لماذا قتل "الإخوان" حسن البنّا؟

لماذا قتل "الإخوان" حسن البنّا؟

لماذا قتل "الإخوان" حسن البنّا؟


21/12/2023

عمرو فاروق

لم يكن يدرك حسن البنّا، منذ 72 عاماً، أن مسيرته ستنتهي على أيدي أتباعه ومريديه الذين آمنوا بفكرته ومشروعه، وساروا في ركب جماعته، التي لم تهدأ سفينتها وجاءها الريح بما لا تشتهي ولا تأمل، فاشتعلت لحظات حياته الأخيرة بنيران الخلافات بينه وبين قيادات النظام الخاص المسلح الذي سيطر على مقاليد المكوّن التنظيمي.

أسس البنّا النظام الخاص "كياناً مسلحاً" عام 1940، ليكون بمثابة النواة الأولى للجيش الإسلامي المسلح، فضلاً عن استعماله في فرض سياسة القوة مع المحيطين به والمختلفين مع توجهاته وآرائه، ووضع له مجموعة من الآليات والوسائل التربوية والفكرية التي تختلف كلياً عن منهجية القواعد التنظيمية للجماعة، تؤهله للمهمات الفعلية المطلوبة منه في تحقيق إقامة مشروع "دولة الخلافة"، وفقاً لما يُعرف بسياسة "القوى المؤجلة".

ارتكزت الأفكار الجوهرية لمشروع حسن البنا، فعلياً، على مفاهيم الحاكمية والعزلة الشعورية وجاهلية المجتمع، من خلال اعتماده على ما يُعرف بـ"استراتيجية المجتمعات الموازية"، و"الكيانات البديلة"، و"التجمعات المختارة"، التي صنعت الانعزالية الفكرية والنفسية للقواعد التنظيمية الإخوانية تحت لافتة الاختيار والاصطفاء الإلهي.

كان البنّا أول من أصّل لمبادئ الجاهلية والعزلة الشعورية، وليس سيد قطب، الذي انحصرت معالم توجهاته الفكرية في كونها امتداداً وتطويراً لمشروع حسن البنا، وطرحها وفقاً لعدائية حادة، وسيكوباتية واضحة في نظرته تجاه المجتمعات العربية، وتطبيقاً لما يُعرف بـ"استراتيجية التغيير من أعلى"، أو "المواجهة المباشرة" المسلحة مع رأس الدولة، من دون النظر للضوابط الاجتماعية والسياسية الحاكمة للمجتمعات. بينما امتلك البنا تكويناً سياسياً واجتماعياً، استطاع توظيفه في التطبيق التدريجي لنظريته حول ما يُعرف بـ"استراتيجية التغيير من أسفل"، وتأسيس كيانات داعمة للمفاهيم التي أسس عليها سياسته في الاختراق المتدرج للمجتمع، في مقدمتها، "نظام الأسر"، و"نظام الكتائب"، و"فرق الجوالة"، انتهاءً بـ"النظام الخاص" المسلح.

وظّفت الجماعة عملية اغتيال حسن البنّا، واستفادت منها سياسياً ودينياً، من خلال تسويق ما يُعرف بـ"قداسة المؤسس"، ومشروع "الاستشهاد"، وطرحه كمجدد العصر الحديث، أو إمام الدنيا والدين، أو ما تسمى بـ"الوراثة النبوية"، فضلاً عن "المظلومية السياسية"، في إطار غسل سمعة الجماعة من قضية العنف والتكفير، والعمليات الإرهابية التي استهدفت رموز الدولة في العهد الملكي.

وضع البنّا البنية الأولى لـ"النظام الخاص" من خلال تشكيل فرق الجوالة "الكشافة"، ومنها استخلص عناصره ورجاله، لإعداد نخبة منتقاة تقوم بمهمات مسلحة، وأسند مسؤوليته إلى محمود عبد الحليم، ثم إلى عبد الرحمن السندي، وفقاً للمرشد السابع محمد مهدي عاكف.

كانت رسالة "المنهج"، من أهم الرسائل التي صاغها البنا لتشكيل وجدان قيادات النظام الخاص، ولم يتم تعميمها على مختلف القواعد التنظيمية، لما تحمله من توجهات وسياسات مباشرة حول أبجديات المواجهة والعنف المسلح.

ظلت رسالة "المنهج" محجوبة داخل الأسر الإخوانية لسنوات طويلة (حتى لا يقال إن منهج حسن البنا يدعو صراحة إلى العنف المسلح)، ولم يطلع عليها إلا القليل، حتى تم تسريبها بين القواعد التنظيمية، وتم إقرارها ضمن المناهج الفكرية، في نهاية فترة التسعينات من القرن الماضي، وتحدثت عن مشروع تكوين 1200 كتيبة مدربة ومجهزة للقيام بمهمات المواجهة المؤجلة التي رسمها حسن البنا، وتحدث عنها في رسائله.

ويقول عنها القيادي بالنظام الخاص، أحمد عادل كمال في كتابه "النقط فوق الحروف - الإخوان المسلمون والنظام الخاص": "الأستاذ البنا كتب لنظام الكتائب رسالة المنهج، وحدد فيها مراحل العمل وتكوين الكتائب، وأتذكر من مراحلها أن يصل أفرادها إلى اثني عشر ألفاً، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة، ويؤسفني أن ليس تحت يدي الآن نسخة من هذه الرسالة، إذ إن النسخة الوحيدة التي كنت أملكها استولت عليها النيابة العامة في تحقيقات قضية السيارة الجيب ولم يتيسر لي غيرها، فإن ذلك المنهج لم يقدر له أن يأخذ طريقه العملي، ويبدو أنه كان عنيفاً إلى حد ما، فسحبت قيادة الإخوان هذه الرسالة من بين أيديهم، وقد كانت رسالة خاصة لاتباع النظام الخاص".

وثقت الفترة الزمنية بين عامي 1944، و1948، العنف الذي مارسته جماعة الإخوان، تجاه رموز الدولة المصرية، من تفجير واغتيال وقتل، مروراً بالتخطيط لحرق القاهرة، والتي ثبت من خلال الأوراق التي ضبطت في حوزة المتهمين من عناصر التنظيم المسلح، ضمن أحزار القضية المعروفة إعلامياً بـ"السيارة الجيب"، في تشرين الثاني ( نوفمبر) 1948.

تلك القضية كانت نقطة فاصلة في تاريخ جماعة الإخوان، تكشفت خلالها ملامح النظام الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي، وصدر عقبها القرار التاريخي الأول بحل التنظيم ومصادرة ممتلكاته في 8 كانون الأول (ديسمبر) 1948، لتكتب نهاية رئيس وزراء مصر، محمود فهمي النقراشي بعد 20 يوماً، بثلاث رصاصات على يد الإخواني عبد المجيد أحمد حسن، في 28 كانون الأول (ديسمبر) 1948.

حاول البنّا حينها، تهدئة الرأي العام، وامتصاص الضغوط الشعبية والسياسية ضد الجماعة ودراويشها، بإصدار بيان تحت عنوان "هذا بيان للناس"، نشرته الصحافة المصرية في 11 كانون الثاني (يناير) 1949 أثنى فيه على النقراشي باشا، واستنكر اغتياله، كنوع من الخداع والتضليل الفكري والإعلامي.

لكن لم تمض أيام معدودة حتى قام النظام الخاص بالتخطيط لتفجير محكمة الاستئناف بالقاهرة، في 13 كانون الثاني (يناير) 1949، بهدف تدمير أوراق قضية "السيارة الجيب"، التي تحمل أدلة الاتهامات المباشرة للجماعة.

كانت وتيرة الخلافات قد ارتفعت فعلياً بين البنا وعبد الرحمن السندي (أمير الدم داخل الجماعة)، على مدار عام 1948، بسبب التهديد بإطاحة قيادة النظام الخاص وإعادة هيكلته، والنزاع المستمر حول سلطة اتخاذ القرار داخل المكوّن المسلح.

حاول البنا الضغط على الحكومة المصرية والتفاوض معها بطريقته الخاصة، لا سيما أنه طرح دفع "الدية" لأهالي المقتولين، لكنه علم مباشرةً أن اتجاهاً داخل الحكومة يدفع بإدانته كشريك أساسي في التفجيرات التي شهدتها القاهرة، فضلاً عن جريمة اغتيال النقراشي باشا، كونه المحرّض الأول على عملية القتل من خلال فتوى شرعية أصدرها لأعضاء التنظيم، ما لم يدل باعترافات تفصيلية حول قوائم قيادات النظام الخاص، وأوكارهم السرية، الأسلحة وأماكن التدريب.

قاد المفاوضات من داخل مكتبه في مقر مجلس الوزراء المصري، وزير الدولة مصطفى مرعي بتكليف من رئيس الوزراء إبراهيم باشا عبد الهادي، وبتشاور مع الكاتب الصحافي مصطفى أمين، (رئيس تحرير أخبار اليوم، والصديق الشخصي لحسن البنا)، الذي أقنع البنا، بضرورة كتابة بيان واضح يتبرّأ فيه من منفذي العمليات الإرهابية الأخيرة وتسليمهم.

شعر البنا أنه في حاجة لاستشارة المقربين منه، أمثال الدكتور فريد عبد الخالق، الذي تحدث في مذكراته عن جزء من تفاصيل هذه الواقعة، قبل اتخاذ قرار ربما يضعه تحت طائلة القانون والمعاقبة الجنائية من جهة، وبين المواجهة المباشرة مع قيادات النظام الخاص، الذين لن يتورعوا من التخطيط لاغتياله شخصياً، لا سيما بعد تلقيه "رسائل تهديدية" تثنيه عن محاولة كشف أسرار الكيان المسلح وقياداته، ومحطة الإذاعة السرية، وأماكن الأسلحة.

في محاولة للمراوغة السياسية، أعلن البنا قراره بالموافقة على إصدار بيان يتبرأ فيه من العناصر المنفذة للعمليات الإرهابية، من دون أن يكون محرضاً عليهم، تجنباً لرد فعلهم المحسوم، بعد اتفاق مبرم بينه وبين مصطفى مرعي، ومصطفى أمين، داخل مكتب الأخير في مؤسسة أخبار اليوم، على نقاط أساسية يتضمنها البيان السياسي، بناءً على مقترحات قدمها الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، الذي كان يتابع تفاصيل اجتماعات التفاوض باهتمام بالغ.

صاغ مصطفى أمين، البيان السياسي المتفق عليه بنفسه، بعدما لمّح إلى أن البنا لن يكتب أو يقدم بياناً يعبّر عن توجهات الحكومة المصرية، وطالبه بالتوقيع عليه، ووضع له عنواناً صحافياً "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"، كمحاولة للتعبير عن مضمون التوجه العام السياسي والشعبي الرافض لجماعة الإخوان وأطروحاتها في تلك المرحلة من تاريخ الأمة العربية، ليأتي مخالفاً نهج البنا في إصدار بياناته التي اعتاد بها مخاطبة أتباعه ومريديه تحت مسمى "هذا بيان للناس".

حمل بيان الإدانة نوعاً من المطامع التي رغب البنا في تحقيقها على المستوى السياسي والتنظيمي، في مقدمتها التهدئة مع الحكومة المصرية، وتغاضيها عن قرار حظر الجماعة وعودة ممتلكاتها بعد التحفظ عليها، وغسل سمعته من الإفتاء بقتل رموز الدولة، فضلاً عن الخلاص من عبد الرحمن السندي ورجاله، بعدما تحكموا في مفاصل التنظيم المسلح.

تفاصيل وقائع تفاوض البنا مع حكومة عبد الهادي باشا، تحدث عنها محمود عساف، مؤسس جهاز مخابرات الإخوان، ومستشار النظام الخاص، في مذكراته "مع الإمام حسن البنا"، الصادر عام 1993، كاشفاً حجم تفاوض البنا مع الحكومة المصرية والملك فاروق، للخروج من أزمة اغتيال النقرشي بأي طريقة.

ربما كان تخوف البنا في محله، من تنفيذ رجال "النظام الخاص" تهديداتهم بقتله، لا سيما بعد نشر بيانه في صحيفة "أخبار اليوم"، وتأكدهم التام من قيامه بتسليم الداخلية المصرية كشفاً شاملاً ببيانات رجال التنظيم المسلح، وغرفه السرية، المنتشرة في نجوع مصر وقراها، ليتم اغتياله في 12 شباط (فبراير) 1949، بأيدي أبنائه الذين ألصقوا التهمة بالحكومة المصرية والملك فاروق.

شواهد تلك الواقعة أوردتها صحيفة الأهرام المصرية في صدر صفحتها الأولى، في عددها رقم عدد 2280 يوم 12 شباط (فبراير) 1949، حول مقتل حسن البنا، مبيّنة أن "الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا حسن البنا، لأنه كان ينوى إبلاغ الحكومة عن مكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية، وأن وزارة الداخلية تلقت من الشيخ حسن البنا خطاباً بعنوان (ليسوا إخواناً... وليسوا مسلمين)، وجه فيه اللوم إلى الذين ارتكبوا الحوادث الماضية، وأشار إلى حادثة محاولة نسف مكتب النائب العام".

وتضيف صحيفة الأهرام: "...هذا وقد علمنا أنه كان قد أرسل منذ أيام خطاباً آخر إلى وزارة الداخلية يعلن فيه اعتزامه تسليم المحطة السرية والأسلحة وغير ذلك مما تحت يد الإخوان إلى السلطات المختصة، وأنه على أثر ذلك تلقى خطاب تهديد بالقتل إذا أذاع أي سر من أسرار الجماعة".

سجل تشريفات قصر عابدين يوم 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1951 أوردت قائمة بأسماء قادة الإخوان الذي ذهبوا لتقديم الولاء للملك فاروق، وهم المرشد الثاني حسن الهضيبى، وعبد الرحمن البنا (شقيق حسن البنا)، وعبد الحكيم عابدين، وصالح عشماوي، وعبد القادر عودة، وحسين كمال الدين، والشيخ محمد الغزالي، وعبد العزيز كامل، وجميعهم أعضاء في مكتب الإرشاد العام، وفقاً للمفكر السياسي الراحل الدكتور رفعت السعيد في دراسته "جماعة الإخوان... مسيرة الصعود هبوطاً"، فإذا كان الملك فاروق هو من خطط لاغتيال حس البنا، فكيف لقيادات الجماعة أن تذهب وتعلن ولاءها المطلق للملك في قصره؟

في شهادته حول مقتل البنا، نفى القيادي السابق في النظام الخاص، محمد نجيب، لموقع "العربية"، في 21 شباط (فبراير) 2008 اتهام الملك فاروق وحكومته باغتيال حسن البنا، قائلاً: "الحقيقة المؤكدة أن الملك فاروق بريء من هذا الاتهام، وبريء من دم البنا، ولم يشارك ولم يسعَ في قتله".

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية