
محمد مصطفى أبو شامة
لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على حيرته بين قبول الهدنة أو التصعيد، فهو لم يقتنع بأنها فرصته «الأخيرة»، فهو يرى أن هذا أمر يخص الإدارة الأمريكية وتعبير يناسب ظروفها وأوضاعها، فهي من تسعى للتهدئة ووقف التصعيد في المنطقة بسبب اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر(تشرين الثاني) القادم.
أما هو فيرى أنها فرصته «الذهبية»، فاللحظة المرتبكة التي يعيشها العالم، مع ضعف قدرة الإدارة الأمريكية الحالية على الحسم، هي توقيت مثالي يستطيع أن يورط فيه أمريكا وحلفاءها لمواجهة إيران عسكرياً، وهو الهدف الذي يستعد له منذ أكثر من 15 عاماً لإيقاف مشروعها النووي والحد من تنامي قدراتها العسكرية وبتر أذرعها المسلحة من حركات المقاومة، الممتدة بالمنطقة تحاصر حدود دولته.
ورغم أن الزيارة الحالية (العاشرة) لأنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، إلى المنطقة تهدف لدعم المسار التفاوضي، إلا أن كل المؤشرات تؤكد أن زيارته إلى إسرائيل ومصر وقطر لن تسفر عن أي جديد يطال مفاوضات الهدنة ووقف الحرب التي طالت بأكثر مما ينبغي، حيث بات واضحاً نية نتنياهو في تفريغ الاتفاق من أي فائدة تعود على «حماس» أو سكان القطاع من الفلسطينيين.
فهو يسعى فقط لإطلاق سراح الرهائن بلا مقابل، هذا ما كشفت عنه تسريبات أخيرة لأحدث الشروط التي طرحها الوفد الإسرائيلي المفاوض في الدوحة قبل أيام والتي يصعب قبولها من «حماس».
وكان أبرزها «وجود إسرائيلي محدود في محور فيلادلفيا وليس انسحاباً، إدارة فلسطينية لمعبر رفح تحت رقابة إسرائيلية، مراقبة إسرائيلية للنازحين العائدين إلى شمال قطاع غزة عبر محور نتساريم، إبعاد من تراه إسرائيل غير مرغوب فيه من الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم في صفقة التبادل إلى خارج فلسطين، لا حديث عن الانسحاب الكامل من القطاع أو وقف إطلاق دائم للنار أو إعادة الإعمار إلا في المرحلة الثانية من المفاوضات».
وقد أوجز السياسي الإسرائيلي بيبي غانتس، زعيم حزب معسكر الدولة، عندما خاطب نتنياهو قبل أيام قائلاً: «كُن شجاعاً ولو لمرة واحدة وتوقف عن اللعب بمصير إسرائيل»، وهو يحفزه على قبول اتفاقية الهدنة، فيما أخطرت جهات أمنية، أمريكية وإسرائيلية، رئيس حكومة المتطرفين في تل أبيب أن عليه أن يختار بين «صفقة الرهائن» أو «حرب إقليمية»، بينما وصف قادة من حركة حماس تفاؤلاً أمريكياً بشأن مفاوضات الهدنة بأنه يحمل قدراً كبيراً من المبالغة.
وكان جيش الاحتلال قد شن حرب إبادة على غزة بدافع الرد على «طوفان الأقصى» منذ ما يتجاوز الشهور العشرة، وفشلت إسرائيل خلال هذه الفترة في إنجاز كامل أجندة الأهداف التي أعلنها نتنياهو في الأيام الأولى للمعارك، ويؤيد ذلك ما ذكرته صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام من أن القوات الإسرائيلية حققت بعض النجاح خلال الصراع، لكنها قالت أيضاً إن الصراع لا يمكن أن ينتهي إلا دبلوماسياً، وبحسب ما نقلته الصحيفة عن مسئولين أمريكيين قولهم: «إن إسرائيل حققت كل ما في وسعها عسكرياً في غزة، والقصف المستمر لا يؤدي إلا إلى زيادة المخاطر على المدنيين، في حين تضاءلت إمكانية (إضعاف) حماس بشكل أكبر».
وعلى صعيد آخر، وكعادته فجَّر دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الأسبق والمرشح الجمهوري الحالي في انتخابات الرئاسة الأمريكية، موجة جديدة من الصخب السياسي بسبب تصريحات صحافية مثيرة أطلقها الخميس الماضي، وقال فيها بحسب شبكة «سي إن إن» الأمريكية: «مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخارطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها»، وذكر ترامب عندما سُئل عما إذا كان يشجع نتانياهو على الموافقة على وقف إطلاق النار: «لا، لم أشجعه، فهو يعرف ما يفعله». وأضاف في المؤتمر الصحافي الذي عُقد بمنزله في ولاية نيوجيرسى، أنه أخبر نتنياهو «أن يحقق انتصاره.. ويُنهي هذا الأمر».
يصعب تجاوز تصريحات ترامب والتعامل معها بالسخرية فقط، فهي كارثية وتعكس رؤية استعمارية تبشر بأزمات مستقبلية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار ما قام به ترامب خلال ولايته الأولى (2016: 2020) من خطوات داعمة بتطرف شديد لإسرائيل، ومنها إعلانه اعتراف بلاده رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر(كانون الأول) عام 2017، ثم منحه مرسوم اعتراف رسمياً لإسرائيل بسيادتها على الجولان السورية في مارس(آذار) 2019، فيما سُمي بـ«وعد ترامب» استنساخاً من «وعد بلفور» الشهير الذي صرّح بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، وكلاهما تنطبق عليه مقولة «من لا يملك أعطى لمن لا يستحق»، ونتمنى أن لا يفعلها ترامب مجدداً حال نجاحه في الانتخابات القادمة ويكرر عطاياه (المسروقة) إلى معشوقته إسرائيل.
فيما تشتد الظلمة ويقترب الجميع من اليأس، لا تزال مصر دولة السلام، ومهد رسالته، وجسر أحلامه، تشعل شمعة من روحها على الطريق وتواصل جهاده بنفس الحماس كما بدأته منذ أن تفجرت الأوضاع في غزة، لا يحركها إلا دافع أصيل هو إنقاذ الشعب الفلسطيني، وقد وصفت حال مصر على المسار الدبلوماسى كوسيط الأمل في جولات مفاوضات لا تتوقف، وكتبت ذلك في مقال نشرته لي «الوطن» في أبريل(نيسان) الماضي بعنوان: مطاردة «بصيص» النور، قلت فيه: «إن مصر لا تملك رفاهية اليأس، لهذا فصبرها لا ينفد، ومع نهاية كل جولة دون نتيجة إيجابية، كانت الدبلوماسية المصرية تبحث عن بارقة أخرى تعيد بها طرفي الصراع إلى مائدة التفاوض، وغالباً ما كانت تنجح».
وندعو الله من أعماق قلوبنا أن تُفلح جهود مصر في إنجاح هذه المفاوضات الجارية، لإيقاف هذه الحرب، لعلها تعيد الحياة إلى قطاع غزة الذي اغتالته إسرائيل بخنجر حمساوي.
الوطن