
بعد تغييب جيل كامل من الكوادر القيادية التاريخية في "حزب الله" اللبناني، طرأ الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل هذا التنظيم المُسلّح، وأدواره المحلية والإقليمية.
ووفق دراسة أجراها مركز (الإمارات للسياسات)، فقد بات مصير حزب الله منكشفاً على أحد احتمالين كبيرين؛ إمّا بقاء الهيكل التنظيمي للحزب مُتماسكاً، وإمّا انفراط عقده، وتفككه، وذهابه نحو سيناريوهات الانشطار والتشظّي والانقسام.
وأضاف المركز أنّ الخطر الأكبر على لبنان والمنطقة يتمثل في احتمال تشظّي حزب الله، بما يملكه من مخزون سلاح كبير، إلى مجاميع منفلتة وعصابات متنافسة، على غرار ما حصل بعد قرار حلّ الجيش العراقي عام 2003.
وذكرت الدراسة أنّ الإصرار الإسرائيلي على تغييب جيل كامل من الكوادر القيادية التي ساهمت في نشوء الحزب، وصنعت قراراته، وقادت حروبه، وأدواره على مدار (35) عاماً، يفتَح باب السؤال عن مستقبل هذا التنظيم المُسلّح الذي انخرط في العملية السياسية اللبنانية، وفي مختلف الصراعات الإقليمية، بوصفه لاعباً محوريّاً في شبكة الميليشيات الموالية لإيران، فضلاً عن مشاركته على مستوى واسع في نشاط اقتصادي أسود.
القائد الجديد سيتمكن من توحيد الصفوف، بتصفية الكوادر المتمرّدة وغير المُنصاعة، إمّا عبر استبعادها، وإمّا عبر تصفيتها وتحييدها.
وأوضحت الدراسة أنّه في حالة حزب الله يأتي غياب "القائد الكاريزمي حسن نصر الله مُترافقاً مع هزّات استراتيجية، وغيابات عديدة كبرى، جعلت مصير الحزب كلّه موضع تساؤل. ومن دون السقوط في فخ المبالغة، يمكن القول إنّ مصير الحزب بات منكشفاً على أحد احتمالين كبيرين؛ الأوّل بقاء الهيكل التنظيمي للحزب مُتماسكاً، بحيث يتواصل التوريث التقليدي للسلطة، سواء كان هذا التوريث لصالح قائد جديد، أو اتّجهت الأمور نحو تشكيل منظومة قيادة جماعية ومؤسساتية، والاحتمال الثاني هو انفراط العقد، والتفكك، والذهاب نحو سيناريوهات الانشطار والتشظّي والانقسام.
وتابعت الدراسة: "يبدو الاحتمال الأول صعباً بشكل مُتزايد، نتيجة مركزية دور حسن نصر الله، وصعوبة تعويضه من جهة، ونتيجة الإصرار الإسرائيلي على اغتيال القيادات البديلة، والصاعدة من جهة ثانية. ومع ذلك، إذا استتبّ الأمر لخليفة مُقتَدِر، يملأ الفراغ الناجم عن غياب نصر الله، فإنّ احتمال الانشقاق الداخلي، وتشظّي التنظيم سيكون مستبعداً إلى حدٍّ كبير؛ فقد يتمكّن القائد الجديد من توحيد الصفوف، بتصفية الكوادر المتمرّدة وغير المُنصاعة، إمّا عبر استبعادها، أو عبر تصفيتها وتحييدها. وهذا ما حدث في بداية عهد "حسن نصر الله"، وحدث أيضاً في عملية التحوُّل الدامية التي مرّ بها "الحرس الثوري" الإيراني في ثمانينيات القرن العشرين. وهو ما يحدث عادةً في كُلّ الانتقالات الناجحة للسلطة في التنظيمات والفصائل الميليشياوية. لكن في ظلّ غياب شخصية تتمتع بهذا الحضور والتأثير، وغياب الجيل المؤسس الذي يُساعد الخليفة على إقرار مكانته، فإنّه يظلُّ احتمالاً صعباً. ويتطلّب هذا الاحتمال لجوء القائد الجديد إلى مُمَارسة سلوك ميداني مُتطرّف، وناجح، ومُثير للإعجاب، بحيث يقود إلى استقطاب القيادات الميدانية الجديدة.
واستعرضت الدراسة خيارات حزب الله، مؤكدة أنّه على الرغم من وجود نائب للأمين العام للحزب (نعيم قاسم)، فإنّ استتباب الأمر له يبدو صعباً، خصوصاً في ضوء ضعف كاريزما الرجل، وغياب قادة الجيل الأول، والأنباء عن مقتل الأمين العام المقترح هاشم صفي الدين، حتى قبل الإعلان رسميّاً عن توليه قيادة الحزب. ويبدو نجاح خيار القيادة الجماعية أيضاً مُنعدماً في "حزب الله"، باعتباره من المؤسسات ذات الطبيعة الحَرَكيّة، وغير الديمقراطية، والتي لا ينجح فيها هذا النوع من القيادة عادةً. وحتى في حال نجح الحزب بتكريس هذا النمط من القيادة مؤقّتاً، وبداعي الحفاظ على الوجود، فإنّ هذا النوع من القيادة سوف يُخلّ بفاعليّة الحركة في اللحظات الحرجة، ويجعل استجابة الحزب بطيئة، ويقضي على فرص "الإجماع"، و"الحسم"، والسرّية؛ وهي المبادئ الضروريّة لقيادة أيّ تنظيم عسكري ينبني على أساس الانتماء العقائدي.
وذكر المركز في دراسته أنّ أيّ قائد جديد سيحتاج إلى وقت طويل ليتحوّل إلى رمز يُهيمن على القرار، هذا إنْ لم تنجح إسرائيل في اغتياله قبل ذلك. وفي ظلّ انعدام فرص القيادة الجماعية التي تتميز بالكفاءة، فمن الصعب تصوُّر أن يبقى شتات هذا الحزب ملتئماً تحت سقف واحد. لكنّ الأسباب الموضوعية التي تقود عناصر الحزب إلى لمّ الشمل، والإبقاء على الوحدة كثيرة ومتعددة أيضاً؛ منها ما هو عائد إلى الوازع العقائدي، ومنها ما هو راجع إلى هاجس خروج الحزب كُلّه من دائرة السلطة والتأثير في لبنان والمنطقة، ومنها ما يعود إلى نجاح اتفاق محتمل حول تقاسم الصلاحيات والغنائم بإدارة إيرانية. وكلّها خيارات واردة نظريّاً، خصوصاً في ظلّ احتمال تدخل "الحرس الثوري الإيراني" للحؤول دون تفرُّق شمل الحزب الذي يُعدُّ الذراع الإقليمية الأهم لإيران. لكنّ فشل التوصل إلى اتفاق واضح ومحكم حول توزيع الصلاحيات، وعدم الشفافية في مقدار الغنائم والحصص، سيجعلان مهمة "الحرس الثوري" صعبة للغاية؛ خصوصاً أنّ الغنائم لا يمكن الاستهانة بها؛ ولهذا كُلّه يظلُّ خطر التفكّك مُحدِقاً بالتنظيم.
وأضافت الدراسة أنّ اغتيال "حسن نصر الله" على رغم أهميته، ما كان إلّا حلقة من مسلسل الاغتيالات التي غيّبت الجيل المؤسس في حزب الله، ومعه الصفّ الأول من القادة الميدانيين الذين يمتلكون قرار السلاح، ويعني هذا التغييب صعود جيل جديد من القيادات الميدانية الآمرة للسلاح، والتي ستمتلك زمام المبادرة في الحزب، شأنه شأن كل الفصائل التي يمتلك الكلمة الأخيرة فيها من يمتلك السلاح. لقد ذهب جيل الآباء الذين شدّتهم الرابطة العقائدية، وشهدوا لحظة الميلاد، وقادتهم الهواجس اللبنانية بمقدار الهواجس العقائدية، وامتازوا أحياناً بدرجة من استقلالية القرار، والقدرة على التأثير في القرار الإيراني، وارتبطوا مباشرة بالقائد الإيراني الأعلى، ومكتبه، وحالوا دون تحوُّل الحزب إلى أداة بيد الجنرالات، والقادة المتعاقبين على "الحرس الثوري"، و"فيلق القدس".
ورجحت الدراسة التي كتبها مدير وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات د. محمد الزغول أنْ تتشكّل قيادة الحزب الجديدة من جيل الأبناء الذين تلقّوا تعليمهم وتدريبهم في إيران؛ وهو جيلٌ يتحدّث الفارسية بطلاقة لا تقلُّ عن العربية. وقد نشأ هؤلاء الأبناء في زمن الرّخاء؛ حيثُ موارد الحزب وافرة، وإيراداته مُتواتِرة من مختلف المصادر، وسلاحُه مُتقدِّمٌ وفيرٌ، ولم يجرّبوا كما جرّب جيل الآباء زمن العُسْرة والعَوز وقلّة الحيلة وقلة الموارد وندرة السّلاح. ومن المؤكّد أنّ الخروج المباغت لجيل الآباء المؤسسين، والصُّعود الدّفعي لجيل الأبناء من دون سلوك مسار التدرُّج، سيؤدي إلى تداعيات واسعة، ستُلقي بظلالها على طبيعة تحرُّكات الحزب، وتماسُك خطوطه.
غياب الجيل القديم لا يعني تنافس الجيل الجديد على السلطة العسكرية أو السياسية فحسب، وإنّما سيعني أيضاً اقتتالاً وتناحُراً محتملاً جداً بينهم على تجارة المخدرات.
وكان "حزب الله" قوّةً مُؤثِّرةً في المشهد اللبناني، تنخرط في مسار توافقي لتشكيل الحكومات قبل تحوله إلى قوة إقليمية، وتغوُّله في الداخل اللبناني؛ فقد تحوّل الثلث المُعطّل إلى ثُلثٍ مهيمن، وناب الحزب عن الطائفة الشيعية إلى جانب "حركة أمل" في تشكيل الحكومة. والحقيقة أنّ "حزب الله" لم يتحوّل إلى عقبة على طريق المسار السياسي التوافقي في لبنان، إلّا بعد انخراطه في الحروب الطائفية الإقليمية التي أعادت تشكيل أولويّات الحزب وتصوُّراته وأنماط سلوكه، وفق مركز الإمارات للسياسات.
وأكد المركز أنّ الغياب المفاجئ لجيل المؤسسين، وصعود جيل الأبناء سيُحدِثُ فراغاً كبيراً، لأنّهم لا يتمتعون بالروابط التاريخية نفسها التي تمتع بها آباؤهم؛ وتتحكّم بقراره العقيدة الشيعية والتوجيهات الإيرانية من دون تأثير يُذكر للدوافع اللبنانية. ومن المؤكد أنّ ذلك سيترك بصمته على مجمل العملية السياسية اللبنانية.
ويمتلك "حزب الله" -حتى الآن - أكبر مخزون غير رسمي للسّلاح في منطقة الشرق الأوسط، وربما في العالم. وقبل اشتعال هذه الحرب، كانت التقديرات تتحدث عن امتلاك الحزب نحو (150) ألف صاروخ، علاوة على أسلحة مختلفة من بينها: راجمات، ومدافع، ومضادّات جوية، ومضادات دروع، ورشاشات متوسطة وثقيلة، إلى جانب عشرات الآلاف من البنادق الخفيفة، ومخزونات ضخمة من العتاد، وشبكات أنفاق معقدة.
وأوضح المركز أنّ الخطر الأكبر على لبنان والمنطقة يتمثّل في احتمال انشقاق وتشظّي "حزب الله" إلى مجموعة من المنظمات والعصابات الإرهابية المتنافسة، والمنتشرة في الساحة اللبنانية، بحكم انتشار خريطة النزوح، وما يرافقه من تغييرات ديموغرافية؛ إذ في ظلّ امتلاك الحزب لكميات هائلة من السلاح، وأعداد كبيرة من المقاتلين المدرّبين، وذوي الخبرة الواسعة في الحروب الأهلية، والصراعات الطائفية، فإنّ قدرات الجيش اللبناني المحدودة لن تكون قادرة على احتواء المخاطر.
وشددت الدراسة على أنّ تشظّي قوة عسكرية كبيرة إلى مجاميع إرهابية، وتوزيع هذا المخزون من السلاح على أمراء حرب متخالفين، يعيد إلى الأذهان ما آل إليه المشهد العراقي غداة اتخاذ قرار حلّ الجيش العراقي، والذي جرّ العراق والمنطقة إلى عقدين من عدم الاستقرار، وما تزال بعض مفاعيله قائمة. وينبغي عدم السماح بتكرار مثل هذا السيناريو الخطير في لبنان. وإذا كان مثل هذا السيناريو مقبولاً من وجهة النظر الإسرائيلية، لأنّه ينقل الحزب من كونه مُشكِلةً لإسرائيل، ليصبح تهديداً لبنانيّاً وإقليميّاً ودوليّاً، فينبغي ألّا يكون مقبولاً للأطراف الإقليمية والدولية الأخرى.
وتابع المركز: إنّ حزب الله ليس ميليشيا عسكرية مدفوعة بإيديولوجيا عقائدية فحسب، لكنّه أيضاً واحد من أكبر كارتيلات تجارة المخدّرات في العالم، سواء على صعيد المخدرات التقليدية، أم المخدرات الحديثة والمصنّعة. وتُظهِر التحقيقات الدولية أنّ حجم أرباح تجارة المخدرات التي يديرها الحزب يفوق المليار دولار في العام، وتتوزع في كل أنحاء العالم من الأمريكتين إلى جنوب شرق آسيا مروراً بأوروبا والشرق الأوسط. ومن المؤكد أنّ جيل الآباء في الحزب كان يقود هذه التجارة بالتعاون مع قادة "الحرس الثوري"، بما يضع المصلحة الاقتصادية على الطاولة. ومعنى ذلك أنّ غياب الجيل القديم لا يعني تنافس الجيل الجديد على السلطة العسكرية أو السياسية فحسب، وإنّما سيعني، قبل هذا وذاك، اقتتالاً وتناحُراً محتملاً جدّاً بينهم على تجارة المخدرات.