هل تتمخض الفوضى في سوريا عن نظام جديد؟

هل تتمخض الفوضى في سوريا عن نظام جديد؟


17/09/2020

الحدث الزلزالي الذي وقع في سوريا ربيع العام 2011 أدخل الفوضى إلى النظام، الذي تأسس العام 1963؛ فمنذ ذلك الربيع تعيش سوريا في فوضى عارمة، وحالة حرب على جبهات شتى، وفي كل جبهة منها على حدة سلطات أمر واقع، تتحكم في ما يسميه الإعلام مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة المعارضة ومنطقة شرق الفرات، وسلطات إيرانية وروسية وميليشياوية تخترق سلطات الأمر الواقع؛ سلاح واسع الانتشار وخارج عن أي سيطرة اجتماعية أو سياسية، قانونية أو أخلاقية، وجماعات ليس لتجاذبها أو تنابذها أي معنى سياسي وأي قيمة أخلاقية، قتل وخطف وتعذيب وتنكيل واغتصاب وتدمير على الهوية، علاوة على الإفقار والتجويع والإذلال.

توازن القوى على الصعيدين المحلي والإقليمي وميزان القوى الدولي يرسخان الفوضى ويطيلان في أمدها

توازن القوى على الصعيدين المحلي والإقليمي، وميزان القوى الدولي يرسخان الفوضى ويطيلان في أمدها، كل وصف للأوضاع السورية أو العراقية أو الليبية أو اليمنية.. يحيل على الفوضى، ويدل عليها.

فهل الفوضى خلاقة، كما وصفها صحفيون أمريكيون وأوروبيون وبعض من الصحفيين العرب؟ أم هي شقيقة الحرية، كما يصفها بعض المفكرين؟ لنتوقف عند الوقائع الآتية: الثورة تدخل الفوضى إلى النظام، أي نظام كان، جميع الثورات فعلت ذلك، حتى ليمكن القول إن الفوضى رفيقة الثورة.

اقرأ أيضاً: متلازمة استوكهولم: هل نعيشها في مجتمعاتنا اليوم؟

المثقفون يُدخلون الفوضى إلى بنية الثقافة التقليدية السائدة، فيزعزعون أركانها؛ المفكرون يدخلون الفوضى إلى نموذج التفكير السائد والمناهج التقليدية، المصلحون والمتنورون يدخلون الفوضى إلى العقائد والممارسات الدينية؛ الأجيال الجديدة تدخل الفوضى إلى نمط الحياة التقليدية، فلا يكون نمط الحياة إلا ما يصنعه الأطفال (إناثاً وذكوراً) بعد عشرين عاما أو ثلاثين عاماً، كل مولود جديد يدخل فوضى ما في حياة الأسرة، ويحدث تغييراً ما في بنيتها. ثمة فوضى تحدث بمعزل عن أي إرادة فردية أو جمعية، تحدث لأنها تحدث وحسب.

الفوضى شقيقة الحرية والتغيير لذلك تخافها القوى التقليدية مثلما تخاف من الثورة والحرية

إذاً، الفوضى خلاقة، وهي شقيقة الحرية، ورفيقة الثورة، ولذلك تخاف القوى التقليدية من الفوضى مثلما تخاف من الثورة، ومثلما تخاف من الحرية؛ فحين انتقل البشر من حياة القطيع إلى العمران، بتعبير ابن خلدون، صاروا يخافون من الفوضى، ويتطيَّرون من كل ما يؤدي إليها، فابتكروا آلهة للسيطرة على قوى أمهم (الفوضوية) والمتقلبة المزاج، أي الطبيعة، مع أن الاجتماع البشري تأسس على الفوضى الخلاقة، التي لا تفارقه، والتي هي علَّة نموه وتطوره، لما تحمله من إمكانات انتظام غير محدودة، بصفتها قوة سلب أو نفي لكل نظام، لذلك تدوم المجتمعات والأمم والشعوب، ولا تدوم أنظمتها، كما يرى الباحث جاد الكريم الجباعي.

اقرأ أيضاً: ما علاقة الحرية الفردية بالحريات العامة؟

يعود مفهوم الفوضى إلى الخيال العلمي، قبل أن يُقبل كحقيقة علمية، حيث كثر الجدل بين العلماء والفلاسفة والمفكرين حول العلاقة الجدلية بين الحرية والفوضى، منهم من اعتبر أن الفوضى شقيقة الحرية، واعتبر آخرون أنّ الحرية تفضي إلى الفوضى أو العشوائية، إلى أن أصبحت نظرية الفوضى حقيقة علمية تُدّرس في الجامعات والمعاهد لدى المجتمعات المتقدمة، وعلى وجه الخصوص نظريات "فوضى الرياضيات والطبيعة"، كما أنها أخذت مساراً لا بأس به في العلوم التطبيقية كعلم الفلك وعلم الأرصاد الجوية، على الرغم من دراستها بقوة في الرياضيات والعلوم.

يذهب ليونارد سميث إلى أن الأشخاص المتميزين فقط هم من يخلقون الفوضى

يذهب "ليونارد سميث" إلى أن الأشخاص المتميزين فقط هم من يخلقون الفوضى "العلوم التطبيقية تحركها رغبة في فهم الحقيقة وتوقعها، تتجاوز التفصيلات الدقيقة في صور الرياضيات السائدة، وهذا تطلّب أفراداً فريدين من نوعهم استطاعوا التقريب بين نماذجنا للعالم والعالم الواقعي دون الخلط بين الاثنين"، وبما أنّ الكون قائم على الرياضيات والحسابات والأرقام، وأنّ الطبيعة مرآة الإنسان، فإنّ الفوضى تنطبق عليه؛ أي على الإنسان، كما تنطبق على الطبيعة والرياضيات.    

في العام 1758؛ نشر "بنجامين فرانكلين" أغنية الأطفال "غياب المسمار" والمعروفة في تقويم "بور ريتشاردز ألماناك" والتي تحذر من الفوضى في كل مكان، وكانت الأغنية تُدرّس في رياض الأطفال منذ القرن الرابع عشر، وتعود قصتها لضياع مملكة بأكملها بسبب غياب المسمار. تقول الأغنية:

بسبب غياب المسمار فُقدت الحذوة

بسبب غياب الحذوة فُقد الجواد

بسبب غياب الجواد فُقد الفارس

إذ اختطفه العدو وذبحه، وكل ذلك بسبب غياب المسمار.

ولا يخفى على القارئ الحصيف والقارئة الحصيفة أن المسمار هو القانون والنظام.

هل تتمخض الفوضى في سوريا عن نظام جديد يتأسس على الحرية والعدالة والمساواة؟

الفوضى أقدم من النظام، لذلك يخافها البشر، كما يخافون من الحرية  تماماً،  فالتحذير من الفوضى تحذير مبتذل؛ لأن الفوضى خلاقة بالفعل؛ أي إنها من صنع أفراد المجتمع، وتنبثق من تطلعهم إلى الحرية والاستقلال. الفوضى خلق جديد لعالم جديد، عالم الفن والأدب والإبداع، وتخصيب الخيال، وهي أيضاً نفي لمحددات الحرية التي تنفي بدورها الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية القاسية، والتي أصبحت أنظمة مقدسة؛ مترفعة عن النقد والرفض لقواعدها وقوانينها القمعية، ولم يكن عصر التنوير في أوروبا، الذي لم تستفد منه لا المجتمعات المتخلفة ولا حكوماتها إلاّ دليلاً قاطعاً على أنّ الفوضى خلق عالم جديد، ينتقل من النظام المقدس إلى النظام الحر ذي الطابع القانوني والمنظم والقابل للنمو والتغيير. فهل تتمخض الفوضى في سوريا عن نظام جديد يتأسس على الحرية والعدالة والمساواة؟

الفوضى أقدم من النظام لذلك يخافها البشر كما يخافون من الحرية تماماً

منذ عشر سنوات وسوريا تعيش مرحلة حرجة، أطلق عليها بعضهم صفة مرحلة انتقالية فوضوية قاسية الملامح، لكن تلك الفوضى أسفرت عن نتائج لم تكن في الحسبان لدى النظام السياسي، أو النظام الاجتماعي، من ثم، فقد بات المجتمع السوري يبحث عن تشكيل جديد؛ إذ المرحلة الانتقالية هي مرحلة تأسيسية للحياة القادمة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، قد تكون مرحلة إعداد لملامح جديدة لمجتمع مدني ونظام ديمقراطي.

نحن إذاً إزاء فوضى، هي الوجه الآخر للنظام؛ فوضى اجتماعية خلاقة ومبدعة تحمل إمكانات نظام جديد وتؤسس له، وفوضى "سياسية" تتصدى للأولى بالقمع والفساد.

أيهما ستنتصر في المستقبل وتحدد معالم النظام الجديد؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية