هل القرب من التكنولوجيا والانفصال عن الطبيعة وراء تفشي كورونا؟

كورونا

هل القرب من التكنولوجيا والانفصال عن الطبيعة وراء تفشي كورونا؟


22/03/2020

يعيش البشر في عصر رؤيوي، أو عصر فرجة في أبسط تعبير، يفكّر فيه الناس الآمنون بطريقة تجعلها الكوارث مثيرة للسخرية، فالصحو كلّ صباح، وأداء أعمالهم الروتينية لتوفير احتياجات الحياة، ثم تكرار ما يفعلونه في يومٍ جديد، معتمدين على العلم والتكنولوجيا في القول إنّ كلّ شيءٍ يتطور، هي مقولات قد ينفيها فيروس ما، ليوقف كلّ هذه الأوهام، فيصبح الوباء شغل الناس الشاغل، يتفرجون عليه في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، وكلّ فرد يراقب الأعداد التي تتناقص من أبناء جنسه.

اقرأ أيضاً: بسبب كورونا: إسرائيل في أسوأ أحوالها
إنّ مأساة فيروس كورونا الدائرة حالياً في العالم، تدعو إلى التأمل في مجتمع اليوم، بوصفه عالمياً، وربما تربطه شبكة من الأوهام بالفعل، لكن كيف يفكّك الكورونا خيوطها؟

وحش المرض والأوهام
كلّ يومٍ في العالم، توجد وفيات من أمراض عديدة مختلفة، ومن حوادث وسائل النقل باختلافها، ومن الإدمان والجرائم، ولأسبابٍ أخرى عديدة، إلا أنّ هذا يعتبر عادياً لدى كثيرين، أما مرض مثل "الكورونا" أو "Covid 19"؛ فإنّه يسبب حتى اللحظة هوساً بالزوال، الانقراض، القيامة، العزل، الموت، وهذا ليس ناتجاً عن طبيعة المرض وانتشاره وتهديده فقط، بل عن نزعة إبادية موجودة، تتغذى على وعي البشرية منذ زمنٍ بعيد. ربما تكون بدأت من معتقداتٍ أسطورية ودينية قديمة سببت حالاتٍ غريبة كالانتحار الجماعي، والحديث عن قرب نهاية العالم بمرور مئة عامٍ من عمر التاريخ كل فترة.

يموت كثيرون يومياً لأسباب غير الفيروسات، لكنّ كورونا نبّه إلى مفهوم الكارثة المفاجئة التي تعلو على كوارث يومية معتادة

ورغم أنّ الهوس الإبادي لم ينته، إلا أنّ أفكاراً معاصرة، باتت مرعبة أكثر في عصرنا، لكنّ البشر يتعايشون معها، ويمكن العثور عليها في محركات البحث والصحف والتلفاز والمجلات المتنوعة، من أمثال: ارتفاع الكثافة السكانية، وانحسار الغابات، وانقراض الحيوانات، والتلوث، وانحدار مصادر الطاقة، والحروب والأسلحة، والاحتكار الرأسمالي، وغيرها. وهي تبدو حين يحدث وباء مثل الكورونا أموراً عادية، البشر خبروها، وملوا من إمكانيات تغييرها، كأنّ حلّ مشكلة كارثة الكورونا سوف يجعل العالم وردياً، بل إنّ كثيرين ظنوا في العزلة حلّاً سحرياً، لكنْ للواقع العالمي رأيٌ آخر، فما هو؟
المفكّر السلوفيني المشهور، سلافوي جيجيك، يختلف مع فكرة العزلة ويراها حلاً مؤقتاً فقط، أي إنّ محنة كورونا، ليست مجرد عقبة أمام مستقبل البشرية مثلاً يمكن حلّها بالعزلة، بل إنّها "فرصة للكشف عن وضعنا البشري أمام التحرر والديمقراطية وثقافة الاستهلاك".

الفيروس يهدّد حياة البشر والعزل حل مؤقت لتقليل ضحاياه

يقول جيجيك في مقاله المطول، الذي ترجمته "مونتي كارلو"، مطلع آذار (مارس) الجاري: إنّ "العزلة والجدران الجديدة ومواقع الحجر الصحي لن تحلّ وحدها مشكلة الكورونا، بل هناك حاجة إلى تضامن كامل غير مشروط واستجابة منسقة على المستوى العالمي، وهذا شكل جديد لما كان يسمى فيما مضى الشيوعية".

يرى جيجيك أنّ القرب من التكنولوجيا والانفصال عن الطبيعة وتغليب النمط الرأسمالي في الحياة أسباب لتفاقم أثر الكوارث والأمراض

وبغضّ النظر عمّا يمكن عدّه مبالغة من جيجيك، والمقصود بهذا (الشيوعية)، وفق خطابه؛ فإنّه يشير إلى "كونِ الإجراءات الاحترازية والحجر ليست الآن مشكلةً بحدّ ذاتها، وبالعكس، هي إجراءات سليمة ومهمة، لكن ماذا سوف يحصل؟ هل ستحمي الأسواق العالمية الشعوب من الجوع إن طال الوباء وتفجر؟ وهل يعدّ اللجوء إلى التكنولوجيا والاختباء خلف أجهزة الحاسوب والإنترنت للفرجة على الكارثة وآخر مستجداتها عملاً مفيداً؟ ثمّ ما الذي يمنع من انهيار أنظمة صحية، وتراجع اقتصادات دولٍ بأكملها، ومثلاً: "رفض صندوق النقد الدولي تلبية طلب من الحكومة الفنزويلية لمنحها قرضاً قدره 5 مليارات دولار لمساعدتها في ردع فيروس "COVID-19"، بذريعة عدم الاعتراف بسلطة الرئيس نيكولاس مادورو دولياً"، بحسب موقع "روسيا اليوم" في الثامن عشر من الشهر الجاري، فهل للشعب أن يموت أو يتعرض للموت كلّ لحظة بسبب عدم رضا (المجتمع الدولي) عن رئيسه؟

ما يزال جيجيك يرى أنّ كوارث العالم تكون أخطر بسبب النظام العالمي الاقتصادي

يعتقد جيجيك باختصار أنّ الفيروس، وإن ضرب أنحاء مختلفة من دول العالم، فإنّ هذا لا يعني ترابطاً وعدالةً في فرص مكافحته والتصدي له في هذه الدول بصورةٍ متساوية، فهو في أمريكا أو الصين، مختلف تماماً عنه في دولٍ فقيرة؛ مثلاً بنغلادش أو اليونان، كما يقول الكاتب؛ لذلك فإنّ هوس الدمار موجود حقاً، وأخطر ما فيه هو هذيان الناس به على مواقع التواصل مثل "فيسبوك" فالبعض يرى أنّ الدول الصغيرة لن تتأثر؛ لأنّه ليس لديها الكثير لتخسره، بينما يرى آخرون عكس ذلك، أما الدول الكبيرة فترى أنّها تستطيع تجاوز أزمة كهذه، لكن البعض ينعتها بالأنانية، ولا أحد يريد القول في النهاية إنّ هذه الآراء المشتركة بفضل (العولمة) والإنترنت، يجب أن تثير الانتباه إلى أنّ سرعة انتشار الفيروس سببها العولمة نفسها قبل كلّ شيء، وسهولة التنقل بين دول العالم بسرعة وفاعلية للأفراد.

استهلاك، مساواة، انقراض
لا يهمّ في أيّة دولةٍ نعيش؛ لأنّ الدول التي انتشر فيها فيروس كورونا شهدت الصور ذاتها من تهافت الأشخاص على استهلاك المواد التموينية والتعقيمية، والخوف من نفاد مخزون الدول من هذه المواد، إضافة إلى فوبيا الأشخاص من الإصابة، مما استدعى تعزيز فكرة الفردية، وأن يهتمّ كلّ فرد بنفسه ويبتعد عن الآخرين، وببساطة، تمّ تفكيك الكثير من أوهام المجتمع عن أنّ الجماعية تنقذ كثيرين في الظروف الصعبة، حين يصبح الفرد عدو فرد آخر لمجرد أنّه يحمل المرض، والعالم لا يسير على هذه الشاكلة بالطبع، بحسب ما يراه المفكر الإيطالي ماثيو باتاليولي، الذي يقول إنّه "مهما بدت قيم المساواة والتآخي والتعاون بين البشر، فإنّه لا بدّ من فروقات، ولا بدّ من لا مساواة، لأسبابٍ كثيرة، منها الأسباب الطبيعية".

يكون العالم أقوى في مواجهة كارثة كورونا إذا أوقف كوارث تغول الحروب والإفقار ونشَر نظاماً عالمياً أكثر عدالة

ويضيف في كتابه "عواقب المساواة": "لا يمكن في النهاية "القفز عن انعدام المساواة بين البشر" أي إنّ مرضاً مثل كورونا، سوف يجعل البشرية في حال انتشر بشدةٍ في العالم، يتحولون إلى قسمٍ هو فريسة للوباء، وآخر ينجو بنفسه من خلال ترك الآخرين لمصيرهم وليس مسألة عداوة".
موضوع الفيروس لا يُراد له التهويل، لكنّ خطره يشتدّ في بعض مناطق العالم، وهذا لا يعني أنّ باقي العالم بمعزلٍ عن الخطر، فـ "العولمة اليوم، موضوعة أمام اختبارٍ خطير وكبير"، وفق ما قالته "الإندبندنت"، في السادس عشر من الشهر الجاري.

يحتاج العالم إلى عدالة اقتصادية وسياسية ليكون أكثر مناعةً من الكورونا

ورغم أنّ الصين أعلنت مؤخراً أنّ الفيروس بدأ ينحسر فيها، فإنّ مدينة أوروبية، هي لومبارديا الإيطالية "أعلنت استسلامها تقريباً، وأنّه لا مصل يعينها على إيقاف الإصابات والوفيات حتى الآن، وأنّ نظامها الصحي لم يعد قادراً على دعم مواطنيه"، حسبما ذكرت "العربية" في الثامن عشر من الشهر الجاري؛ أي إنّ المدينة سقطت نوعاً ما في معركتها ضدّ الكورونا، وبقدر ما يعدّ هذا خبراً محزناً، بقدر ما يرى باتاليولي أيضاً أنّ البشرية "تنجو دائماً" لكن بعد تقديم بعض التضحيات.

اقرأ أيضاً: الجزائريون منقسمون حول محاربة "كورونا".. لهذه الأسباب
عدوى الاستهلاك، ومحاسن العولمة، إن وجدت، لا تحمي من فوضى الديستوبيا (عالم الواقع المرير) المتمثلة في هوس البعض بالانقراض أو الوباء الذي قد يدمر العالم، أو على أقل تقدير؛ الذي سوف يغير خريطة العالم الاقتصادية، وربما السياسية، فالحديث عن خسائر اقتصادية بالمليارات، وانهيار أسواقٍ عالمية، واختفاء مستهلكين، وندب البعض على ما سيحصل، وترحيب بعض المستعجلين بما قد يحصل، كلّه مجرد حوارٍ عولميٍ على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل فقط، يديره كارهو العولمة قبل أيّ شخصٍ آخر، مما أثار سخرية بعض المعلقين، ومنهم الكاتب أمين الزاوي، الذي قال في مقالٍ له على "إندبندنت عربية"، في الثاني عشر من آذار (مارس) الجاري؛ أنّ "نوعاً من السحر والأساطير يسيطر على كثيرين في دولٍ آسيوية وشرقية وغربية، خلال تعاملهم مع الفيروس؛ إذ تحدّث البعض مثلاً عن قرب خروج قومٍ سيقضون على البشر ويفترسونهم، بينما اعتمد البعض على أنّ إيمانهم وحده دون العلاج سيحميهم من المرض، وشرب آخرون بول الأبقار كما في الهند، ثم كثرت الادعاءات بإيجاد علاجٍ نهائيٍ للفيروس رغم عدم صحة ذلك".


وربما يلخص الزاوي، وضع شعوبٍ كثيرة حول العالم، لجأت إلى هذه الأفكار، بينما استسلم آخرون إلى أنّ الطبيعة آخذة بالانتقام من البشر لانفصالهم عنها وقربهم من التكنولوجيا كما يقول جيجيك، فيما يقوم آخرون بالبحث عن علاج علمي ويتعاملون مع الأزمة بمنهجية كما تفعل دولٌ عديدة عربية وغربية.

اقرأ أيضاً: هل حقاً حصل الكلوركين على الموافقة كعلاج لوباء كورونا؟
تكمن الخلاصة في أنّ أزمة كورونا، حتى اللحظة، زعزعت كثيراً من شبكة الأوهام الكامنة في صلب مجتمعاتنا وعالمنا، وكشفت أننا لم نكن أقوياء فعلاً قبل الأزمة، وها قد تزعزعت القناعات بالعولمة، بالتكنولوجيا، وبالتضامن في ظلّ تغوّل اقتصاداتٍ عالمية على أخرى محلية مثلاً.
وربما تغير هذه الأزمة، إن طالت وفتكت، الكثير من علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، إلا أنّ ما يتمناه البشر، هو تجاوز هذه المحنة ووقف توسعها، وتعلم درس كبير، عن القوة البشرية الكامنة في الابتعاد عن الحروب والتغول الاقتصادي، واللجوء لروابط أكثر عدالةً وقدرةً على مواجهة الكوارث، وليس التحول من كوارث يومية ألِفَ البشر ألمها، تُرتكب بحقّ الفقراء والطبيعة، إلى كوارث صادمة وقاتلة مثل كورونا.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية