يروّج السلفيون ومفكّرو الإسلام السياسي، والدعاة الجدد "الكاجوال"، بين الجمهور والشارع، أنّ العلمانية هي دين جديد أو دين بديل، يغسلون أدمغة الناس، ويزيّفون وعيهم، ويجعلون المواطنين جنوداً طائعين في جيشهم، وتحالفهم المقدس ضدّ العلمانية، التي يتصورون أنّها ستقتلع شجرة الدين الراسخة، وتضع مكانها دين العلمانية البديل، تستفزهم الكلمة، وكل ما يتصل بها. يكفّرون من يدعو إليها، أو حتى يتلفظ بها، تبرز أنيابهم ويسنّون سكاكينهم، ويشحذون سيوفهم، ويشهرون مسدساتهم، ما إن تقال "علمانية"؛ لذلك كان لا بدّ، قبل أن نشرح لماذا العلمانية ضرورة حضارية وحداثية؛ بل وأمنية أيضاً، أن نفكّ هذا الاشتباك والارتباك، ونبدّد هذا الضباب الفكري الذي يمنع الناس من تقبّل العلمانية وفهمها.
العلمانية ليست ديناً، وليست إلحاداً، وليست معتقداً أو عقيدة، في ظلّ العلمانية يمارس كل مؤمن، وكلّ تابع دين طقوسه وشعائره، وأيضاً من حقّ أيّ شخص ألّا يؤمن أساساً بأيّ دين أو معتقد، هذا لا يخاف من ذاك، ولا يحجر عليه، ولا يضطهده. ما في رأسه ليس سبباً لقطع رأسه!، العلمانية إنسانية بالضرورة .
العلمانية ليست علماً، لكنّها ضرورية لنهضة العلم، هي المناخ الذي لا يحرّم الأسئلة، ولا يجرّم علامات الاستفهام، ولا يخلط مطلقات الدين بنسبية العلم، العلمانية مساحة واسعة تشجع التقدم العلمي، وتتبنّى منهج التفكير العلمي.
العلمانية ليست ديناً، وليست إلحاداً، في ظلّ العلمانية يمارس كل من المؤمن وغير المؤمن حياته بحرية
العلمانية ليست حزباً سياسياً، لكنّها هي التي تسمح للأحزاب السياسية ألّا تتناحر دينياً.
العلمانية لا تدعو إلى "الإباحية"، كما يروّج لها بعض رجال الدين؛ لكنّها الحفاظ على الحرية الشخصية، وعدم التطفل على الفضاء الخاص برفيق وشريك مجتمعك، ليست التعري من الملابس، لكنّها شفافية السلوك والتصرفات .
في العلمانية ليست القوى الخارجية هي التي تسيّر وتقود عربة المجتمع، لكنّ الناس أنفسهم هم السائقون، فكل واحد يقرّر ويقود ويضغط على آلة التنبيه، هم الذين يقررون مصير أنفسهم بأنفسهم، وليس كهنة أو حاخامات أو شيوخاً .
العلمانية تحمي الأديان لا الدين، العلمانية تنقلنا من دولة الأديان إلى دولة الأوطان، عمود خيمتها المواطن، رجل الدين فيها يشرف على طقوس وشعائر ديانته، لا على ناموس وقانون ونظام سياسة بلده، في العلمانية أنا لست أفضل منك لأنّ ديني كذا، أنا أفضل منك لأنّني مفيد لمجتمعي أكثر، في العلمانية الإنسان هو الجالس على العرش بصولجان الحرية المسؤولة.
العلمانية ليست علماً، لكنّها ضرورية لنهضة العلم، هي المناخ الذي لا يحرّم الأسئلة، ولا يجرّم علامات الاستفهام
العلمانية -كما عرّفها الدكتور مراد وهبة: "التفكير في النسبي بما هو نسبي"، مشكلات الأرض أشياء نسبية تتغير وتتبدل، وكل حسب وجهة نظره وزاوية رؤيته، لا ينفع أن نراها ونضعها تحت ميكروسكوب مطلق في السماء، ونجرّها إلى ساحة الثوابت، ونحنّطها في تابوت النصوص التي نرفض تأويلها ونتبع حرفيتها، العلمانية لا تمسّ الدين؛ بل تمسّ تسلط رجل الدين، العلمانية لا تعرف حشر الأنف في المعتقد الشخصي، لكنّها تعرف حشد العقل في الفضاء العام المشترك، وهي تقوم على دعامتين؛ أخلاقية وقانونية؛ فالأخلاق قبل الدين وسابقة للعقائد والمذاهب، أما القانون فيسير على الجميع، لا يحابي ديناً أو عرقاً أو مذهباً.
العلمانية، ببساطة، قبلة الحياة لمجتمعاتنا، وإلا سنموت باختناق الفاشية الدينية التي تكسب مساحات أرض جديدة كلّ يوم.