بنغازي والمستقبل والقادة الشباب

بنغازي والمستقبل والقادة الشباب

بنغازي والمستقبل والقادة الشباب


18/02/2024

يمكن القول إنّ بنغازي، كما هو الحال في أغلب المدن الكبرى والمناطق والقرى الصغيرة، التي ضربتها الأمواج العالية، شهدت محطات تاريخية متعددة، وفي هذه المقالة أود أن أبدأ من موجة التغيير في 17 شباط (فبراير) عام 2011.  

كانت بنغازي شرارة ومهد التغيير، وقدّم أبناؤها أرواحهم لينتصر الوطن ويقتنص حريته من نظام معمر القذافي، ولكنّ التصحر السياسي الذي أوجده النظام خلال (40) عاماً أثر سلباً على سير التغيير في مساره الطبيعي، لذلك حلّت على المدينة أزمات كبيرة أبرزها ظهور فرع تنظيم (القاعدة) "أنصار الشريعة"، الذي تمدّد في المدينة وحظي بتأييد وترحيب الفصائل المسلحة الأخرى، التي تتوافق مع تنظيم (القاعدة) في جملة من الأفكار، وأصبحت المدينة تواجه من خلال تيارات مدنية كبيرة وعريضة هذا الخطر، دون مساندة من السلطة التشريعية آنذاك؛ "المؤتمر الوطني"، أو التنفيذية المتمثلة في حكومة السيد علي زيدان، وبدأ التحدي يشتد بعد جمعة إنقاذ بنغازي، ومقتل السفير الأمريكي في ذكرى هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، واستمرت التيارات المدنية في حراكها، حتى أصبحت الاغتيالات تطال قياداتها، وهنا ترسخ هدف هو ضرورة القضاء على هذه الجماعات، ولكن كيف وجميع من هم في السلطة يتجاهلون هذا الخطر، بما في ذلك مفتي الديار؟ ومن هنا ولد الإصرار على ضرورة دعم ومؤازرة القوات الخاصة ـالصاعقة- فهي الجبهة الوحيدة التي لها خلفية عسكرية نظامية مع عدد من الوحدات الأخرى، ومن بينها كتيبة شهداء الزاوية، التي كان يقودها الراحل صلاح بوحليقة، ومن بعده جمال الزهاوي.

حرب وجود في مواجهة تنظيم (القاعدة)

كان لا بدّ من توحد الجهود السياسية والمدنية الوطنية لإنهاء وجود فرع تنظيم (القاعدة) وحلفائه، وتمّ الضغط مراراً على رئاسة الأركان آنذاك للتدخل دون جدوى، حتى فجرت القوات الخاصة مواجهة مسلحة لم تحظَ بالدعم الحكومي، الذي كان يتجه نحو شرعنة هذه المجاميع، ويضع فرضيات غير حقيقية، بأنّ هذه المجاميع ثورية ولا علاقة لها بالإرهاب أو التطرف.

وفي حقيقة الأمر كانت هذه الجماعات تنظر إلى السلطة كغنيمة، دون الخضوع لتعليماتها التي تتعارض مع توجهاتها المتطرفة، الأمر الذي جعل النخب المدنية تطالب بحراك لمواجهة الخطر الذي يهدد سلطة المؤتمر وحكومته، وهو ما أتى بالتوازي مع حراك تمرد في مصر، الذي أنهى وجود الإسلاميين من المشهد السياسي، ممّا أصاب فرع الإخوان في ليبيا بالخوف، ومن هنا حدث الانقسام بشكل واضح وجلي بين التيارات المدنية والإسلاميين، وبدأ الصراع الذي تحول بشكل سريع إلى حرب اشتعلت في أيّار (مايو) عام 2014، تحت اسم "عملية الكرامة"، كعملية عسكرية مسلحة تهدف للقضاء على فرع تنظيم (القاعدة) "أنصار الشريعة"، الذي انضمت إليه باقي المجاميع المسلحة، كردة فعل على عملية الكرامة التي وصفوها بالانقلاب على الثورة، وقد وجّه النشطاء سؤالهم: "هل محاربة عملية الكرامة لصالح أنصار الشريعة يخدم الثورة؟"، لم تكن هناك إجابة، لتشتدّ الحرب التي قادها اللواء آنذاك (خليفة حفتر) كقائد للعملية ضدّ أنصار الشريعة، التي كانت العمود الفقري لما يُسمّى مجلس شورى ثوار بنغازي، الذي ضمّ جلّ الفصائل والكتائب التي تتوافق مع أفكار تنظيم (القاعدة).

 وجد المتطرفون من يتصدى لهم، من خلال مشروع بناء الجيش الذي حدده اللواء حفتر بعد انتهاء العملية، لتستمر الحرب عدة أعوام، انتهت بدمار أصاب واجهة المدينة العمرانية، مع خسائر باهظة في الأرواح والمباني والممتلكات، ليعلن المشير خليفة حفتر في تمّوز (يوليو) عام 2017 انتهاء المعارك وتحرير مدينة بنغازي من الإرهاب، الذي تطور في منتصف الحرب، ودخل معه تنظيم (داعش) وأصبح يدعم بشكل علني من قبل أمير تنظيم (القاعدة) في المغرب، وكان هناك دعم إقليمي للمتطرفين لضرب مشروع الجيش.

 وبدأت معارك أخرى ذات طابع سياسي، فالقيادة العامة شعرت بأنّها ما زالت مسؤولة عن حماية الجيش من عبث السياسة، ووجدت نفسها طرفاً مهماً في المعادلة السياسية، الأمر الذي جعل الإسلاميين الذين تركّز نفوذهم في طرابلس وعدد من مناطق غرب البلاد، يكثفون جهودهم مع باقي التيارات لضرب الجيش وقيادته؛ من خلال دعم وتمويل هجمات مسلحة، قادتها مجموعة تُسمّى سرايا الدفاع عن بنغازي، التي كان جلّ قياداتها من الإرهابيين الذين ناصروا (القاعدة) وفرّوا من بنغازي، وأصبحوا يطمحون في استردادها من الجيش، وهذا الطموح كان متماهياً مع السلطات التي قادت الحكم في غرب البلاد، والتي أنتجتها اتفاقيات هشة رعتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، التي تغول بداخلها الفساد السياسي والانتقائية والمنفعة لصالح من يقود الحكم، لتقوم بمنحه غطاءً دولياً من خلال حوارات هشة تجمع اللصوص والسياسيين الفاسدين.

وجدت القيادة العامة نفسها المسؤول الأول على قيادة المنطقة الشرقية والجنوبية، وقررت بكل حزم التقدم إلى طرابلس؛ لإنهاء عبث الميليشيات المهيمنة على قرار السلطة والمؤسسات المركزية في طرابلس، بعد فشل كل الجهود المحلية والإقليمية والدولية، لخلق توافق ينهي الانقسام السياسي والعسكري، ولكن انتهت الحرب بعد عام ونصف، وتراجع الجيش عن اقتحام طرابلس بالقوة التي قد تسبب دماراً وخسائر باهظة في الأرواح، الأمر الذي جعل السلطة في طرابلس تستعين بتركيا كحليف ضدّ الجيش، الذي حاول تأمين طرابلس وضمها لمناطقه حتى يبدأ في تأسيس كيان هذه الدولة الممزقة؛ بفعل التدخلات الخارجية والإقليمية السلبية، ودور الإسلاميين الذين أهانوا بلادهم واستهدفوا خصومهم بالقتل والتصفية الجسدية والنفسية، ودعم التنظيمات والميليشيات الإرهابية المتطرفة.

عاد الجيش إلى سرت والجنوب، وبدأ فعلياً في الإعمار والبناء رغم الحصار الاقتصادي الذي تواجهه القيادة العامة، وظهر مشروع الشباب الذين فضلوا الالتحاق بالجيش، وهما اللواءان (صدام وخالد خليفة حفتر)، ومعهما في شق البناء والإعمار شقيقهم (بلقاسم)، وتفاعل مع هذا المشروع الجديد الكثير من النخب الاقتصادية والسياسية ورجال الأعمال، وفضلوا جميعهم السير في طريق البناء الداخلي على مستوى الجيش والمؤسسات الحكومية الرسمية التابعة للسلطة التشريعية "مجلس النواب"، وهذا الأمر جعل عجلة البناء تنطلق وأصبحت بنغازي تتميز عن طرابلس في استقرارها، وسرعة عجلة التغيير بداخلها، والتحقت بها سبها، وأصبحت الوتيرة تتسارع وتنطلق لباقي المدن والمناطق التي وفرت بداخلها القيادة العامة الاستقرار والهدوء.

صعود آل الدبيبة

ذهبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا نحو خيار جمع النخب الليبية، الممثلة لكافة الأطراف المحلية، في ملتقى عُرف باسم "ملتقى الحوار السياسي"، مضمونه أن تقوم هذه النخب بكتابة خارطة طريق تنتج سلطة موحدة، تقود البلد إلى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، ورغم الفساد العلني الذي حدث داخل الملتقى، وتقديم الرشوة كعربون لتمرير قائمة تقود السلطة في المرحلة المؤقتة، إلّا أنّ مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة (ستيفاني وليامز) وفريقها تغاضوا عن الأمر، وجعلوا من هذا الملتقى جسراً تعبر من خلاله أسرة آل الدبيبة إلى السلطة، وليست مصادفة أن تذهب (ستيفاني) قبل موعد الملتقى وتجلس في صالون الحاج (علي الدبيبة) عم (عبد الحميد) في مصراتة.

نجحت الأسرة من خلال ستيفاني ومن جمعتهم، وأطلقت عليهم وصف النخب، في تسليم آل الدبيبة الحكم كأوصياء على مرحلة مؤقتة، لا تتجاوز الشهور، تنتهي بالانتخابات، ولكنّ هذا لم يحدث، وغادرت ستيفاني منصبها، لتتحول المرحلة إلى أسوأ نتاج سلطوي شهدته ليبيا، ولتتمكن أسرة آل الدبيبة من حكم ليبيا إلى يومنا هذا، ضاربة كل الوعود والضمانات التي أطلقوها أمام ملتقى الحوار عرض الحائط، وتحكمت في الغرب، مستغلة مركزية الدولة في طرابلس، ولكنّ هذا الأمر جعلها تفقد سيطرتها على شرق وجنوب البلاد، وأصبحت مُشوهة بعد سحب البرلمان الثقة منها، وتكليف حكومة بديلة بقيادة السيد (فتحي باشاغا)، الذي خطا خطوة ثابتة نحو خلق توافق ليبي، بعدما سافر إلى بنغازي لإعلان مبادرة سلام أطلق عليها "السلام الليبي الشجاع"، ولكنّ بعثة الأمم المتحدة للدعم أفسدته، مع تدخلات إقليمية أخرى وقفت أمام السلام الذي كان بالفعل يهدف لإنقاذ ليبيا من أسرة الدبيبة، التي ظهرت في الثمانينيات من القرن الماضي حتى يوماً هذا.

كافحت بنغازي كثيراً، ولا بدّ من أن يكون لها مشروعها الخاص، وباقي المدن الكبرى والصغرى في شرق وجنوب البلاد، فأصبحت القيادة العامة والقيادات الشابة يركزون على تهيئة المناخ للبناء والإعمار والتنافس حول تشييد الطرق والجسور، وتثبيت حالة الاستقرار التي ينعم بها المواطنون، والتي فقدوها من أعوام طويلة، وهنا يمكننا القول إنّ بعض التنازلات مطلوبة للدفع بهذا المسار وإنجاحه.

ولظروف عائلية خاصّة، قررتُ النزول إلى بنغازي بعد اغتراب دام (8) أعوام في المهجر، لأسباب أوّلها صحية وثانيها سياسية. غادرت بنغازي بعد أن عدت إليها قادماً من فرنسا في شهر آب (أغسطس) عام 2016. ولم أقرر العودة مجدداً، فالمشهد كان مأساوياً جداً وحالة حقوق الإنسان منهارة، في ظل تجاوزات لا تتوقف وكل شيء هو قيد التأسيس، مع فوضى لا يستطيع الإنسان العيش بها، من جهة الحرب المشتعلة، ومن جهة أخرى وجود استهدافات سياسية وعسكرية لمناطق الجيش، وهي اغتيالات وتفجيرات وقفت وراءها أطراف محلية تعادي الجيش ومشروعه.

ليبيا المستقبل

قررتُ الاستقرار في ألمانيا ناشطاً مدنياً مستقلاً، أعبّر عن مشروعية معركة  بنغازي وأهلها ضد الإرهاب، وآمالهم في رؤية مدينتهم تعود آمنة ومستقرة، عارضت بشدة كافة الانتهاكات والتجاوزات، وكوّنت معرفتي وبنيت قناعاتي الإنسانية، رغم شدة المرض وقوة الآلام التي سببها الإرهاب، ولم أكن أبداً خارج السرب، وكنت في مقدمته، ولكن بمفهوم عقلاني منضبط يؤسس لمستقبل مثالي، وهذا كان بعيداً جداً، فالواقعية تكون الخيار الأنسب في المساهمة الجادة في خلق التغيير الذي يواكب المرحلة والمستقبل، فشعوب منطقتنا اليوم أصبحت لديها الرغبة في التقدم، وأصبحت تتطلع نحو حريتها، باستخدام الأدوات التي قدمتها الحداثة، ومنها الفضاءات الإلكترونية من منصات ومواقع؛ تجعل الإنسان يعبّر عن رأيه بكل أريحية، ويخاطب الآخرين، ويؤسس معهم طيفاً معارضاً وناقداً لغرض التطوير والبناء بالشكل الصحيح. فاليوم لا توجد نسبة تؤكد لنا أنّ كل المجتمع يؤيد الأشخاص أو مشاريعهم، فهناك معارضون ونقاد أنقياء لديهم قناعاتهم التي يجب أن يعبّروا عنها، وهؤلاء يجب اتخاذهم مستشارين، تحرص السلطة على الاستماع لهم، والأخذ بملاحظاتهم والعمل من خلالها، وتتيح لهم الفرص للتحدث عبر قنواتها المتعددة، فهذا المشهد هو الذي يجعل الآخرين يتخذون من هذه السلطة عنواناً لاحترام كرامة الإنسان وحقه في التعبير.

 بنغازي ليست برلين، أو حتى القاهرة، فالوضع لدينا استثنائي، وعلينا ألّا نكون أفلاطونيين ونذهب بتفكيرنا إلى مقارنات أشبه بالمستحيلة، لذلك البداية تكون بتثبيت الاستقرار ودعمه، فهو عصب الدولة الحديثة، ولتكن قيادة الجيش والقادة الشباب أصحاب هذه المبادرة، فهم اليوم يدركون جيداً احتياجات المواطنين إلى حياة كريمة وتوفير فرص العمل والبناء وترميم الدمار وجبر الضرر، والانفتاح ونبذ الكراهية والخطابات المتعصبة، وذلك ليستمر هؤلاء القادة في مشروعهم، والذي لن يتضارب مع مصالح المواطنين، كونه يستهدفهم بشكل خاص.

وأيّاً كانت تحفظاتي، فهي تبقى خاصة بي، ولا أريد جعلها نقطة تؤسس لخلاف أو تحريض، مجتمعنا يحتاج لفترة رخاء يعيد من خلالها رسم مستقبله، ومن هنا وجدت نفسي منخرطاً بشكل مباشر في العمل مع السلطة الحاكمة، في هذه الفترة التي قلّت فيها بشكل كبير الانتهاكات والتجاوزات، وظهرت لمسات عمرانية جيدة، تعيد ملامح المدينة، وترسم البسمة على وجوه أهلها، وانخفض صوت التعصب والإقصاء، وانطلق صوت العقل والاحتواء، يجب عدم التفريط في هذا الاستقرار، ويجب حمايته بالقبول والانفتاح، لا بالتعصب والاعتداء.

والأمن له مهامه، والجيش له دوره، والموظف له عطاؤه، ندعم المعرفة، ونطور التعليم، وننهض بالقطاعات الصحية والمؤسسات الخدمية، ونؤسس المراكز الثقافية، ونعيد تنشيط حركة الفن والرياضة، ونحدّ من القبليّة ونحارب الجهل، وندعو إلى وحدة مجتمعية لا يوجد بها استقواء على الآخر، فهناك من يتخذ من خلفيته السياسية نقطة يريد من خلالها نشر الفوضى، لا لشيء إلّا لأهداف أخرى تخدم مصلحته.

 ختاماً؛ هذا توجهي اليوم، ورأيته الأنسب، ولا أعتقد أنّي أخجل منه، وأنا متأكد من أنّ من يقابلني يستوعب جيداً ما في عقلي، ويدرك مدى إيماني بالقضية الوطنية، وحلمي الكبير في رؤية بلدي دولة ديمقراطية حرة ذات سيادة، يُحكم بدستور قوي يحمي المواطن ويحفظ كرامته ويعطيه كامل حقوقه دون تمييز. لم أنخرط يوماً مع أيّ فصيل يعادي الجيش، وعندما عارضت، وضعت أمامي قضيتي وأهل مدينتي، فمدينة بنغازي يجب أن تكون في المستقبل، ومعها عموم الوطن، شعاعاً للنور لا للظلام، وسيأتي كلّ شيء تدريجياً؛ فالحياة أساسها التغيير الذي يأتي عندما تقرر الجموع موعده.

مواضيع ذات صلة:

ليبيا: اشتباكات في بنغازي وانقطاع متواصل للاتصالات... ما القصة؟

المحكمة العليا الليبية ترفض إنشاء محكمة دستورية في بنغازي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية