أثار قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا إعادة تفعيل الدائرة الدستورية للنظر في الطعون والفصل فيها حالة من الجدل في الساحة الليبية، بين مؤيد للقرار ويراه يصبّ في مصلحة ضبط الأداء التشريعي والالتزام بالقانون والإعلان الدستوري، ومن يراه أداة جديدة من المعسكر المعارض لمجلس النواب، لتوظيفها في الصراع السياسي.
ولم يكن تاريخ الدائرة الدستورية بعد عام 2011 نزيهاً؛ إذ إنّ الدائرة أدخلت البلاد في دوامة من الصراع السياسي منذ عام 2014 حين أصدرت قراراً بحلّ مجلس النواب المُنتخب حديثاً، وهو القرار الذي ضغطت لصدوره القوى السياسية والميليشيات المسلحة في العاصمة طرابلس، وذلك بعد رفض المؤتمر العام الوطني السابق، القبول بنتائج الانتخابات التي لم يفز فيها الإخوان المسلمون وحلفاؤهم.
تفعيل الدائرة الدستورية
وجاء قرار تفعيل الدائرة الدستورية بعد يومين من صدور قرار مجلس النواب، رقم (4) لعام 2022، ويقضي بتعديل حُكم في القانون رقم (6) لسنة 1982، الخاص بإعادة تنظيم المحكمة العليا. ونصّت المادة الأولى من القانون الجديد على "تعدل الفقرة الثانية من المادة الثامنة من القانون رقم (6) لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا لتكون على النحو الآتي: "ويكون حلف اليمين أمام مجلس النواب أو هيئة رئاسة المجلس"، وجاء في المادة الثانية؛ أن يعمل بهذا القانون من تاريخ صدوره، وينشر في الجريدة الرسمية، وتاريخ الصدور هو 16 آب (أغسطس) 2022.
وسبق ذلك قرار من مجلس النواب، في 8 أيار (مايو)، بتعيين 45 مستشاراً في المحكمة العليا، وهو ما رفضه رئيس المحكمة، المستشار محمد الحافي، إلى جانب رفضه للتعديلات الجديدة التي أقرّها مجلس النواب، وقال بيان للجمعية العمومية للمحكمة العليا: هناك "مخالفات وردت على قائمة المستشارين التي صدرت عن هيئة الرئاسة لمجلس النواب، في 8 أيار (مايو) 2022، في صيغتها الأولية، التي تتضمن متقاعدين انتهت عنهم ولاية القضاء، وآخرين لا تتوافر فيهم الكفاءة المطلوبة، كما أنّ العدد المدرج على القائمة يفوق حاجة المحكمة العليا بكثير".
وأضاف بيان الحافي؛ أنّ الجمعية العمومية للمحكمة قررت، في 14 نيسان (أبريل) الماضي، "عدم الاعتداد بأيّ قرار أو إجراء مخالف للقانون، وضرورة التشاور معها؛ صـوناً لاستقلال مؤسسة المحكمة العليا والقضاء الليبي وهيبتهما".
وفي 18 من شهر آب (أغسطس) الجاري، بعد يومين من صدور قانون التعديلات بشأن المحكمة العليا عن مجلس النواب، قررت الجمعية العمومية للمحكمة العليا إعادة تفعيل الدائرة الدستورية، والتي يتولى رئاستها رئيس المحكمة العليا، وهو القرار الذي يراه مراقبون خطوة مضادة من الحافي ضدّ مجلس النواب.
وتبعاً لذلك، من المرجح أن تستعين الجمعية العمومية للمحكمة العليا بالدائرة الدستورية لإبطال العديد من القوانين التي صدرت عن مجلس النواب بحقّ المحكمة العليا، ومنها تعديل قانونها والتعيينات الجديدة.
وجود الدائرة الدستورية في طرابلس، والترحيب الكبير بتفعيلها من القوى السياسية القريبة من الإخوان المسلمين يعني أنّ الدائرة ستكون طرفاً في الأزمة السياسية
ويعدّ هذا الصدام بين مجلس النواب والمحكمة العليا الثاني من نوعه، بعد الخلاف السابق في نهاية العام الماضي، 2021، بعد صدور قانون مجلس النواب رقم (11)، والذي نصّ على استبدال المادة الثالثة من قانون نظام القضاء، التي تتعلق بتشكيل مجلس القضاء، بحيث يتولى رئيس التفتيش القضائي رئاسة المجلس، بدلاً عن رئيس المحكمة العليا في النظام الذي كان معمولًا به.
كما نصّ القانون على أن يحلّ النائب العام نائباً لرئيس المجلس الأعلى للقضاء، وتعديلات بشأن أعضاء المجلس، والذي عقد اجتماعه الأول بعد اكتمال نصابه القانوني وفق القانون الصادر عن مجلس النواب، في 25 تموز (يوليو) الماضي، برئاسة رئيس التفتيش القضائي، المستشار مفتاح القوي، ونائبه النائب العام، المستشار الصديق الصور.
دلالات التوقيت
ويقول المحلل السياسي الليبي، هيثم الورفلي: "لديّ ثقة كاملة في القضاء الليبي، لكن لا توجد لديّ ثقة في رئيس المحكمة العليا، السيد محمد الحافي؛ فلن ننسى، ونتناسى، أنّ هذا الشخص، الذي من المفترض أن يمثل سلطة القضاء، قد حاول الزجّ بنفسه في السلطة التنفيذية بعد ترشحه لعضوية المجلس الرئاسي في ملتقى الحوار السياسي في جنيف مطلع عام 2021".
وأضاف الورفلي، لـ "حفريات": "ترشح الحافي يعني أنّ لديه توجهاً سياسياً أو مقارباً مع توجه سياسي آخر، التقت مصالحهم، ونستنتج من ذلك أنّ هذا الشخص لديه طموح سياسي كحكم ليبيا، وليس بالشخصية النزيهة التي ستقضي بالعدل والحق".
ومن جانبه، أشار الباحث في الشأن السياسي والدستوري، محمد محفوظ، إلى أنّ "هناك حكماً من محكمة استئناف طرابلس، عام 2019، يلزم المحكمة العليا بإعادة فتح الدائرة الدستورية، لأنّ غلقها غير قانوني وغير صحيح، ومن أفعال إنكار العدالة، وبالتالي، قرار تفعيل الدائرة هو تحقيق للعدالة".
وتابع الباحث الليبي لـ "حفريات": "تعيين مجلس النواب لمستشارين جدد، أغلبهم موالون لعقيلة صالح، أمر هدد وجود محمد الحافي، وهناك مطالب شعبية بافتتاح الدائرة؛ نظراً لوجود كمّ عبث تشريعي، مارسته كلّ الأجسام، من مجلس النواب والدولة والحكومة والرئاسي، وخصوصاً مجلس النواب الذي أصدر قوانين دون اكتمال النصاب".
الباحث محمد محفوظ لـ "حفريات": هناك مطالب شعبية بافتتاح الدائرة؛ نظراً لوجود كمّ عبث تشريعي، مارسته كلّ الأجسام من مجلس النواب والدولة والحكومة والرئاسي.
وفي السياق ذاته، قال المحلل السياسي الليبي، محمد قشوط: "قرار تفعيل الدائرة الدستورية جريمة، لم تُرد منه مصلحة ليبيا؛ بل أراد محمد الحافي من ورائه تصفية حساباته الشخصية، وبذلك وضع البلد على فوهة بركان وضرب استقلالية آخر مؤسسة لم يصبها الانقسام؛ وهي المؤسسة القضائية".
وكان رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، عبد الحميد الدبيبة، أشاد بقرار تفعيل الدائرة الدستورية، وهو الأمر الذي لاقته أطراف ليبية بالسخرية؛ نظراً لعدم دستورية حكومة الدبيبة نفسها، بعد انتهاء مدة ولايتها وسحب البرلمان الثقة منها من قبل.
انقسام السلطة التنفيذية
ولفت قشوط إلى أنّ "الدائرة ظلت مغلقة منذ عام 2016 حتى لا يُطعن على حكومة فائز السراج، ولا على الاتفاقية الباطلة التي وقعتها مع تركيا، ولهذا إعادة تفعيلها لا تخلو من توظيف سياسي".
وحول تأثير تفعيل الدائرة الدستورية على الانقسام في السلطة التنفيذية بين حكومة باشاغا، التي نالت الثقة من البرلمان، وحكومة الدبيبة المنتهية ولايتها، قال الباحث محمد محفوظ: "ملفّ السلطة التنفيذية لن يتم اللجوء فيه إلى الدائرة الدستورية؛ لأنّ كلا الحكومتين لا شرعية لهما؛ فمجلس النواب ليس له شرعية، وكذلك الاتفاق السياسي الذي جاء بحكومة الدبيبة ليس له وجود في التشريعات، ولا شرعية دستورية له".
وكان رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، القيادي الإخواني والخصم اللدود لمجلس النواب والقيادة العامة للقوات المسلحة، طالب من قبل باللجوء إلى الدائرة الدستورية للطعن في صحة القوانين الانتخابية التي صدرت عن مجلس النواب.
ومن المؤكد أنّ وجود الدائرة الدستورية في طرابلس، والترحيب الكبير بتفعيلها من القوى السياسية القريبة من الإخوان المسلمين يعني أنّ الدائرة ستكون طرفاً في الأزمة السياسية، خصوصاً بعد ما ظهر من عداء بين رئيسها، المستشار محمد الحافي، ورئيس مجلس النواب، المستشار عقيلة صالح.
ويرى ساسة ليبيون؛ أنّه كان من الأفضل إعادة فتح الدائرة بعد إتمام الانتخابات ووضع دستور للبلاد، تعمل الدائرة طبقاً له، أما استئناف عملها اليوم، في ظلّ وجود قوى سياسية وتشريعية تكتسب شرعيتها من الاتفاقيات السياسية التي رعتها الأمم المتحدة، سيؤدي إلى مزيد من التعقيد، نتيجة التضارب بين العمل الدستوري والواقع السياسي.
مواضيع ذات صلة:
- تأثيرات تجميد عائدات النفط على الانقسام السياسي في ليبيا