
دعونا نتفق في بداية هذه الإحاطة أنّ هدف القافلة يلتحم مع التعاطف الإنساني العالمي تجاه فكّ الحصار عن سكان قطاع غزة، وإدخال المساعدات إليهم. وتُعدّ النشاطات المجتمعية المناصرة والداعمة لقضية المحاصَرين، ولشعب فلسطين بشكل عام، جزءًا من هذا الحراك.
من تونس إلى بنغازي: جذور العلاقة وتقاطعات اليسار
في تونس، تنشط حركات وتيارات سياسية عدّة، ومن أبرزها اليسار بكافة خطوطه وخلفياته، وعلى رأسه اليسار الشيوعي، الذي كان لاعبًا رئيسيًا في تأسيس القافلة. وعندما كنت ورفاقي في الاتحاد العام لطلبة جامعة بنغازي، تواصلنا مع الشق اليساري في الاتحاد العام لطلبة تونس، وتحديدًا المكتب التنفيذي (و. ن)، الذي وجّه لي دعوة لحضور احتفالية تأسيس الاتحاد العام لطلبة تونس، والتي تزامنت مع إحياء الذكرى الأولى لاغتيال المناضل شكري بلعيد، في السادس من شباط (فبراير) 2014. ولكن بسبب انشغالي في بنغازي، لم أتمكن من السفر، وشاء القدر أن يحدث الاغتيال في اليوم الذي كنت سأكون فيه في تونس.
تضامن الاتحاد العام لطلبة جامعة بنغازي مع مواقف اتحاد طلبة تونس من خلال البيانات، والعكس كذلك. واستمرت العلاقات في إطار التضامن المشترك حول القضايا المهمّة. وبعد تجربة المرض والعُزلة أثناء علاجي في باريس، انتقلت فكريًا إلى اليسار الديمقراطي، وبدأت العلاقة تبتعد تدريجيًا، إلا أنّني كنت أحرص في كل زيارة إلى تونس على التواصل مع (و.ن) واللقاء به. حتى شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، تواصل هو معي أثناء وجودي في تونس، وطلب لقائي. أعطيته عنوان الفندق، وحددنا موعدًا، وجاء هو وآخر (غ)، وحدثوني عن إخفاقهم في السفر إلى غزة عبر تركيا، ورغبتهم في إطلاق قافلة جديدة نحو القطاع.
فكرة القافلة: نقاشات وتحذيرات مبكرة
شرح (و.ن) الفكرة بشكل مفصل، وقال إنّهم يخططون لإطلاق قافلة شعبية لا تحمل مساعدات غذائية أو إنسانية، بل قافلة رمزية للضغط باتجاه فك الحصار.
أجبته دون تردد برفض الفكرة، خصوصًا عندما ذكر أنّ عدد المشاركين لا يقل عن (600) من مختلف الدول المغاربية، إضافة إلى مصر وليبيا. شرحت له صعوبة الجغرافيا الليبية، والتحديات القانونية والأمنية، كما أنّه لم يكن منسقًا مع أيّ طرف ليبي، وكنت أنا الشخص الوحيد الذي تواصل معه. سألني عمّن يمكنه مساعدته في ليبيا، فقلت له: إن كانت القافلة محمّلة بالمساعدات وبعدد صغير من المرافقين، يمكن تمريرها، أمّا قافلة شعبية بهذا العدد، فالأمر صعب جدًا. بل طلبت منه إلغاء الفكرة نهائيًا. بدا عليه الانزعاج، فقلت له: "يا سيدي، أعطيك رأيًا مناسبًا يمكن من خلاله جعل الفكرة مقبولة. تواصل مع السفارة المصرية واطلب تأشيرات، ثم خاطب الدولة التونسية، فهي نقطة الانطلاق، وبعد إنهاء كل هذه الإجراءات تواصل معي، قد أتمكن من مساعدتك في المرور، وأكون قناة تواصل مع الجهات المعنية في بنغازي". ردّ بحزم: "نحن سننطلق، وحكومتنا لا تُعطي موافقات ومنعتنا من البحر، نحن نحب أن نخلق أمرًا واقعًا على الحكومات". قلت له: "إنّ نهج اليسار في تونس لن يُفهم في ليبيا، هنا ركود طويل لليسار، وستُفهم الرسالة بشكل مختلف". انتهى النقاش وديًا، لكنّه بدا رافضًا لإجاباتي واعتبرها محبطة.
تجاهل التحذيرات: حين يتقدّم الاندفاع على العقل
مرت الشهور دون أيّ تواصل بيننا، وصُدمت عندما وجدت أنّه حذفني من أحد حساباته الاحتياطية النشطة على (فيسبوك)، ولم يتواصل معي إلا عند انطلاق القافلة. وقد أرسل أحد الأصدقاء بيننا نموذج تسجيل، لم أعره اهتمامًا، وكنت أتوقع أنّ (و.ن) لن يُقدِم على هذه الخطوة، لكنّه غامر، وسجل أعدادًا كبيرة من التونسيين والجزائريين والموريتانيين، وقدّم طلبًا جماعيًا للحصول على موافقات من السفارة المصرية في تونس، ومن ثم إلى السلطات الليبية التي رحبت بالفكرة مبدئيًا. ولهذا انطلق، وكان يعتقد أنّ مصر ستوافق بشكل تلقائي، ولم يكن صادقًا مع أغلب من في القافلة، بل كذب وأخبرهم أنّ مصر لن تكون مشكلة، وأنّ ليبيا رحّبت بهم.
مع أنّني كنت قد أبلغته بأنّ الإجراءات في الشرق تختلف عن الغرب، وحتى نحن كمواطنين نحتاج إلى موافقات أمنية وفحص عند الدخول، إلا أنّه لم يهتم، واستأجروا حافلات النقل، ودفعوا مقدّمًا. ولم يهتم (و.ن) بأهمّ نقطة نبّهته إليها: الانتماءات السياسية، فعناصر تنظيم الإخوان والجماعات الإسلامية غير مرحّب بهم في شرق ليبيا.
الفوضى تبدأ في الظهور
انطلق (و.ن)، ولم أتخيل أنّ السلطات التونسية ستُخرج كل هذه الأفواج دون موافقات. وتوقعت أن يتم توقيفهم عند البوابة الليبية، لكن ما حدث هو العكس. دخلوا ليبيا. وهنا تواصلت مع صديق مشترك وأبلغته بأنّ ما قام به (و.ن) كارثة، لكنّني سأعمل على إنقاذ الموقف. ثم تواصلت معي هيفاء منصوري، وكانت دبلوماسية إلى حدٍّ ما، وأبلغتها بأنّ هناك ترحيبًا مبدئيًا من السلطات في شرق ليبيا، لكنّ الأهم هو استيفاء الإجراءات، وكانت تتهرب من هذه النقطة. عقدنا اجتماعات جماعية عبر (واتساب)، ووضعتهم في صورة الوضع، بل طلبت منهم البقاء في الزاوية حتى تنتهي الإجراءات في سرت، لكنّهم خالفوا ما تم الاتفاق عليه.
استعمل (و.ن) أسلوبًا حادًا لم أتوقعه منه. طلبت منه قوائم كاملة بالأسماء، بمن فيهم أسماء الليبيين، لكنّه أجاب: "لن نعطي أيّ قائمة، نحن نتخوّف أن يكون أحدهم على خلاف ويتم اعتقاله". قلت له: "هذا الإجراء سيُخفف من الصدام، حيث نُدخِل الدفعة الأولى، وإذا كان هناك أسماء مطلوبة، يتم إبلاغك لاستبعادهم". فردّ قائلًا: "لن نستثني أحدًا مهما كان، نريد العبور ولا أحد يوقفنا". هنا أدركت أنّ الطريق مسدود. رددت: هذه التصرفات ستُعرقل القافلة وتُفسد كل الجهود، وأغلقت الهاتف. ليخرج بعدها في فيديو مستفز، يتحدى الأجهزة الأمنية والحكومة، ويطالب الناس بالخروج في الشرق، ويوحي أنّ هناك من يهدده ـ قاصدًا إيّاي ـ في تصرف متهور، لا يحترم جهود الآخرين.
القاهرة تحسم الموقف: لا دخول بلا تأشيرات
تدخلت هيفاء لاحتواء الموقف، وأرسل (و.ن) رسالة صوتية يعتذر فيها، وقال: "أنا مندفع وأعتذر. تواصل مع هيفاء، فهي أكثر دبلوماسية". في تلك الأثناء أصدرت الخارجية المصرية بيانًا مفاده أنّ القافلة لن يُسمح لها بالدخول من السلوم، ويجب على المشاركين العودة والحصول على تأشيرات من السفارات. تواصلت مع هيفاء للاستفسار عن خطوتهم القادمة، ومسألة القوائم، فقالت: "لا نعلم ماذا سنفعل بعد مصراتة، نريد التوجّه إلى بنغازي، ثم السفر حتى آخر نقطة عند الحدود والاعتصام هناك للضغط على مصر". قلت لها: "السفر حتى أمساعد لن يجدي، بل سيكون مجرّد إرهاق لكم وللحكومة، وقد يؤدي إلى توتير العلاقة مع الجانب المصري. نحتاج إلى القوائم"، لكنّها راوغت، وأرسلت فقط القائمة المقدّمة للسلطات المصرية، وعددها لا يتجاوز (900) اسم من أصل (1700)، أي أنّ هناك (800) شخص غير مقيدين. وعند اطلاعي على القائمة وجدت جوازات سفر صلاحيتها تنتهي خلال شهر أو شهرين. والأغرب أنني لم أجد اسم زوجة (و.ن)، رغم معرفتي بها.
وبصفتي وسيطًا ونقطة اتصال، أرسلت القوائم إلى الجهات المعنية. انطلقت القافلة باتجاه سرت، وكانت ترفض التوقف وتُصر على المرور إلى بنغازي. طلبت مرارًا من هيفاء عدم الخروج من مصراتة قبل إنهاء الإجراءات، لكنّهم رفضوا جميعًا. وكان من الواضح أنّ هناك من يدفعهم عمدًا للتصادم مع الحكومة الليبية والقيادة العامة.
الإعلام يدخل على الخط: محاولة لوقف الانزلاق
رغم ذلك، وأثناء دخول القافلة إلى الزاوية فجرًا، تواصلت مع المذيع أحمد المدني في قناة (ليبيا الحدث) ببنغازي، وأبلغته بضرورة تغطية القضية عاجلًا، دون انتظار موقف رسمي، لأنّ هناك رسائل يجب إيصالها إلى الناس. وبالفعل خرجنا في المساء ذاته أثناء تخييم القافلة في "جود دايم" بالزاوية، وكنت قد حذّرت وقلت إنّ هناك خللًا كبيرًا يرافق القافلة، ولم يمر وقت طويل حتى ظهرت هذه الحقيقة إلى العلن.
في الختام: لا للمزايدة على فلسطين ولا للتوظيف السياسي
ويشهد الله، وأنا مسؤول عمّا أقول: لقد كان هناك ترحيب وتجهيز، ولم يكن هناك نقاش حول الإيقاف، حتى حدثت الإشكاليات التي ذكرتها في هذا المنشور. وبناءً على ما حدث، فإنني أطالب السلطات التونسية بمحاسبة من قاموا بهذه المجازفة التي كادت تؤدي إلى تصادم داخلي في ليبيا، وإقليمي مع مصر. فالتنقّل بمواطنين نحو مناطق التوتر يُعدّ جريمة واضحة، وعلى السلطات التونسية التحرّك لمحاسبة هؤلاء.
ومن خلال هذا التوضيح أقول: لا يمكن بأيّ حال من الأحوال المزايدة بهذا الشكل الفوضوي على مشاعر شعوب هذه الجغرافيا، بين ليبيا ومصر، تجاه القضية الفلسطينية. ولا يمكن لجماعة الإخوان المسلمين أن تتبنّى هذه القضية الكبيرة جدًا عليهم. فمن حارب إسرائيل كانت الجيوش العربية، وعلى رأسها الجيش المصري، والتضحيات قدّمت أنهارًا من الدماء لأجل استعادة الأرض الفلسطينية. ويجب على الشعوب الحيّة تحريك حكوماتها قبل الذهاب إلى الآخرين وخلق التوتر، وإثارة الحقد، والمزايدات.