رغم أهمية العقل في بناء العمران البشري وتطوره، إلا أنّ العاطفة تظلّ أقوى أثراً في حياة شعوبنا وأسبر غوراً، ومن شروط صحة الوجدان أن تصافحه صور الجمال صوتاً وصورة، لذا جبلت النفوس الصحيحة على أن تسمو بالصورة الحسنة وتطرب للصوت الحسن، وتنفر من سواهما وتنطبع فيها صورة الأشياء فيكون لها فعلها في الطبائع.
ولقد عني الإسلام بالسمو بالأرواح والنفوس والأبدان، فحفظت لنا تعاليم الرسول الكريم -عليه السلام- في هذا المقام من الوصايا ما يتعذر حصره.
ولأنّ الإسلام معنيّ بسعادة الإنسان فلم يُغفل أياً من الجوانب التي ترتقي بحياته وتحقق له السعادة، لكن تمدد العرف والعادة، واختيارات وأذواق القبيلة أو الطائفة، فضلاً عن الفوضى في المعارف وألوان العيش، كل ذلك ساهم في بروز ظواهر اجتماعية انحسر فيها الجمال لصالح القبح، حتى أصبح الحديث عنه لوناً من ألوان الإباحية، ومن ينتصر لقيم الدين الصحيحة يُرمى باتهامات التفلت والبدعة وتعطيل أحكام الدين ومقاصده.
هذا النداء العُلوي لا يجوز إذاً أن يمرّ إلى مسامع الناس إلا عبر صوت نديّ خاشع جميل
تفجّرت في مصر منذ العام 2009 قضية الأذان الموحد، التي كانت انفعالاً من بعض المخلصين تجاه العدوان على شعيرة من شعائر الدين، باعتبار الأذان إعلاناً يلامس أسماع المؤمنين، ويدعوهم للمثول بين يدي الله في بيته، يجددون صلتهم ببارئهم، ويشحنون نفوسهم بخشيته ورجائه، عبر صوت ندي يحمل معاني الحب والخشية والجمال والبهاء.
وإن جاء نداء الصلاة إلهاماً في رؤيا صالحة، فلم يترتب أن يكون من رآها صاحب الحق في التشرف بالنهوض بالمهمة، فخاطبه الرسول الكريم بحسم واضعاً الأمر في نصابه "علمها بلالاً فإنه أندى منك صوتاً".
هذا النداء العُلوي لا يجوز إذاً أن يمرّ إلى مسامع الناس إلا عبر صوت نديّ خاشع جميل، لذا حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر في مرة من المرات بنحو عشرين رجلاً فأذّنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان.
إذاً كان من هديه -عليه السلام- ألا يترك تلك المهمة لمن توفر له وقت وجرأة على الحلق والخلق، فأطلق عقيرته بالأذان دون امتلاك لصوت أو خشوع أو علم بما يقول؛ بل أحاطه بتكليف واضح لم يترك لأحد اجتهاداً فيه، لكن هذا الأمر كغيره اختلط مع العرف والعادة وتدهور الأحوال الاجتماعية وتصورات الناس للدين وفعله في النفوس والمجتمعات.
في الفراغ الذي تركه غياب مؤسسات دينية مؤهلة أصبحت سماعات المساجد بمتناول الفارغين أو العاطلين
في الفراغ الذي تركه غياب مؤسسات دينية مؤهلة لأدوارها أصبحت المساجد ساحة لبعض الفارغين من أرباب المعاشات أو العاطلين عن العمل، الذي رابط أكثرهم دأباً وربما أقواهم بنية، بجوار سماعة المسجد يتحين الفرصة قبيل كل صلاة ليصب في آذان الناس ما يعتقده أذاناً للصلاة، بصراخ غير مفهوم في بعض الأحيان يعصف بقواعد النحو ويتجنّى على جماليات الصوت التي ارتبطت بالنص القرآني تلاوة يتعانق فيها نداء السماء مع الكون بكل أصواته المسبحة.
هذا النداء الذي يحمل رسالة تتكرر في اليوم خمس مرات، يجب أن يذكر الناس بالسماء وما تحمله من سموّ وارتقاء يربط الناس في الأرض بخالقهم، لا أن يخنقهم بضجيج يعادي الجمال، فيختبئ بلال غريباً جزعاً من هول ما يسمع.
غدا "بلال" ممنوعاً من الأذان باسم "شرع" البعض، إن وقف لهم صوت الحق يعظهم، تشتعل المعركة بمزايدات ممن اعتدى على طقوس الدين في وجه من ينتصر لروحه ونقائه الأول.
من يغضب لحرمان بلال وكل بلال من الأذان، هو الأحرص على دين الله وفعله في النفوس وليس من يريد ترك أمر على هذا القدر من الأهمية لكل من هب ودبّ ممن حوّل العبادة إلى عادة مفرغة من روحانياتها.
الأمر أيسر من أذان موحّد وجهاز يختطفه صاحب سطوة من بيت الله، فقط اجعلوا الأذان في مسجد جامع يتبارى على شرف رفعه، الأندى صوتاً ولا تجرّدوه من معاني الجمال والخشوع.