أحداث فلسطين وارتدادات العقل الباطن لإيديولوجيات الساحة

أحداث فلسطين وارتدادات العقل الباطن لإيديولوجيات الساحة

أحداث فلسطين وارتدادات العقل الباطن لإيديولوجيات الساحة


23/10/2023

كأي حدث مفصلي تمرّ منه المنطقة العربية بين الفينة الأخرى، تبزغ ظواهر كانت في مرحلة الكمون أو التستر أو عدم الإفصاح عن ذاتها، إلى أن تأتي مثل هذه الأحداث، من طينة ما نعاين منذ أسبوعين في فلسطين، حتى يكشف العقل الباطن لأسماء أو تيارات أو مشاريع عن نفسه.

من الصعب إحصاء عدد الأمثلة في هذا السياق، لذلك ارتأينا التوقف عند أمثلة ميدانية في سياق تقريب الصورة، وتهم عدة مرجعيات إيديولوجية، سواء تعلق الأمر بالمرجعية اليسارية أو المرجعية الإسلاموية وغيرها، بصرف النظر عن تواضع الثقل المجتمعي لهذه الإيديولوجيات، بحكم مرورها من مرحلة التراجع أو الأفول.

لنبدأ بأقلام مرجعية تزعم أنها عقلانية أو حداثية أو يسارية، وما جاور هذا الخطاب، ونتوقف عند تفاعلات تكشف عن ارتفاع مؤشرات تزييف الوعي، حتى إن زعم هؤلاء أنهم عقلانيون وتقدميون وحداثيون.

جاءت أحداث فلسطين الأخيرة، لنعاين على إثرها انخراط نسبة من الأقلام النهضوية المعاصرة، عن رؤى ومواقف لا تختلف كثيراً عن مواقف الأقلام الإسلاموية. على الأقل مواقف هذه الأخيرة منتظرة، سواء أكانت إخوانية المرجعية أو سلفية جهادية (سنية وشيعية) وغيرها

نشر أحدهم، وهو باحث شارك مؤخراً في مؤتمر دولي بالهند يهم حقل الأنثروبوجيا والإثنولوجيا، تدوينة مفادها أن "الحداثة كذبة كبرى"، على هامش قراءة أحداث الساحة والمفارقات التي نعاينها في تفاعل المنطقة والعالم معها. وأخذاً بعين الاعتبار أن التدوينة مؤرخة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فقد يتوهم قراء التدوينة أنها مؤرخة على، سبيل المثال، في منتصف القرن الماضي، وليس اليوم، ومرد ذلك أن الاشتغال على نقد الحداثة، تحقق فيه التراكم الكمي والنوعي في عقر المجالات الثقافية التي بزغت فيها، وبالتحديد في المجال الثقافي/ الفلسفي الأوروبي، وقد تكون مدرسة فرانكفورت، إحدى أهم المؤسسات التي تميزت بهذا الكد النظري، إلى درجة أننا نتحدث اليوم عن أربع أجيال من المفكرين الذين أنجبتهم المدرسة، مع التذكير بأن المدرسة تأسّست رسمياً ابتداءً من عام 1918، ومما اشتهرت به على الخصوص، التفرغ للأبحاث النقدية القائمة على النقد الذاتي.

ويكفي التذكير بأن العديد من الأسماء الفكرية في المنطقة العربية التي اشتغلت على نقد الحداثة، فعلت ذلك تأسيساً على التراكم الذي حققته مدرسة فرانكفورت، ونخص بالذكر الثلاثي عبد الوهاب المسيري من مصر وطه عبد الرحمن من المغرب وأبو يعرب المرزوقي من تونس، ضمن أسماء أخرى، لها ما لها، وعليها ما عليها.

لم يكن مستغرباً أن تحظى هذه التدوية التي تنهل من أفق نظري اختزالي، بتفاعل إيجابي من حسابات رقمية محسوبة على المرجعية الإسلاموية، بما يُحيلنا على النموذج الثاني.

يهم هذا النموذج صدور لائحة من التدوينات عن أقلام بحثية تزعم أنها كانت إسلاموية، أو متأثرة بالمرجعية الإسلاموية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة من الأقلام البحثية المغاربية التي تأثرت بأعمال مالك بن نبي، لكنها تأثرت أيضاً بأعمال سيد قطب (في "المعالم" على الخصوص)، ونزعم أن الساحة البحثية تعاني ندرة في المقالات فالأحرى الدراسات التي اشتغلت على مقارنة الآثار النظرية والعملية عند أتباع الإسلاموية، بخصوص تأثير الثنائي ابن نبي وقطب، ضمن أسماء أخرى، وليس هذا موضوع المقالة.

اشتغل مالك بن نبي على القابلية للاستعمار، قلاقل الحضارة، النهضة العربية ــ الإسلامية، نقد الغرب، ضمن قضايا أخرى، لكن بقيت أعماله النقدية أقرب للإنصاف مقارنة مع اشتغال أسماء أخرى، وبالتالي بقيت أعمال ومواقف الأقلام الإسلاموية التي نهلت من أعمال مالك بن نبي أقرب للاعتدال النظري، حتى إننا نعاين حضور العديد من هذه الأسماء في مراكز "أسلمة المعرفة"، في المغرب وقطر والكويت ودول أخرى.

اتضح عملياً أن نسبة معينة من الأقلام، لا زالت أسيرة النهل من الأدبيات الإسلاموية، وهذا عينُ ما تأكد في مضامين وإشارات العديد من التفاعلات الرقمية خلال الأسابيع الأخيرة مع أحداث فلسطين، في حسابات هذا التيار

جاءت أحداث فلسطين الأخيرة، لنعاين على إثرها انخراط نسبة من هذه الأقلام النهضوية المعاصرة، عن رؤى ومواقف لا تختلف كثيراً عن مواقف الأقلام الإسلاموية. على الأقل مواقف هذه الأخيرة منتظرة، سواء أكانت إخوانية المرجعية أو سلفية جهادية (سنية وشيعية) وغيرها، لكن أن نعاين المواقف نفسها عند أقلام كانت إسلاموية، أو تأثرت بتلك الإيديولوجية ولم تنخرط تنظيمياً فيها، فهذا أمر يُحيلنا على عده ظواهر لازالت بدورها متواضعة التناول البحثي، ونتوقف هنا عند ظاهرتين منها على الأقل:

ــ تهم الأول ظاهرة "أسلمة مخيال" شعوب المنطقة، ومن ذلك أسلمة مخيال الباحثين الذين لا علاقة لهم بالمرجعية الإسلاموية، والمقصود بذلك أن العمل الميداني الذي قامت به الإسلاموية العربية طيلة العقود الماضية، سواء في المجال البحثي أو الإعلامي أو النقابي أو العمل الأهلي ومجالات أخرى، ترك أثراً مباشراً أو غير مباشر على نسبة من شعوب المنطقة، لا علاقة لها بالإسلاموية أساساً، لكنها أصبحت تتبنى خطاب هؤلاء، بحكم تعرضها لتأثير ذلك الكد الإيديولوجي، في الشقين النظري والعملي، وهناك العديد من الأحداث التي مرّت منها المنطقة التي أكدت هذا المعطى.

على سبيل المثال، التشويش الإسلاموي الذي تعرضت له زيارة بابا الفاتيكان للمغرب في 30 و31 آذار/ مارس 2019، لم يقتصر على ما صدر عن الإسلاميين، ومنهم بعض رموز ما يُصطلح عليه "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" ــ وهي مؤسسة لا تمثل إلا نفسها ــ وإنما امتد إلى نسبة من الرأي العام، بسبب تأثير الدعاية الإسلاموية، بالأمس واليوم.

ــ تهم الثانية ظاهرة تأثير انفتاح الأقلام الإسلاموية، الإخوانية والسلفية، على الفلسفة والعلوم الإنسانية، كما هو جلي في العديد من الجامعات والكليات أو في مراكز "أسلمة المعرفة"، وقد كان مأمولاً أن يكون هذا الانفتاح سبباً لكي يراجع هؤلاء خطاب "الحاكمية" و"الجاهلية" و"البيعة" و"المفاصلة الشعورية" وما جاور تلك الأدبيات الإسلاموية المعادية بشكل أو بآخر لأدبيات الدولة الوطنية الحديثة، وقد عاينا تأثير هذا الخطاب إبان أحداث 2011.

لكن اتضح عملياً أن نسبة معينة من هؤلاء، وبالرغم من هذا الانفتاح النظري على تلك الحقول العلمية الرحبة، لا زالت أسيرة للنهل الإيديولوجي السابق، أي النهل من الأدبيات الإسلاموية، وهذا عينُ ما تأكد في مضامين وإشارات العديد من التفاعلات الرقمية خلال الأسابيع الأخيرة مع أحداث فلسطين، في حسابات هذا التيار.

صحيح أن الإسلاموية إجمالاً تبقى أقلية مجتمعية في المنطقة العربية، رغم الفورة التي مرّت منها في عدة محطات، إلى درجة أنها فازت في عدة استحقاقات انتخابية، رئاسية وحكومية وغيرها، لكن تأثير هذا الخطاب، وخاصة مع الإسلاموية السياسية والقتالية [أو المسماة "الجهادية"] على مخيال شعوب المنطقة، أمر ليس هيناً التقزيم منه أو صرف النظر عن تبعاته، وما أكثر الأمثلة في هذا السياق.

مواضيع ذات صلة:

كيف تحول مؤتمر الإفتاء إلى داعم للقضية الفلسطينية؟

كيف جمعت فلسطين الغزاة ووحّدت المبشرين والأساطيل الدولية؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية