
يمر العالم العربي (اصطلاحاً) برياح تغيير غير مسبوقة، ربما تحاكي ما جرى في مرحلة ما بعد التحرر من الاستعمار الغربي، بحيث يمكن تمييز معطيات جديدة، طرأت على معادلة التوازن السياسي في الشرق الأوسط، تنبئ في بنيتها بمرحلة جديدة، يمكن تسميتها مرحلة "ما بعد الميليشيا"، والتي تستدعي بالضرورة العودة إلى مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، التي لم تنشأ بعد بشكل مؤسسي، رغم مرور أكثر من نصف قرن على التحرر من الاستعمار.
لم تكن لدى حركات التحرر الوطني التي خرجت للتوّ مع معركة نضال طويل ضدّ الاستعمار تصورات ناضجة حول فكرة الدولة الوطنية، فاختارت، بشكل آلي، البناء على النموذج الغربي الذي خلّفه الاستعمار، مع إضافة نكهة يسارية، ميزت معظم حركات التحرر حول العالم آنذاك، ومع صعود المشروع القومي الاشتراكي، انقسم العالم العربي إلى معسكرين؛ أحدهما يميل للاتحاد السوفياتي، والآخر دخل في تحالف ضمني مع الولايات المتحدة.
تحديث بلا دولة
لم يفلح التحديث الشكلي في بناء مؤسسات وطنية حقيقية، في ظل صراع عسكري منهك مع إسرائيل، التي ضمنت لها الولايات المتحدة ودول الغرب، لاعتبارات سياسية وإيديولوجية، التفوق على كل خصومها، وفي ظل صراعات داخلية أشد خطورة حول السلطة والحكم، بالتزامن مع انفلات الفساد والاستبداد وبروز كل أشكال التبعية.
انشغلت النظم الحاكمة بالعمل على إبراز أحقيتها بالحكم، وقمع المعارضة بشتى الأشكال، وكان الاحتلال الصهيوني لفلسطين أحد أبرز مبررات نظم الممانعة في تكريس سلطتها لمواجهة الخطر المشترك، بينما اعتمدت النظم التي نفضت يدها من الصراع على استدعاء الديمقراطية الغربية، بشكل صوري، لبناء شرعية مستوحاة من صناديق الانتخاب.
ومع انفجار الربيع العربي، دخلت المنطقة في طور جديد انقسمت على إثره دول الربيع إلى نموذجين: أحدهما دخل دوامة عنف واحتراب أهلي مدمر، تجلّى في النموذجين السوري واليمني، وبشكل أقل حدة في ليبيا، وآخر استدعى ديمقراطية الصندوق، كما حدث في مصر وتونس.
وبينما تواصلت المأساة الإنسانية في النموذج الأول، كشف النموذج الثاني عن عدم وجود حاضنة حقيقية لقيم الديمقراطية ومؤسساتها، فلا الملايين مؤهلة للممارسة، ولا النخب السياسية قادرة على تداول السلطة فيما بينها، فكانت الممارسة كارثية، لتنتهي بالارتداد الكلي والعودة إلى الوراء، بعد أن دفعت الأوطان الثمن.
الميليشيا تحكم في اللّادولة
على الجانب الآخر، وبمحاذاة الدولة الوطنية، شهدت المنطقة العربية نموذجاً فريداً للتطبيع السياسي مع الميليشيات المسلحة، والتي ظهرت على مسرح الأحداث بداعي مقاومة الصهيونية، في ظل عدم قدرة الدول المركزية على مواصلة الصراع، وتحلل بنيتها الاقتصادية، تحت وطأة الفشل المستمر في بناء الدولة على مدار عقود، والفشل في تهيئتها مؤسسياً واجتماعياً، للتماهي مع القيم الديمقراطية، وأخيراً الفشل في تحقيق تقدم اقتصادي أو علمي يمكن من خلاله معالجة الأزمات المزمنة.
كان ظهور منظمة التحرير في الأردن، وصعودها المدوي بعد معركة الكرامة، مقدمة لصدام مؤسف مع الدولة، وعلى الرغم من كل نتائجه السلبية؛ إلّا أنّه جنّب الأردن الدخول في إشكالية الدولة والميليشيا، ذلك أنّ أيّ حركة مقاومة مشروعة، لديها بالضرورة تطلعات تدفعها لإخضاع الأرض لشروطها، بغضّ النظر عن وجود دولة من عدمه، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في لبنان، وانتهى بكارثة صبرا وشاتيلا.
ومع أسلمة المقاومة، ظهرت الميليشيا الربّانية، التي نجحت في حكم قطاع غزة، عبر حركة حماس، لأسباب أبرزها استمرار الاحتلال وتواصل الانتهاكات الصهيونية، واهتراء حركة فتح، ودخولها دوامة الفساد والاستبداد الداخلي، حيث أصبحت نموذجاً مصغراً لما لحق بالدولة الوطنية في الدول العربية المجاورة.
تزامنت هيمنة حماس على قطاع غزة، مع صعود نجم حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله في لبنان، في أعقاب حرب العام 2006، وظلّ لبنان رهينة لمشروع المقاومة، وبات حزب الله القوة المهيمنة على البلاد، وأصبح جناحه العسكري أقوى من الجيش اللبناني، بدعم مباشر من طهران التي أعادت هيكلة الحزب، وضخت مليارات الدولارات في عملية إعادة التأهيل، ودمشق التي كانت في أمس الحاجة لذراع موالية لها عقب الخروج من لبنان.
وعلى المستوى البنيوي، لم يفرّق حزب الله بين دوره العسكري، وأنشطته السياسية والاجتماعية داخل لبنان، ونجح في إدارة منظومة اقتصادية ضخمة، وحافظ على برامج التنمية الاجتماعية الواسعة النطاق، وتحولت الميليشيا مع الوقت إلى دولة موازية للدولة الوطنية المنهكة جراء الطائفية والفساد وهيمنة النخب التقليدية.
كان المشهد اللبناني فريداً من نوعه، فحزب الله المنخرط ضمن تحالف 8 آذار ظلّ معارضاً لتحالف 14 آذار رغم انضمامه إلى الحكومة، ودشن سلسلة من الاحتجاجات السياسية والاعتصامات ضدّ رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، قبل أن يوقع مع ميشال عون مذكرة تفاهم، أدخلت التيار الوطني الحر ضمن تحالف 8 آذار .
وسرعان ما فشلت الميليشيا، وبوازع من إيران، في التماهي مع منظومة الدولة، لتندلع شرارة القتال في أيّار (مايو) 2008، حين استولى مقاتلو حزب الله على عدة أحياء في بيروت الغربية، وخلفت معارك الشوارع مع تيار المستقبل (11) قتيلاً و(30) جريحاً. وانتهى الأمر بأن سُمح لحزب الله بالحفاظ على شبكة الاتصالات الخاصة به، وإعادة تعيين رئيس أمن المطار.
وفي النهاية، خلص اتفاق الدوحة في 21 أيّار (مايو) 2008 إلى منح حزب الله حق النقض في البرلمان اللبناني، وبالتالي هيمنة الميليشيا على الدولة.
ولم يكن الوضع في اليمن أفضل حالاً، مع وصول ميليشيا الحوثي الموالية لإيران إلى الحكم، وانقسام اليمن على نفسه، ونشطت الميليشيات المسلحة في ليبيا، وبات القرار في طرابلس مرتهناً بدعمها. وفي السودان انفجرت التوازنات العسكرية الهشة لتعلن ميليشيا الدعم السريع تمردها على الجيش، الذي استعان هو الآخر بميليشيات إسلاموية أشد خطراً لمعاونته على القتال.
ويمكن القول: إنّ مرحلة ما بعد 25 كانون الثاني (يناير) هي مرحلة الميليشيات المسلحة بامتياز، والتي انقسمت ولاءاتها بين الداخل والخارج، وإن ظل أغلبها يدور في فلك قوتين إقليميتين رئيسيتين هما: إيران وتركيا.
ما بعد الميليشيا
كان "طوفان الأقصى" حدثاً مركزياً يمكن التأريخ لما بعده من أحداث بشكل مغاير عمّا قبله، ليس لأنّه أذاق إسرائيل ويلات ضربة عسكرية مؤلمة فحسب، وإنّما لتداعياته الأكثر خطورة على الشرق الأوسط، فقد أدّى تخفف تل أبيب من الحمولة الأخلاقية للرد العسكري، وإقدامها على ارتكاب مجازر وحشية جعلت قطاع غزة أثراً بعد عين، إلى تقويض قدرات حماس العسكرية، إلى حدٍّ فاق كل التوقعات، مع استهداف معظم قيادات الصف الأول في الحركة، والتي أصبح الحديث عن دور سياسي لها في اليوم التالي للحرب أشبه بالمستحيل.
وفي الجهة الأخرى، تعرّض حزب الله لضربة عسكرية خاطفة وقاصمة، أفضت إلى تدمير قدراته العسكرية، وقطع أوصال المجموعات المسلحة، وتدمير شبكة اتصالاته، وانتهى الأمر بتصفية أمينه العام، وغالبية أعضاء الهيكل السياسي للحركة.
تزامن كل ذلك مع تقدم واسع للجيش السوداني على حساب ميليشيا الدعم السريع، وتضييق الخناق على الميليشيات المسلحة في الغرب الليبي، وسط ضغوطات لتصفية الوجود العسكري لها، والدخول في العملية السياسية.
ويطرح السؤال نفسه: هل استعدت الدول العربية لمرحلة ما بعد الميليشيا؟ أم أنّها ستدخل عالمها الجديد بآليات وأدوات الدولة القديمة نفسها، المهترئة والمثخنة بالتفكك المؤسساتي والفساد والتدهور الاقتصادي؟
ويمكن القول: إنّ كل رهان خارج نطاق الدولة الوطنية سيفشل بامتياز، وعلينا الآن الاشتباك مع سؤال الدولة، والنظر إلى الكيفية التي فشلت بها، في مرحلة ما بعد التحرر، وعلينا أيضاً الاشتباك مع مفهوم الأمن القومي العربي، لأنّنا لم نعد بصدد أمّة واحدة من الخليج إلى المحيط، وإنّما مجموعة من الدوائر المتباينة داخل مجال جيوستراتيجي واحد، فالكتلة المركزية (مصر والهلال الخصيب) أصبحت بحاجة إلى طرح سؤال الدولة من جديد، بعد عقود من الفشل والخيبات.