قال الدكتور محمد محجوب إنّ خطابات تنظيم "داعش" ذات غرض واحد رغم اختلاف تلاوينها، "بأنّه لا توجد إلا قراءة واحدة للنصوص، ومنع كل القراءات الأخرى وتكفيرها"، داعياً إلى التمييز بين الأسباب السياسية والأسس الثيولوجية والأيديولوجية التي قامت عليها أمثال هذه التنظيمات.
ونفى الدكتور محجوب، في حوار مع "حفريات"، أن تكون حالة "الانسداد التأويلي" الذي يعكسه "داعش" قدراً محتوماً على الثقافة الإسلامية، موضحاً أنّ الفكر العربي والإسلامي قد سار في وجهة تأويلية لنصوصه غير أنه لم يستكمل طريقه.
وأضاف أنّ التوحش، الذي ترجمته أعمال الحرق والذبح والتقتيل والتخريب عند "داعش"، إنما هو "نوع من النزوع إلى الابتداء من الصفر"، وأنّنا مطالبون بالتالي بالإجابة الحقيقية عنه وذلك بـ "التأسيس الفعلي للإنسان والمدنية والمعرفة والقيمة".
والدكتور محمد محجوب خرّيج الجامعة التونسية، من قسم الفلسفة، وتناولت أطروحته فكر هيدغر وقراءته للفلسفة اليونانية، وله أعمال ومنشورات أخرى تناولت موضوعات فلسفية متفرّقة.
شيطنة التأويل باعتباره مدخلاً إلى كثرة الشرك أداة المتطرفين التبريرية في بسط سلطان مطلق للقوة
وهو أستاذ التأويلية وتاريخ الفلسفة المعاصرة بجامعة تونس المنار (تونس)، يهتم بشؤون الفكر العربي القديم والمعاصر، ويتمحور تفكيره حول شروط معاصرة الفكر العربي للفكر العالمي، وقد أصدر عدة كتب وترجمات أنجزها أو أشرف على إنجازها في نطاق اهتماماته، وأسس "حوليات الفينومينلوجيا والتأويلية" ويشرف اليوم على مجلة "تأويليات" التي تصدرها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود". كما نشر في عدّة مجلات مقالات مختلفة تواصل اهتماماته التأويلية والفلسفية، حول إشكاليات القراءة، والعلاقة بالإغريق.
وهنا نص الحوار:
قراءة واحدة تصادر غيرها
مثلت "داعش" ظاهرة محيّرة في العالم المعاصر من حيث أسباب ظهورها وطبيعة تكوينها والأسس التي قامت عليها، كيف ينظر المختص في التأويلية إلى "داعش" وأخواتها؟ هل هي مظهر من مظاهر انسداد أفق التأويل؟
لا بد من التمييز في رأيي بين الأسباب السياسية التي أدّت إلى ظهور "داعش" والأسس الثيولوجية والأيديولوجية التي قامت عليها؛ فلا شك اليوم في أنّ تدبير "داعش" ليس داعشياً وأنّ خلق هذه الظاهرة إنما يخدم أجندات أخرى مختلفة ومتقاطعة. ولكن كان لا بد من إنبات الفكر الدّاعشي ضمن تربة ما، وبوجه ما فإنّ الحديث عن هذه التربة الفكرية والأيديولوجية هو من قبيل التحصن ضد "داعش"؛ لأنه يكشف عن الآلية التي يتم بها التسويغ الداخلي لذلك الفكر ضمن منظومات الأثر الإسلامي، ومن هذه الجهة فإنّ "داعش"، بما هي خطاب؛ بل خطابات ذات غرض واحد رغم اختلاف تلاوينها، ، لا يمكن أنّ تولد ليس فقط على أساس القرار النهائي باعتماد قراءة واحدة للنصوص، وإنما كذلك على أساس منع كل القراءات الأخرى وتكفيرها.
استنباط الفكر العربي أدوات للتأويل تجعله يفهم النص وفق معطياته التاريخية والنفسية واللسانية
إنّ الفكرة الداعشية لا يمكن أنّ تدعي لنفسها أية مشروعية تحت سقف فكرة التأويل، وإنما هي تفترض، بل تصرّح، بأنّ منطلقها هو حقيقة النص، أعني أنّ تفسيرها له هو رجوع إلى "حقيقته"، فتقصي بذلك كل إمكان للمعنى؛ فالأفق التأويلي أفق مغلق ضمن الأدبيات الداعشية، والثقافة الممكنة لا يمكن أنّ تكون إلا ثقافة إقصائية قائمة على مانوية قاتلة هي مانوية الخير والشر والحق والباطل والإيمان والكفر.
"داعش" فعلاً الحالة القصوى من إقصاء التأويل والتزام موقف تفسيري يقوم على أولوية الحقيقة وسلطانها، لا يمكن مناقشة أصحاب هذا الفكر ولا التلويح بإمكان فهم آخر، ورفضهم لأي إمكان آخر للفهم إنما يقوم على شيطنة التأويل نفسه باعتباره مدخلاً إلى كثرة هي كثرة الشرك، ومن الواضح أنّ شيطنة التأويل هذه هي الأداة التي يمكن لهم بواسطتها بسط سلطان مطلق للقوة، سلطان يقوم على قوة مطلقة للحقيقة؛ لذلك فأقوى الحصون ضد هذا الفكر هو تكذيب حقيقتهم لا باسم حقيقة أخرى وإنما باسم الإمكان ومشروعية الإمكان، الذي لا يمكن حصره في رواية أخرى فقط، وتبدو الغرضية التأويلية في هذا السياق أوفق مناهج هذا التكذيب؛ لأنها تشكك في إطلاق معرفتهم، وتربك أسسها.
وجهة تأويلية متعثرة
هل إنّ هذا الانسداد بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية قدر وقضاء مبرم؟
طبعا ليس قدراً محتوماً؛ بل إني أعتقد أنّ الفكر العربي والإسلامي قد سار في وجهة تأويلية لنصوصه لم تتم مواصلتها على المستوى الذي كانت تشير إليه؛ فعندما جعل ابن رشد تأويل النص القرآني مرتبطاً بالاستعمال الجاري للغة العربية، وبعادة لسان العرب في العبارة والتجوز، فإنه أشار إلى إمكانٍ حديث جداً يجعل مستوى تناول العبارة القرآنية هو عين مستوى تناول العبارة الجارية والعامة. وهذا مدخل فريد إلى حداثة تأويلية أول شروطها عدم إفراد النصوص الدينية أو الأدبية بتأويلية خاصة بها.
إنّ الحداثة التأويلية تقبل على هذه المغامرة التي تجعل التساؤل عن آلية الفهم تنطلق من الإقرار بأنّ الفهم يشتغل وفق نفس الآليات مهما كانت النصوص التي يتناولها، لم يتيسر للفكر العربي مواصلة هذا المسار الذي كان يمكن أنّ يحمله إلى استنباط أدوات للتأويل تجعله يفهم النص وفق معطياته التاريخية والنفسية واللسانية إلخ، وهو ما يعني أنه ضيّع على نفسه فرصة فهم صحيح للمقدس يدرج حديث المقدس إلينا ومخاطبته لنا كعنصر أساسي من قدسيته بل عنصره الأساسي، المقدّس هو الذي يخاطبنا ولذلك هو تاريخي، لذلك فإنّ استئناف الفكر عندنا هو ما يتعين علينا كلّ يوم، من أجل التّموقع في زماننا تموقعاً ندرك به الزمان ونؤثر فيه ونُعدِّله.
فشل تجارب النهضة العربية
ما الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ظهور تنظيم متوحش بهذه الدرجة القصوى في نظركم؟
ثمة في التوحش وجهان: الوجه السلبي الذي يهدم ويحطّم ويكسر كل شيء، وهذا الوجه هو الذي نعيش به التوحش في يومنا هذا كتجربة حاطمة، ولكنه من وجه ثان عبارة عن شيء ما، وأعتقد أنّ ما يعبر عنه التوحش هو نوع من النزوع إلى الابتداء من الصفر؛ نوع من العدمية المؤقتة، نوع من البحث عن المائدة العارية الديكارتية التي تجرّدت من كل شيء، ولذلك فإنّ الإجابة الحقيقية عن هذا التوحش هي التأسيس الفعلي للإنسان وللمدنية وللمعرفة وللقيمة، إنّ هذا التأسيس هو القضاء الحقيقي على التوحش، أعني القضاء الذي لا يترك له إمكانية الإخلاف، ولكن جوابي هذا هو جواب عن المعنى: ماذا يمكن أن يعني التوحّش؟ ماذا يمكننا أنّ نرى فيه؟
لم تعد المدرسة بفعل تطور وسائل الاتصال الحديثة فضاءَ المعرفة في مقابل لامعرفة الشّارع وعاميته
ومن جهة أخرى، فإني أعتقد أنّ التوحش جوابٌ على فشل تجارب النهضة العربية، أعني أنّه نوع من جلد النفس، لكأنما هو بحث عن طبقة عارية يمكن التأسيس عليها، إننا في وضع لا نحسد عليه: فعلينا من جهة أنّ نتصدى بأقصى القوة لدعوات التوحش فينا وفي مجتمعاتنا وفي بلداننا: علينا القضاء عليها، حتى تستمر الحياة فينا، ولكن علينا من جهة ثانية أنّ نعرف كيف نفهم عبارتها؛ علينا أنّ نحسن الإنصات – تأويلياً – إلى ما تريد أنّ تقول: إنّها تريد أن تقول – في عنفها غير المسبوق - إنه لم يعد في الإمكان أنّ نؤسس أي شيء من سطحنا، وعلينا البحث في روحنا عن طبقة حية أخرى نستأنف بها – ومنها - أنفسنا، وهذه الطبقة هي فهم التاريخ، وفهم الحياة، وفهم النفس، علينا أنّ نطور كل آليات الفهم حتى نستطيع أنّ نؤسس فعلاً، أنّ التوحش لا يقول ذلك، ولا يعي به، ولا يقصده، ولا يتخيله حتى مجرد التخيل، ولكنه عَرَضٌ عليه، وعلامةٌ منه.
لو أردنا تأويلاً للأعمال التي ارتكبها "داعش"، بغض النظر عن كونها مستمدة من التاريخ الإسلامي وتتكئ دوماً على آيات أو أحاديث أو آراء فقهية تبررها بها، نتحدث عن الذبح والحرق خاصة، إلى أي مدى يمكن اعتبارها حالة من فقدان المعنى في العالم المعاصر؟ وإلى أي مدى يمكن ربطها بالحداثة والعولمة؟ هل هي الجانب المظلم منهما؟
هي كما قلت لك أقصى أشكال العدمية في هذا الزمان: النفي المطلق، وليست الأساليب التي ذكرتها إلا إمعاناً في النفي والعدمية؛ إنها العبارة عن فقدان المعنى أمام الحداثة: إنّ رفض الحداثة، الذي يقوم عليه "داعش" والتنظيمات المماثلة، هو أولاً تعبير عن أنه لا مكان لنا فيها، هل هو رفض؟ لا أظن، فنحن نرفض ما هو متاح لنا، ولكن الحداثة ليست متاحة لنا حتى نرفضها، وإنما نرفض رفضها لنا، وتمنّعها علينا منذ ثلاثة قرون.
ما حدود القراءة التي ترى أنّ التطرف صناعة غربية لتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد؟
لا شك في أنّ هذه القراءة ممكنة ولا سيما متى انتبهنا إلى مصادر التسليح؛ فالمتطرفون لا تأتيهم الأسلحة من السماء، ولا شك أيضاً في أنّ النتيجة المباشرة لعنف هذه الجماعات هي خلخلة أسس التوازن التقليدي للشرق الأوسط، ولكن لا بد أنّ نعي كذلك أنّ هذا الجسم، الذي لا شك أنه صناعة غربية، ليس جسماً أجنبياً عناً، بل هو وجد في تربتنا منبتاً طبيعياً له. بعبارة أخرى لا يمكن زرع مثل هذا الجسم في أرض أوروبية مثلاً لأنه لن يجد فيها هذا المنبت الطبيعي الذي وجده في بعض بلداننا التي لم تعمد بما يكفي من السرعة إلى غلق هذه الإمكانية من خلال سياساتها الإنمائية والاجتماعية والثقافية.
الفراغ الثّقافي وتصحّر المرجعيات
لو عدنا إلى الأسرة والمدرسة والمجتمع، المؤسسات الثلاث التي تسوّي الفرد وتصقله كيفما تريد، هل ترى في هذه المؤسسات عيوباً/ أخطاء قد تسهم بشكل أو بآخر في دفع الشباب نحو التطرّف والإرهاب؟
لا يتسع المجال للحديث عن هذه المؤسسات الثلاث.. لذلك سأكتفي بواحدة منها، وهي المدرسة، بوصفها أنموذجاً لها، محيلاً على المؤسستين الأوليين من جهة كونهما آلياً في علاقة تفاعلية مع العنصر الثالث الذي هو كما ذكرت المجتمع.
لم تعد المدرسة، بفعل تطور وسائل الاتصال الحديثة، فضاءَ المعرفة في مقابل الشّارع فضاءً للامعرفة أو للمعرفة العامّية، أو في مقابل الشارع فضاءً للبراغماتية وقيم الجدوى، أو في مقابل الشارع فضاءً لماكيافلية الحياة اليومية. كما أنها، بفعل بطالة خريجيها، لم تعد معمل أعوان المدنية في مختلف وجوهها، يصغي إليها الشارع إصغاء ويتصيغ بحسب إملاءاتها.
تزامن ضياع معنى الالتزام الذاتي الإيجابي حالياً مع نشوء ضرب من الشّعور المتفاقم بالوحدة والعزلة
إنّ هذا الوضع الجديد قد ولّد تراشُحاً بين مؤسّسة المدرسة ومؤسّسات المجتمع-الدولة (أعني مثلاً مؤسسة الإنتاج الاقتصادي، ومؤسسة التدبير السياسي، إلخ)، وهذا التراشح مضمونه هو القيمة (إذ لا بد من الاعتراف بأن المدرسة والمؤسسة غير المدرسية هما كل فيما يخصها قيمة حضارية وسياسية)، وهذا التراشح مدارُ الجدل فيه هو القيمة (إذ تختصم المدرسة والمؤسسة غير المدرسية أهلية إصدار سكّة القيمة)، وهذا التراشح رهانُ التّواصل فيه هو القيمةُ كذلك (إذ لا مناص من الاعتراف بأنّ السؤال اليوم قد أصبح متعلقاً بمن ينفث وينشر في الآخر قيمه).
إنّ أوّل استتباعات هذه العلاقة الجديدة هو أنّ القيمة المعرفيّة قد فقدت إطلاقيتها وباتت قيمة في علاقة بالجدوى. لقد أشرتُ إلى هذا التّراشح لا تحويلاً للموضوع، وإنما كي أُبرز أنّ وضع القيمة اليوم، ولا سيما من جهة المدرسة، هو وضع متحيّر غير مستقرّ، وأعني بالوضع المتحيّر، على وجه التّحديد وضعاً تتهيّأ فيه القيم القديمة لإفساح المجال لمضامين أخرى.
فمن جهة لا بدّ من الإشفاق على المدرسة مما تُقبل عليه اليوم، على نحو بات غير قابل للتّراجع، من تأكّد مغادرة علويّة المضامين المعرفيّة (سيادة القناعة بإمكان وجود معرفة تكتفي بأن تكون تقنية). ومن جهة ثانية لا مناص من الإقرار بهشاشة القيم "العملية" الجديدة التي شأنها تعويض تلك العُلوية، مما ولّد أغراضيةً كاملةً من الحجاج الاجتماعي والاتّصالي المبتذل، يبدو ديدنها تتفيه المعرفة، وحتى الثّقافة باسم عدم جدواهما، ومن جهة ثالثة لا بدّ من دقّ ناقوس الخطر الدّاهم على الأنفس، ولا سيما أنفس النّاشئة والشّباب بفعل الفراغ الثّقافي وتصحّر المرجعيات ذات الكثافة من الإنسانيات، وهو ما يوشك أنّ يوقع في فراغ لا تعمره إلا المهارات التّقنية العارية التي، لأنها لا تجد ما تستند إليه، تستند إلى الإيديولوجيا والفتاوى الفقهية.
الفكر العربي والإسلامي سار في وجهة تأويلية لنصوصه غير أنه لم يستكمل طريقه
إنّ ما تقبل عليه المدرسة اليوم من تكيف بل من صنع لقيم جديدة يقتضي تنزيل هذه القيم ضمن سياق روحي متكامل يمثل أفق المدرسة، ولا شك في أنّ هذا الأفق إنما يتعين بحسب معطيات جديدة وسياق جديد قد لا يكون من الزائد عن اللزوم استعراض بعض عناصره التي باتت اليوم كونية.
فمن معطيات هذا السياق تخبّط الإنسان ضمن عدميّة يوميّة، وهو ما بات يدعو الإنسانيّة الآن إلى استنباط الرّموز، ثمّة دوار من العدمية بات يتخطفنا لعلّه يتمثّل في انتشار عقلية "كلّ شيء ممكن"، تعويضاً لكلّ أشكال ذهنية التعقّل والعقلانية، فكأنما أصبحت تنوب عن هذه العقلية عقليةٌ سحريةٌ تؤمن بعدم قيام أشياء العالم على أيّ منطق، وبعدم تضمّن هذه الأشياء لعلاقات مفهومة.
ولعلّ سياق انتشار هذه العقلية السّحرية (التحيُّلية من بعض الوجوه) إدقاع روحي وثقافي أهمّ سماته: غياب مرجعيات ثقافية ثابتة، وغياب المثل السّلوكية والمواقفية، وانطفاء كلّ علاقة ذاتية بالنفس، أعني علاقة الحديث إلى النفس ومحاورتها، العلاقة النقدية بالذات، العلاقة التقييمية بها.
لقد تزامن في أيامنا هذه ضياع معنى الالتزام الذاتي الإيجابي ضمن كلّ طبقات المعنى (العمل، التّضحية، التحسّن، ...) مع نشوء ضرب من الشّعور المتفاقم بالوحدة والعزلة، ولكن كذلك بالريبة وفقدان الثّقة)، إنّ هذا السياق هو في نفس الوقت السياقُ الذي قامت فيه صور ونماذج ومرجعيات عابرة للقارّات والجنسيات والهويّات، جعلت كلّ لقاء بالآخر لا يقوم على أساس إحالة ذاتية؛ أي إنّ عناصر اللّقاء بالآخر وتقبّله والتفاعل معه لم تعد قابلة للردّ إلى الذاكرة أو إلى أي كثافة ثقافية.
ولعلّ السبب في ذلك هو عدم المعرفة بهذه الكثافة، وعدم السيطرة على عناصر تقبّل الآخر بوجه عام، لقد باتت علاقة إنسان اليوم بنفسه، وخاصة شباب اليوم بنفسه، علاقة دون تضاريس؛ أي دون شخصية؛ لم يعد ثمة فرق بين الـ"أنا" وبين الـ"هُم". وفي هذا السياق فإنّ تحقيق القيم يصبح مستحيلاً؛ لأنّ تحقيق القيم يقتضي أولاً قيام المبادرة الشخصية بما هي حامل للتواصل مع ما يقدمه هذا الـ"هُم". إنّ صورة الأنا قد باتت صورة يعطيها الـ"هُم"، لا يعكسها الـ"هُم" وإنما يصنعها. ما معنى أنّ أكون أنا نفسي، هذا سؤال بات نهائياً خارجاً عن نطاق تساؤل شبيبة اليوم، إنّ الثقة بالنفس، والتعويل عليها، استراتيجياً، قد باتا من محالات هذا الزمان.
إن إنشاء الرموز هو الرد الحقيقي، أعني خاصة التربوي، الذي يمكن به التفاعل مع هذا الوضع؛ فالشأن في الرمز هو التعالي أي الخروج عن نطاق المتاح يومياً، ولكن الرمز في المعنى الذي أعطيه هو عكس ذلك، إنّه الدليل اليومي على الإمكان، والرمز هو المثال اليومي الذي يعترضنا في كل مكان، ويتراءى لنا في كل زاوية وفي كلّ منعطف طريق، إنّ الرمز الحقيقي هو التحقق اليومي للممكن، لا ابتذالاً وإنما ذاكرة تعني كل يوم أنّ المعنَـى يعيش بيننا، ويحب أنّ يعيش بيننا.
إنّ المشكل لم يعد يتمثل في العجز عن إنشاء الرموز: فالمجتمع يستصلح دائماً فضاء للمعنى يستودع به وفيه رموزاً حاملة للعبرة، وإنما المشكل الحقيقي في تحيين قراءتها، وفي إجلاء راهنيتها وجعلها مقروءة لنا، أي مجيبة عن أسئلتنا، والصعوبة ها هنا هي أنّ تحيين مقروئية الرمز يقتضي عملاً تأويلياً اجتماعياً، ليس من السهل إنجازه.
أصبحت تنوب عن العقلانية والتعقّل عقليةٌ سحريةٌ تؤمن بعدم قيام الأشياء على أيّ منطق أو علاقات مفهومة
إنّ ما قصدته بحديثي في البداية عن "انطفاء كلّ علاقة ذاتية بالنفس، أعني علاقة الحديث إلى النفس ومحاورتها" هو على وجه التحديد خلوّ النفس من شبكة القراءة؛ أي من بنية التأويل، التي تحيّن لها الاتصال بذاكرتها، لذلك فإنّ السّؤال الحقيقي هو سؤال عن أسباب تعطل حركة تحيين مقروئية الرموز، والإسراع إلى تعويضها برموز مبذولة سطحية لا تستطيع أنّ تتحمل ثقل الأسئلة المطروحة عليها اليوم، فلا تجيب عليها إلا بالمباشرة العنيفة.
ومن معطيات هذا السياق التعرّي من كلّ أدوات الحماية الذاتية في مواجهة الآخر، وخاصة من أدوات المداورة، اللغة، الحوار، التّأجيل والإرجاء، الحجة، الثقة، التجنب، مما يوقع المرء لضيق معجمه، في ضرب من الميل المباشر إلى العنف.
ومن معطيات هذا السّياق كذلك أنّ المعرفة نفسَها، أعني ما يبرر وجود المدرسة مصدراً لإعطاء المعرفة، أضحت تتمنّع عن كلّ مصدر وحيد، كثرة وتزامناً، بل تسابقاً إلى الزمان. لم يعد بالإمكان إذن أنّ تواصل المدرسة تكويناً يعتمد تقديم معرفة لا يملكها المتعلّم، أيّهما مطلوبُ المدرسة إذن: تكوين شاب يعرف، بمعرفة لا يمكن إلا أنّ تكون محدودة، وبطيئة التجدد، أم شاب قادر على أنّ يعرف؛ أي قادر على أنّ يواكب تجدد المعرفة؟ وهذه من الإشكاليّات الحارقة اليوم.
ومن معطيات هذا السّياق أخيراّ، أنّ العائلة، قد تخلّت نهائياً عن دورها كسياق للتنشئة على كيفية الكيان، إنّ هذه المعطيات هي التي تمثل اليوم سياقات عمل المدرسة والعائلة والمجتمع وهي التي تفسر وشك إفلاسها.