تتبادل شعوب هذا الجزء من العالم، المسمى عربياً، سردية غريبة حيال فكرة العروبة، بطريقة تتوخّى، باستمرار، استيهام نقاء عرقي (مستحيل بطبيعته)، فيما هي تعكس حالة لا تكشف إلا تمثلات متماهية مع أفكار التخلف.
وإذ لا تعدو أن تكون فكرة العروبة سوى رابطة ثقافية جوهرها اللغة (كان الإسلام سببها التاريخي)، فلا يمكن لرابطة كهذه أن تعكس مفهوماً عرقياً بالضرورة، لكنّ السرديات الشعبوية، حين تفترض أوهامها وتصدّقها، تجعل من تلك الترسانة التاريخية لمفهوم النقاء العرقي، كما لو أنّه الحقيقة المطلقة، ما سيعني أنّ أي طعن فيها؛ طعن في أصل العروبة ذاتها!
وكما هو معروف، حين تتعالى الصرخات في موضوع الهوية والأصول؛ يكون الكيان الصارخ في حال أزمة بالضرورة؛ لأنّ الصراخ بذاته علامة من علامات فقدان الهوية أو الجهل بها. وسيبدو الأمر شبيهاً بحالة انعدام وزن، حين يكون سجال بعض فاقدي الهوية متصلاً فقط بمعرفة ما لا يريدونه، أو ما يسميه المناطقة "التعريف بالسلب"، دون أن تكون لهم أدنى فكرة حيال ما يريدونه على نحو منضبط.
لا تعدو فكرة العروبة أن تكون رابطة ثقافية جوهرها اللغة ولا يمكن أن تعكس مفهوماً عرقياً بالضرورة
ورغم أنّ فكرة النسب فكرة هي صلة "ذهنية" ــ كما يقول ابن خلدون ـــ إلا أنّ السرديات الشعبوية أسست على مفهوم النسب العربي والنسب النبوي، مجازاً سينيكياً تختلط فيه الحقائق بالأوهام، وعلى نحو لا يرد كل متأمل إلى بديهة (بني آدم) الأولى (التي اعتبرها القرآن حيثية الكرامة)؛ إذ يتعامى بعض أصحاب سرديات النسب العربي عن تلك البديهية، فيما هم يؤسسون لغايات تتصل بمفهوم السيادة والمكانة، ولا علاقة لها بحقيقة النقاء العرقي، ناهيك على النقاء النَسَبي، إن جاز التعبير.
اقرأ أيضاً: أين يقف الإنسان العربي؟
ليست فكرة النسب، سوى تصور جماعي يعكس اعتقاداً بهوية معاصرة ومتصلة في الوقت ذاته بأصل بعيد، فيما عدا ذلك الاعتقاد العام، فإنّ توهّم نقاء النسب على نحو مخصوص سيكون أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة. لهذا، حتى العقل القبلي للعرب في الجاهلية تحرّز من التأويل العرقي المضلل، عبر مقولات عكست احتمالات ذلك الوهم، حين قالوا: "حليف القوم منهم"، أو "مولى القوم منهم"، فيما جاء عن الرسول الكريم قوله: "أضلت معدٌّ بعد عدنان نسبها"، ليؤكد المعنى الذي يثبت الهوية العامة للنسب، وينفي تأكيد الهوية الخصوصية لفرد بعينه في الاتصال بنسب إسماعيل "الجد الأعلى لعدنان" على نحو متسلسل! ذلك أنّ أيّ استيهام لنسب "عربي مخصوص" في المنطقة العربية، وتعويمه كنسب عام واحد للجماعة الوطنية مثلاً (كما يفعل كثير من الجماعات الفئوية داخل الدولة الوطنية لتحقيق مكاسب سيادة رمزية متوهمة)، سيعني بالضرورة فكاً لارتباط المعنى المتصل بالعروبة كهوية ثقافية عابرة للأعراق، فضلاً عن مفارقته لهوية المواطنة.
ليست فكرة النسب سوى تصور جماعي يعكس اعتقاداً بهوية معاصرة ومتصلة في الوقت ذاته بأصل بعيد
والحال، أنه إذا كان من البديهي أنّ شرط تجاوز اللغة لهويتها العرقية وجماعتها الأصلية إلى جماعات إنسانية أخرى، أن يكون شرطاً متصلاً بالقيم، كالدين والمعرفة مثلاً، فإنّ فكرة ادعاء النسب الحصري في خصوص دلالته العرقية فقط، لا يعدو أن يكون أمراً ذاتياً وشأناً خاصاً، لكنّ الخطورة تكمن في تعويم ذلك الشأن الخاص عبر الأيدولوجيا أو السلطة وأدواتها، وجعله ميزاناً للتفاضل بين جماعات الوطن المتعددة، وتعميمه كمبدأ تفسيري للهوية العرقية.
ومن هنا جاءت الشرور التي أطلقتها أنظمة سياسية نبذت المعنى الثقافي للعروبة، وأبدلته بهوية شبه عرقية، قمعت بها هويات أقوامية أخرى في الدولة الوطنية، كما فعل نظام البعث العروبي في العراق حيال الأكراد، وكما فعل نظام الخرطوم الإسلاموي حيال الهويات غير الناطقة بالعربية كاللغة الأم في السودان، إلى ممارسات استعلاء عروبي ناعم تمت في المغرب العربي حيال الأمازيغ، وفي كل منطقة في العالم العربي.
اقرأ أيضاً: كيف تعرف أنك فاشي؟
واليوم، تكاد حتى مفارقة بعض أسماء البلدان العربية تقوم دليلاً فاضحاً أمام تلك العلاقة المأزومة للعروبة، حين تستخدم كأيدولوجيا عرقية في بلدان عربية تحمل أسماء غير عربية؛ كمصر، والسودان، وسوريا، فضلاً عن حقيقة أنّ المسلمين "العرب" كانوا أقلية في بلدان المشرق العربي، حتى القرن الخامس عشر الميلادي!
لكن المفارقة الأخرى، والأقوى دلالة هي؛ النتائج التي أفرزت مزيجاً للهويات العرقية حتى في سلالة الفرد الواحد، كما أثبتت ذلك أبحاث الـ "D.N. A"، ما يعني أنّ النقاء العرقي ليس سوى وهم. لكن، مع ذلك؛ إذا كان في ممكنات العلم إثبات هوية عرقية غالبة عبر فحص (D.N.A)، كما بدا واضحاً اليوم قطعية ذلك الإثبات على نحو رياضي صرف، فإنّ في إمكانه البحث عن الهويات العرقية للأفراد، ما سيكون حلاً للسجال الهوياتي/ العرقي حول أولوية نقاء النسب المتصل بفكرة العروبة، وعلى نحو فردي أو قبلي من شأنه تسكين السجال الهوياتي للعروبة، بوصفها عرقاً وأيدولوجيا، في الوقت ذاته.
نتائج فحص D.N.A الصارمة والدقيقة قد لا ترضي أهواء البعض وأمنياتهم في قضية الانتماء للعروبة
من الناحية الأخرى، سيكون في نتائج العلم "الصارمة والدقيقة، حول فحص "D.N.A"، ما قد لا يرضي أهواء البعض وأمنياتهم في قضية الانتماء للعروبة من عدمه، الأمر الذي سيعني، أيضاً، أنّ ردود الفعل المتخلفة للبعض في رفض نتائج ذلك الفحص، إنما هي ردود فعل ترتبط، أساساً، بذاكرة التخلف التي تشحن أفرادها بالأوهام والادعاءات عبر مزيج نفسي أوتقراطي يغذي أوهام الاستعلاء العرقي.
كثيرون منّا ربما شاهدوا ذلك الفيديو (موجود على موقع يوتيوب)، الذي يلتقي فيه أفراد من أعراق متعددة، على طاولة واحدة ويعلنون عن هوياتهم العرقية النقية بيقين جازم، قبل نتائج الفحص، ليتضح بعد نتائج فحص (D.N.A) أنّ هوياتهم العرقية تجمعهم بآخرين ــ على الطاولة نفسها ــ لم يكونوا يتصورون أنّ ثمة علاقة عرقية تربطهم بهم، ليكون تقبل النتيجة بين الجميع والتصالح معها، دلالة على التقدم والرقي في تلك المجتمعات الأوربية.
اقرأ أيضاً: الأرقام تطيح بالدقائق الست لقراءة العربي: الكتاب خير رفيق، ولكن
أما بخصوص مجتمعاتنا العربية والإفريقية، فقد كنت شاهداً على أحد الذين خاضوا تجربة، تحليل وفحص الـ(D.N.A)، رجل من قبيلة "وسط الشمال النيلي في السودان تدّعي النسب إلى "العباس ابن عبد المطلب" (يحمل شهادة عالية في العلوم)، حين أخبرني بأنه سيقرر إعلان نتيجة الفحص، إذا جاءت مؤكده لانتمائه العربي العباسي، وسيقوم بإخفائها إذا جاءت النتيجة مخالفة لنسب قبيلته، إذاً ما تبين له، مثلاً، أنّه من أصل زنجي! وهكذا سنجد أنفسنا أمام حالة عيانية للتخلف، بوصفه مركب نقص نفسي، حين يتمثل في ردود الفعل غير العقلانية أمام حقائق العلم!
وكما ختم الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو روايته "باودلينو"، حول ولع الناس في العصور الوسطى بالأساطير، بعد اتضاح كذبة أسطورة الكأس المقدسة وحكايتها الخيالية، بالقول على لسان المؤرخ الحكيم لبطل الرواية، ناصحاً إياه بألّا يسرد حكايته للناس: "فمن يدري لو فعلت، كم من المعتوهين سيجوبون الأرض بحثا ًعنها لدهور ودهور"، كذلك سيظل البحث عن أسطورة النقاء العرقي المستحيل، عبر أيدولوجيا العروبة، ديدن مجتمعاتنا في هذا الجزء من العالم، المسمى عربياً، تماماً كما كان الحال في عصور أوروبا الوسطى، ورغم أنف نتائج (D.N.A).