعيات الاقتصادية والسياسية لفيروس كورونا.

 

ارتفعت الأصوات المنادية بضرورة تعديل الدستور، ومنح الرئيس سلطات أوسع، بينما ذهب آخرون إلى تعديل النظام السياسي التونسي، والعودة إلى النظام الرئاسي

 

 ويتحكم الدستور التونسي الذي صدر في نهاية شهر كانون الثاني ( يناير) العام 2014 في سياقات المشهد السياسي، على اعتبار أنّه رسم وحدّد الأطر الخاصة بالمسؤوليات بين السلطات التشريعية والتنفيذية، خاصّة مع تغوّل حركة النهضة واستثمارها رئاسة راشد الغنوشي للبرلمان المنوط به منح الثقة للحكومة، وبالتالي بدا أنّ كتلة النهضة هي من يتحكّم في الحكومة، الأمر الذي دفع رئيس الجمهورية إلى استخدام سلطاته الدستورية، بتوجيه الشكر لرئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ، وتكليف رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي، الذي نال الثقة بفضل دعم ائتلاف قوى الإسلام السياسي في البرلمان، الذي ضمّ حركة النهضة وائتلاف الكرامة بالتحالف مع قلب تونس، واستناداً لذلك بدت صورة العلاقة، فيما بين المشيشي ورئيس الجمهورية، وكأنّها تغوص نحو منطقة رمادية.

جدل الصراع بين نظامين للحكم

على خلفية المشهد، ارتفعت الأصوات المنادية بضرورة تعديل الدستور، ومنح الرئيس سلطات أوسع، بينما ذهب آخرون إلى تعديل النظام السياسي التونسي، والعودة إلى النظام الرئاسي، وهو ما يرى فيه فريق آخر وأداً للتجربة الديمقراطية.

في حديثه لـ"حفريات"، يرى المؤرخ والمحلل السياسي التونسي، الدكتور عبداللطيف الحناشي، أنّ الأزمة السياسية في تونس تصاعدت منذ رفض حركة النهضة لحكومة إلياس الفخفاخ، ثم جاءت تهنئة راشد الغنوشي لرئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، باستعادة قاعدة الوطية، لتصنع مزيداً من الخلافات، حيث اعتبرها الرئيس خرقاً لتوجهات السياسة الخارجية التونسية، واندماجاً في أطر الرؤية الدولية لتنظيم الإخوان المسلمين، وفي ظل تعطل مسار التواصل السياسي مع رئيس الجمهورية، بدا واضحاً أنّ تحرك تحالف النهضة وقلب تونس، لصالح رئيس الحكومة هشام المشيشي، يأتي ضد رغبة وإرادة الرئيس المقيدة بحكم الدستور التونسي.

 

مضمون الخلاف الحاد بين رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي، يتمركز حول صلاحيات كل طرف

 

ويقدّر الحناشي أنّ  مضمون الخلاف الحاد بين رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي، يتمركز حول صلاحيات كل طرف، ومحاولة كل منهما التغول على صلاحيات الآخر، الأمر الذي دفع إلى الحديث حول ضرورة تغيير النظام السياسي، واستبدال النظام البرلماني، الذي يمنح صلاحيات أوسع لرئيس الحكومة، الذي أضحى مديناً لائتلاف النهضة والكرامة، على حساب اصطفافه الأول في خانة رئيس الجمهورية، الذي يقيد النظام البرلماني صلاحياته، ما ظلّل المشهد التونسي بصورة قاتمة، وبدت معه الأمور تسير نحو منزلق خطر، خاصّة مع تفشي وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية، على كافة القطاعات في تونس، وتأثر حياة المواطن التونسي بشكل متزايد جرّاء ذلك، مضيفاً أنّ حركة النهضة تتحرك نحو العمل على تحييد رئيس الجمهورية، وحصر دوره في أنشطة ذات طابع بروتوكولي.

اقرأ أيضاً: إفلاس "النهضة" ومراوغاتها

ولفت الحناشي إلى أنّ الغنوشي توقع ترويض مؤسسة الرئاسة، وتوظيفها لخدمة أجندة الحركة، والسعي إلى السيطرة على الحكومة، كونه رئيس حزب الأغلبية في مجلس نواب الشعب، وهو ما سعى نحو تحقيقه عبر كل الحكومات السابقة، ويواصل المسعى ذاته مع المشيشي، ما جعل الرئيس ينتقد الأوضاع السيئة بالبرلمان في قوله: "لو كان النائب مسؤولاً أمام ناخبيه، وكان بإمكانه أن يسحب الثقة، لَما احتاج إلى مثل هذا الخرق الجسيم، الذي يُجسده مرض دستوري وسياسي، ربّما أكبر من جائحة كورونا التي انتشرت في العالم... الدولة ليست صفقات تبرم في الصباح وفي المساء"، في إشارة واضحة للغنوشي وتحركاته المريبة.

أدوات الرئيس تفشل في حسم المواجهة

رغم تحفظاته وتلميحاته، لم يستطع الرئيس التونسي اتخاذ أيّ خطوات تصعيدية تجاه حركة النهضة، كما أنّه يبدو مكتوف اليدين أمام التحالف الضمني الذي دشنته الحركة مع هشام المشيشي، الذي أتى به الرئيس خصيصاً لتقليم أظافرها.

من جانبه، يؤكّد فتحي الورفلي، الناطق باسم جبهة الإنقاذ الوطني، لـ"حفريات" أنّ ثمّة فرصة لاحت للرئيس قيس سعيد لتجاوز خروقات حركة النهضة، وسعيها نحو تعطيل الحياة السياسية في تونس، ويرجع الورفلي ضعف مؤسسة الرئاسة في مواجهة تغول النهضة وكتلتها، إلى ضعف الفريق الاستشاري لرئيس الجمهورية، مؤكداً أنّ الصراع في تونس الآن أصبح بين رئيس الحكومة الثائر لنفسه، بعد مشاهدة الشعب التونسي للعرض التوبيخي الأخير، ورئيس جمهورية لا يجيد سوى التحليق في الضباب.

 

لم يستطع الرئيس التونسي اتخاذ أيّ خطوات تصعيدية تجاه حركة النهضة، كما أنّه يبدو مكتوف اليدين أمام التحالف الضمني الذي دشنته الحركة مع  المشيشي

 

ويقدّر الناطق الرسمي باسم جبهة الإنقاذ أنّ الوضع في تونس الآن لا يمكن توصيفه بأقلّ من الورطة، إذ يبدو الوضع السياسي مثقلاً بالأزمات، ما ينتج صراعات متعددة، وبالتالي لا يمكن تجاوز ذلك سوى بالعمل على تغيير النظام من البرلماني إلى الرئاسي، مع الاحتفاظ بالمكاسب الحقوقية، وتدعيم الرقابة الدستورية؛ لضمان حكم عادل وناجح، للخروج بالبلاد من تلك المحنة، فالإخوان المسلمون شرعوا في الانتقام، وتصفية الحسابات، وتطبيق أوامر قياداتهم ضد مصالح تونس وشعبها، ويبدو أنّ المشيشي يسدّد فاتورة تمرير حكومته، لصالح النهضة وحلفائها، بالتخلص من كافة الوزراء المقربين من الرئيس.

بين المساومة والممانعة من يربح الرهان؟

وعليه، بات المشيشي يسير على طريق المساومات السياسية، ما يفرض عليه تقديم تنازلات لحركة النهضة، في مقابل ما توفره من حزام سياسي يدعم حكومته، ما أحدث تغيراً في الأدوار والتحالفات، نحو مزيد من تعقيدات لعبة الكراسي الموسيقية الدائرة.

في هذا السياق، يؤكد الدكتور أنس الطريقي، أستاذ الحضارة بالجامعة التونسية، لـ"حفريات" أنّ لقاء رئيس الحكومة هشام المشيشي، وحركة النهضة، هو لقاء غير إرادي من قبل المشيشي، خاصّة أنّه مكلّف من قبل الرئيس الذي نعلم جيداً أنه لا يتفق مع النهضة، بل يعارضها، إن لم نقل يضمر لها العداء بالمعنى السياسي، ولا هو إرادي من جهة النهضة، التي ندرك أنّها تسعى نحو الهيمنة على مفاعيل السلطة، وذلك بفعل ديناميات النظام الانتخابي، الذي يفرض على الطرفين قبول بعضهما بعضاً، فالمشيشي لن يكون قادراً على المرور الفعلي للسلطة، ما لم تصوّت له النهضة وحلفاؤها (ائتلاف الكرامة، وقلب تونس)، والنهضة ستتعرّض لمشاكل كثيرة تتعلّق بالشكوك المثارة حولها في قضايا كثيرة، منها المتعلقة بمسألة إرسال الشباب الجهادي إلى سوريا، أو باغتيال شكري بلعيد، والتي يمكن أن تفلت من سيطرتها، إذا لم تكن قريبة من المشيشي ومتصالحة معه، أو متداخلة بصفة غير مباشرة في قراراته واختياراته، لا سيّما المناصب الحيوية، كمنصب وزير الداخلية.

اقرأ أيضاً: لغنوشي يتشبث برئاسة "النهضة".. عن أي ديمقراطية يتحدث الإخوان؟

دلالة هذا التقارب فيها ما هو إيجابي يتصل بضمان الهدف المطلوب بتكريس النظام البرلماني، لضمان توزيع السلطة، منعاً لاحتكارها من قِبل أي جهة كانت. فالرئيس الذي عيّن رئيس الحكومة، يبدو عاجزاً عن فرض إرادته في الحكم، وعليه تمثل الأحزاب ضمانة أمام إمكانية احتكار الرئيس للقرار السياسي، ولكنْ هناك وجهٌ سلبيٌ لهذا التقارب، يتمثّل في الهيمنة المطلقة لحزب الأغلبية على القرار السياسي، فعلى الرغم من أنّ رئيس الحكومة معيّن من قبل الرئيس، فإنّ النهضة تبقى محتفظة بالسيطرة عليه، بما أنّها من يملك مفتاح مروره وإنفاذ قراراته.

اقرأ أيضاً: النهضة والغنوشي مَن يهزم الآخر؟

وإزاء ما صار معلوماً من هذا الهوس الشديد للحركة، بالبقاء في صدارة المشهد السياسي، وهو هوس مشروع سياسياً، لولا أنّها تقترف أخطاء كثيرة، باختراقها لكلّ الأحزاب القوية التي تنافسها، وقع هذا مع حزب نداء تونس، تماماً كما وقع في بداية المسار الديمقراطي مع الحزب الجمهوري، الذي يكاد يكون قد انتهى سياسياً.

ويمكن القول إنّ هيمنة النهضة على المشهد السياسي، ناتج عن ضعف الأحزاب الأخرى، أكثر ممّا هو ناتج عن مهارة سياسية تتميز بها الحركة، وهذا يتأكد بتهاوي رصيدها الانتخابي، من أكثر من مليون ناخب في انتخابات العام 2014 إلى 400 ألف ناخب في انتخابات العام 2019. وما لم تعبّر هذه الأحزاب عن روح ديمقراطية حقيقية، تبينها بتنازل الزعامات الحزبية عن طموحاتها الاحتكارية للسلطة، فإنّها لن تكون قادرة على زحزحة النهضة.

اقرأ أيضاً: معركة لي ذراع داخل النهضة التونسية تستبق مؤتمر الحركة

ويلفت الطريقي إلى أنّ "الدعوات إلى تغيير النظام السياسي، وإلى عزل الرئيس، هي دعوات قليلة وضعيفة المدى؛ إذ لا تصدر عن الأحزاب الفاعلة، بل تكاد تكون هامشية، فالرئيس يحظى بأعلى نسبة شرعية انتخابية عرفتها تونس منذ الثورة؛ إذ إنّه انتُخب بنسبة 70% من جملة الناخبين، وحتى إن ظهرت دعوات لعزل الرئيس تقف وراءها النهضة، فلن يكون لها تأثير كبير"، ويلفت الطريقي إلى أنّ النظام الرئاسي ما زال يحمل في ذاكرة التونسيين سمعة سيّئة، ولا يمكن أن تكون النهضة داعية للعودة إليه، لأنّ مصلحتها في وجود النظام البرلماني، الذي يمكنّها من السيطرة على السلطة.

اقرأ أيضاً: الغنوشي والنهضة.. نهاية مرحلة أم سقوط حركة؟

ويبدو أنّ الضعف الحزبي العام في تونس هو جوهر الأزمة، فالنهضة وحدها كانت الحزب الجاهز لخوض الانتخابات، رغم عدم وجود برنامج لها إلا الوعود، التي نعلم جميعاً أنّ أغلبها غير قابل للتحقيق، هذا فضلاً عن المعلوم في سلوكها السياسي، والذي تناولته دراسات كثيرة، وأكّدت أنّه أفسد الحياة السياسية في تونس.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية