إذا كان "إطلاق النار في الاتجاهين" ضرورة من ضرورات النقد والنقد الذاتي حيال أي سجال بين طرفين؛ فربما كان ذلك أكثر مناسبةً للدخول في موضوع سجالي بامتياز تعيشه أوساط النخب السودانية اليوم حيال اللغة العربية في بلدهم، بين من يراها "غنيمة حرب" (قياساً على مقولة الجزائري كاتب ياسين حيال اللغة الفرنسية في الجزائر) كما يرى ذلك التشكيلي والكاتب السوداني د.حسن موسى، وبين من يراها وعاء الهوية الثقافية العامة السودانيين.
تنقسم النخب السودانية اليوم حيال العربية بين من يراها "غنيمة حرب" أو وعاء الهوية الثقافية العامة
والحال أنّ اللغة العربية بالنسبة للسودانيين اليوم هي لغتهم العامة والجامعة، لكن هذه البديهة الواضحة تنعكس، في سياقات أخرى، مأزقاً غريباً للنخبة السودانية النافية للعروبة الثقافية في السودان، وهو مأزق لا يتصل بهوية العربية ولا بصيرورتها التاريخية في السودان، بل هو مأزق يقيم في ردود فعل العلاقات البينية بين الناطقين بالعربية في العالم العربي، وتلك النخبة السودانية، وردود الفعل تلك يحكمها سقف التخلف في طبيعة تلك العلاقات المأزومة بين الطرفين، وليس له علاقة لا بسودانية اللغة العربية، ولا بالعلاقة الحميمة بين هذه اللغة وبين عامة السودانيين، بل يمكننا القول؛ إنّ أزمة تلك النخبة من السودانيين تقيم في عدم القدرة على الفرز بين مسألة العرق واللون من ناحية، وبين اللغة العربية، وذلك من خلال قياس حسي أجوف وبالغ الخطورة في التشويش على الهوية السودانية للعربية.
اقرأ أيضاً: هل اللغة العربية في طريقها للانقراض؟
هكذا، كتب المثقف السوداني د.الباقر العفيف، ذات مرة، بحثاً عن علاقة العروبة بالسودانيين متوهماً اقتراناً شرطياً لا فكاك منه بين العروبة الثقافية، وبين العرق العربي واللون الأبيض، فوضع لبحثه عنواناً فرعياً مثيراً هو "متاهة قوم سود في ثقافة بيضاء"!
بطبيعة الحال، يمكننا التشكيك في الأصول العرقية العربية للسودانيين عامة، فهذا لا يهمنا في قليل أو كثير، وهو ذاته التشكيك الذي يتصل بأصول الناطقين بالعربية في العالم العربي اليوم؛ إذ ليس هناك في العالم العربي ضرورة تلازم شرطي بين اللغة العربية، وبين أعراق الناطقين بها؛ فمن يتحدثون العربية في العالم العربي أعراق شتى وليسوا عرقاً واحداً؛ فضلاً عن أن يكونوا عرقاً عربياً صافياً (كما تتوهم تلك النخبة السودانية من المثقفين الذين يقيمون اقتراناً شرطياً بين اللون الأبيض واللغة والعرق) ما يعني، أنّ صيرورة العربية في السودان هي ذاتها صيرورة العربية في بقية بلدان العالم العربي. ولكن؛ لأنّ الأكثرية المطلقة ممن يعيشون في العالم العربي هم من ذوي البشرة البيضاء -رغم اختلاف أعراقهم- من ناحية، ولأن جميع الناطقين بالعربية يعيشون في شروط تخلف شديد من ناحية ثانية؛ بدا ذلك اللون كما لو أنّه الشرط الشارط للناطقين بالعربية في انطباعات هؤلاء الأخيرين، وهي بطبيعة الحال انطباعات حسية شعبوية ولا علاقة لها بسوية وصحة الأحكام المعرفية في توصيف هكذا وضع.
ليس هناك في العالم العربي ضرورة تلازم شرطي بين اللغة العربية وأعراق الناطقين بها
وهكذا؛ بين أحكام شعبوية متخلفة، وانطباعات حسية ظاهرية لعرب اليوم أصبحت تتحكم في ذائقتهم العشوائية وتعزّز لديهم ميلاً وهمياً لتمييز وتعريف العربي ثقافةً عن غير العربي بناءً على اللون الأبيض فقط؛ لجأت تلك النخبة السودانية إلى إنكار أي عروبة ثقافية للسودانيين، فأدخلت نفسها في مغالطات مكشوفة؛ خشية أن ينكر عليهم عرب العالم العربي عروبتهم الثقافية، كسودانيين، فقط لمجرد اختلاف اللون! من هذه المغالطات؛ لجوء تلك النخبة السودانية إلى تشبيه علاقة السودانيين بالعربية كعلاقة الإنكليزية، أو الفرنسية مع الناطقين بها في بلاد المستعمرات، وهو، بطبيعة الحال، تشبيه مبني على قياس فاسد ظاهر الفساد؛ لجهة أن من يتكلم بالعربية اليوم في السودان هم عامة السودانيين ــ لا مثقفوهم ــ وبلهجة دارجة ذات سمات سودانية واضحة، كما أنّ العربية هي لغة الغناء السوداني العام الذي يجمع على ذائقته جميع السودانيين (رغم سلّمه الموسيقي الخماسي ذي الطابع الإيقاعي الأفريقي).
اقرأ أيضاً: لويس عوض: ثار على النخبة وجهر بعدم قداسة العربيّة
وإذ يقيم اللون الأبيض حاجزاً معنوياً لدى النخب السودانية فيجعلهم (يلقون بالجنين مع الماء القذر) كما يقول المثل؛ فإن هذا اللون الأبيض هو ذاته الذي ظل حاجزاً حسياً ووهمياً لدى عرب العالم العربي، بفعل تأثير التخلف، وسبباً للتشكيك بالعروبة الثقافية للسودانيين، لكن الحقيقة هي أنّ كلا الطرفين تتحكم في أحكامه شروط أيديولوجية وحسية، لا علاقة لها بقواعد وصيرورات تكوُّن الهوية الثقافية العربية في السودان، وإذا كان غنياً عن القول إنّ هناك علاقة شرطية بين الفكر والكلام، فإنّ ذلك يعني أنّ التفكير اللغوي العام والمشترك للسودانيين هو تفكير عربي ولن يكون إلا كذلك.
لهذا، يمكن القول إنه: في غياب أي تفكير نقدي يفحص دعاوى فك الارتباط الوهمي بين العروبة الثقافية للسودانيين وبين اللغة العربية، ستظل أشكال الرفض الأيديولوجي للنخب السودانية في توصيف علاقتها بالعربية باعثة على استمرارية ذلك "الاغتراب" الذي تعيش فيه تلك النخب؛ بين ضرورة الحديث بلغة لا يجيدون غيرها كمشترك ثقافي وطني، وبين تصوّرهم للعروبة الثقافية كمحض نقاء لوني لكيانات عربية في الجوار!
ثمة من يقحم العرق واللون بقياس حسي بالغ الخطورة للتشويش على الهوية السودانية للعربية
إلى جانب ذلك؛ صوّرَ طغيان المحتوى الإعلامي والفني في القنوات العربية ــ عبر الدراما والمسلسلات وبرامج التوك شوــ الأمرَ لدى تلك النخبة السودانية النافية للعروبة الثقافية، كما لو أنّ قابلية الاستلاب لذلك المحتوى في نفوس عامة السودانيين من خلال التأثير والتأثر هي سبب آخر من محفزات مقاومة العروبة الثقافية، فيما الحقيقة تتصل بغياب محتوى فني سوداني يستجيب لتحديات تحصين الذائقة الفنية للسودانيين من ذلك الاستلاب -عبر ذات اللغة- ومن خلال منظومة فنون شاملة في التمثيل والدراما لها القدرة على إحداث الفرق ووقف ذلك الاستلاب، وهو للأسف ما عجز عنه السودانيون لأسباب ذاتية وموضوعية يطول شرحها.
اقرأ أيضاً: العروبة.. وأوهام النقاء العرقي
لكلّ ذلك: هل يمكن القول إنّ هناك عربية "سوداء" تخص السودانيين وحدهم دون غيرهم، وتظل قادرة -عبر الفن والدراما- على خلق علاقة عضوية حميمة بين السودانيين لجعلهم أكثر تأثراً وارتباطاً بها كهوية ثقافية خاصة؟ والجواب هو: نعم؛ إنّ القوة الثقافية للغة العربية كهوية جامعة هي التي جعلت السياسي والأكاديمي السوداني المرموق الدكتور منصور -أحد كبار منظري الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق- يعلن، بصراحة، (عندما بدأت ترتيبات انفصال جنوب السودان عن شماله في العام 2011): أنّ لغة السودانيين في دولة جنوب السودان الوليدة، ستكون اللغة العربية؛ فأثار بذلك سخط الشعبويين من أنصار نفي العروبة الثقافية للسودان، لا سيما شعبويي موقع "سودانيز أون لاين"!؟
اقرأ أيضاً: اللغات غير العربية في عُمان: تنوع الثقافة والتاريخ
ولأنّ العروبة هي في الأصل رابطة ثقافية، ولأنّ الإسلام هو سببها التاريخي؛ ظلّ الانتساب لها، عبر اللغة، هوية عابرة للدول، وهذه الحقيقة التي تعكس الحقيقة الخالدة لجوهر اللغة العربية في كونها رابطة ثقافية، لا تماثلها أي رابطة أخرى في العالم؛ لأنّ سببها المتصل بالقرآن الكريم والإسلام: سبب قيمي وإنساني في المقام الأول، وله طابع الخلود في المقام الثاني؛ لذلك، قد يجد المرء دولة مثل إسبانيا تحتكر الاسم الحصري الدال على لغتها، دون أن تشاركها ذلك الاسم دول أخرى تشاركها ذات اللغة، في أمريكا اللاتينية، وكذلك دولة مثل ألمانيا تتشارك لغتها مع دول أخرى؛ النمسا وسويسرا، دون أن تعرف نفسها بأنها دول ألمانية مثلاً!
لأنّ العروبة رابطة ثقافية والإسلام هو سببها التاريخي ظلّ الانتساب لها عبر اللغة هوية عابرة للدول
وهكذا، نرى أنّ دولاً وكيانات مختلفة تجمعها عروبة ثقافية –لاعرقية- كدول المنطقة العربية، لم يُضِرْها أن تُعرِّف نفسها بأنها دول عربية في ذات الوقت الذي تحمل فيه أسماءً غير عربية مثلاً؛ كمصر والسودان وسوريا وغيرها.
وإذ لا نكاد نجد، أبداً، دولةً مثل الأرجنتين، أو البيرو، أو فنزويلا؛ تعرِّف نفسها بأنّها دولة إسبانية، أو دولة مثل النمسا تعرِّف نفسها بأنها دولة ألمانية، أو حتى دولة مثل أمريكا أو كندا أو استراليا، تعرف نفسها بأنها: دولة إنجليزية فلأنّ الرابطة اللغوية العربية المرتبطة عضوياً بالإسلام كسبب تاريخي لها، وبالقرآن ككتاب ديني وحضاري لها، هي رابطة أقوى بكثير في علاقاتها المعقدة بتلك الشعوب العربية -ثقافةً لا عرقاً بالضرورة- من الرابطة اللغوية الإسبانية مثلاً، أو حتى الإنجليزية!
اقرأ أيضاً: محال تجارية تشوه اللغة العربية
لكل ذلك؛ يظل الحجاج الأيديولوجي للنخب السودانية النافية للعروبة الثقافية حجاجاً نسقياً مجوَّفاً، لا يعرف ما يريد، لكنّه يظل عاجزاً أمام قوانين المعرفة والصيرورة التاريخية للغة العربية في السودان، التي جعلت السودانيين يتحدثون بها، فيما عجز الأتراك، مثلاً، عن الحديث بها، رغم 400 سنة من الخلافة الإسلامية في ديارهم!