
هيئة تحرير الشام تمكنت من الاستيلاء على ثاني أكبر مدينة في سوريا في غضون أيام قليلة بسبب انشغال روسيا في أماكن أخرى، والضرب المبرح الذي تعرض له ما يسمى محور المقاومة على يد إسرائيل منذ هجوم 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023 إلى جانب نظام ضعيف، بحسب دراسة أعدها المركز العربي لدراسات التطرف، حول سيطرة محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام على سوريا.
واعتبر المركز أن ذلك لم يكن من الممكن أن يتحقق لولا التحول الذي شهدته هيئة تحرير الشام على مدى السنوات الأربع والنصف الماضية، فمنذ وقف إطلاق النار في سوريا في آذار / مارس 2020 وحتى الشهر الماضي، بذل الجولاني جهوداً متتالية لبناء مؤسسات محلية أكثر مرونة وإصلاح أجهزة الحكم والجيش التابعة لهيئة تحرير الشام.
ويعتقد الجولاني أن المساحة الممنوحة للهيئة بعد وقف إطلاق النار ستساعد على بناء قدرات وخبرات أكبر محلّياً في ما يسمونه “المناطق المحررة”، حتى إذا حان الوقت المناسب، ستكون الهيئة قادرة على تصدير هذه المؤسسات إلى بقية سوريا كما قال الجولاني في تموز / يوليو 2022.
وكان الجولاني قد قال لمساعديه، “ إن شاء الله سنحتفل بعيد الفطر في حلب ودمشق قريباً”. وكما اتضح، فإن تصريحاته ـ التي ألقاها في نيسان / أبريل أمام قادة الجناح المسلح لمجموعته ـ لم تكن مجرد نزوة، بل كانت لديه خطة، وعيد الفطر لا يزال على بعد أربعة أشهر، بحسب المركز.
رؤية الجولاني
هذا ولفتت الدراسة إلى أنه ومن خلال جهود الجولاني وهيئة تحرير الشام لتوجيه المؤسسات والإصلاح البيروقراطي الداخلي نحو المزيد من التكامل والكفاءة، أصبحت الهيئة قادرة بشكل أفضل على مواجهة الأزمات ضمن حدودها على مدى السنوات الأربع والنصف الماضية.
كما تم استخدام هذه العملية لتحسين احترافية جميع جوانب الخدمات في المناطق المحررة، حيث إذا قررت هيئة تحرير الشام أنه حان الوقت لتوسيع أراضيها، فسوف تكون جاهزة لتكرار هذا الشكل من نظامها السياسي / الإداري ودمج المواقع الأحدث بكفاءة.
وبحسب الدراسة فإن العديد من اجتماعات حكومة الإنقاذ السورية التي تمت بحضور الجولاني هي جزء من خطة متقنة لإظهار اهتمام زعيم هيئة تحرير الشام بتحديات الحكم ومخاوف الناس. على سبيل المثال، في آب / أغسطس 2020، في اجتماع مع سوريين نازحين داخلياً من حلفايا، أقر الجولاني أن هيئة تحرير الشام ليست “حكومة كبيرة”، وأن لديها قدرة محدودة على مساعدة الناس، لكنها ستجند كل مواردها.
وقال إن إحدى الطرق للقيام بذلك هي استخدام موضوع أثاره عدة مرات، وهو الاكتفاء الذاتي. في مايو/ أيار 2021، أثناء اجتماعه بوفد من شيوخ القبائل، صرح الجولاني بأن “المرحلة الحالية هي مرحلة إعداد وبناء مؤسسات” ومن شأنها أن تمهد الطريق لتحقيق النصر في نهاية المطاف. "كل مؤسسة نبنيها في المناطق المحررة تمثل خطوة نحو دمشق… معركتنا على كل المستويات. إنها ليست معركة عسكرية فقط".
وتُعتبر هذه المشاريع مهمة، وفق الدراسة، بالنسبة إلى الجولاني؛ لأنه يعتقد أن “هناك مسؤولية مزدوجة على هيئة تحرر الشام: تحرير المناطق بالطريقة الصحيحة وبناء المؤسسات بالطريقة الصحيحة أيضاً”. ويشكل هذا التصور جوهر مساعي الجولاني لتحقيق تفوق الهيئة على جميع الجهات الفاعلة في الساحة السورية.
وعلى الرغم من أن هيئة تحرير الشام لا تؤمن بالديمقراطية الليبرالية أو السيادة الشعبية، فإن الجولاني يحاول تأطير مشروع بناء الدولة بوصفه جهداً شعبياً في جوهره. وكما قال في خطابه أمام وجهاء إدلب: “نحن جميعاً مؤسسة واحدة، ولدينا جميعاً السلطة، ونحن جميعاً الشعب”. ولهذا السبب، فإن “حكومة الإنقاذ تشكل مرحلة مهمة للغاية في تاريخ الثورة السورية” وفقاً للجولاني في خطابه أمام وزراء الحكومة.
رجحت الدراسة أن تعتمد هيئة تحرير الشام على هيئتين للمساعدة على السيطرة السريعة على المناطق المحررة الجديدة
وتعد النقطة الأساسية بالنسبة للجولاني أن الجهود يجب أن تكون متكاملة على المستويين الحكومي والمجتمعي، حتى إذا كان هناك حالة طوارئ أو توسع في السيطرة على الأراضي، يمكن للمؤسسات التي قام الجولاني وهيئة تحرير الشام ببنائها أن تعمل بكفاءة ودون مشاكل، وهذا سيضمن اكتساب المزيد من الدعم والشرعية بين السكان المحليين بوصفهم جزءاً من هذه الجهود.
حملة رسائل لتهدئة المخاوف
إلى ذلك بذل الجولاني وقسم الشؤون السياسية في هيئة تحرير الشام جهوداً متضافرة لإضفاء الشرعية على مشروعهما والتأكد من أن الجهات الفاعلة الخارجية قادرة على قبول الواقع الجديد في سوريا.
على سبيل المثال، في ما يتصل بالسكان المحليين، أصدر الجولاني في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني سلسلة من الوصايا للجنود في الميدان تتعلق بالاستيلاء على حلب، والتي ذكرت أن الأولوية هي حماية ممتلكات وأرواح المدنيين وإرساء الأمن وتهدئة مخاوف الناس من جميع الطوائف. وأشار الجولاني إلى أن حلب هي ملتقى الحضارات ومركز التنوع الثقافي والديني لجميع السوريين، وأن أي شخص ينشق عن النظام آمن.
تبع ذلك في اليوم التالي سلسلة أخرى من الوصايا التي تؤكد على ضرورة حماية حياة المدنيين ومعتقداتهم وممتلكاتهم، وأن المقاتلين يجب أن يضمنوا سلامة الناس دون انتقام، وأن السجناء والجرحى يجب أن يعاملوا بإنسانية، كما يجب تجنب الدعوات إلى استخدام العنف أو الانتقام. وذكّر الجولاني مقاتليه بأن النصر الحقيقي لا يكمن في المعركة الحالية فحسب، بل أيضاً فيما يليها (الحكم وتوفير احتياجات السكان).
وعلى نحو مماثل، أصدرت إدارة العمليات العسكرية التي تقودها هيئة تحرير الشام إشعاراً لقوات سوريا الديمقراطية والسكان الأكراد في حلب في الأول من ديسمبر/ كانون الأول، مشيرة إلى أن معركتهم هي مع النظام والميليشيات التابعة لإيران، وعرضت السماح لهم بمغادرة حلب نحو شمال شرق سوريا بأسلحتهم دون مضايقات، وأكدت أن الأكراد جزء لا يتجزأ من سوريا، ويتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها أي شخص آخر في البلاد، وأنها الهيئة مسؤولة عن حمايتهم وضمان حصولهم على حياة كريمة.
واعتبرت الدراسة أن جملة الرسائل هذه تحاول أن تُظهر أن هيئة تحرير الشام ليست جبهة النصرة بالأمس، حتى إن الهيئة دعت الصحفيين والمنظمات الدولية إلى القدوم إلى المناطق المحررة من خلال مركز الخدمات الإعلامية التابع لها لمعاينة الواقع على الأرض.
هذا ولن يتسامح داعش ولا القاعدة مع أي رسائل من هذا القبيل للأقليات أو الدول الأجنبية، مما يسلط الضوء على رغبة الجولاني في أن يُنظر إليه وإلى هيئة تحرير الشام بصفتهم جهات فاعلة ومحاورين جادين.
المضي قدماً
من أجل تعزيز سلطتها وتوسيع نطاق عمل مؤسساتها في أجزاء أخرى من سوريا، رجحت الدراسة أن تعتمد هيئة تحرير الشام على هيئتين للمساعدة على السيطرة السريعة على المناطق المحررة الجديدة وحكمها: مجلس النازحين، ومجلس القبائل والعشائر.
وبما أن النظام الذي بنته الهيئة كان يعتمد بشكل كبير على استقطاب الوجهاء والشخصيات القبلية، فسوف يكون بوسعها بسهولة إرسال أولئك الموجودين بالفعل ضمن هيكلها مرة أخرى إلى بلداتهم وقراهم ومدنهم لاتباع النهج الذي كانت الهيئة تسير عليه في الأراضي المحررة الأصلية. كما سيوفر ذلك واجهة مناسبة للسكان المحليين الجدد الذين سينضمون إلى المناطق المحررة.
وسيسهل ذلك أيضاً دمج هؤلاء السكان الجدد بشكل أفضل في نظام المناطق المحررة. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تحصل شركة الراقي للإنشاءات المرتبطة بهيئة تحرير الشام على عقود للمساعدة على إعادة بناء المناطق التي لم يقم النظام بإعادة بنائها أو التي تعرضت لغارات جوية مؤخراً.
ولفتت الدراسة إلى أنه وفي حال أصبحت الأراضي الجديدة التي استولت عليها هيئة تحرير الشام مستقرة وتمكنت من توسيع بيروقراطيتها ومؤسساتها إلى أجزاء أخرى من سوريا، فمن المرجح أن تستعيد الهيئة زخمها في المستقبل.
إن أحد الدروس الرئيسة في حالة هيئة تحرير الشام هو أنه على الرغم من أن العديد من الناس ما زالوا ينظرون إليها من خلال العدسة القديمة بوصفها جزءاً من تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، فإن الجماعة والحكومة التي بنتها في شمال غرب سوريا تغيرتا بشكل هائل في السنوات الأربع والنصف الماضية.