أمل عبد العزيز الهزاني
لا تبدو مائة عام مدة محسوسة في عمر الزمن والتاريخ. وأحفاد من عاشوا قبل قرن من اليوم لا يزالون بيننا، بما توارثوه من حقائق ووقائع تاريخية يصعب إنكارها، نظراً للتقارب الزمني وتعاقب الأحداث. قبل مائة سنة تقريباً، حدثت فصول الحرب العالمية الأولى، التي أثرت بشكل كبير على البناء الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط، ولا تزال علامات هذه الحرب ظاهرة، وتركتها ثقيلة، من الناحية الأخلاقية والإنسانية.
فتح هذا الطريق للمراجعة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، بقراره تكريس يوم الرابع والعشرين من أبريل (نيسان) في كل عام لإحياء ذكرى إبادة الأرمن على يد القوات العثمانية، خلال الحرب وقبلها. الرئيس الفرنسي، مثل غالبية القيادات الأوروبية، تعتبر أن الاعتراف بمذابح الأرمن، التي تمت على أساس ديني، هو موقف أخلاقي تجاه الأرمن المسيحيين المشتتين في أوروبا وأميركا والشرق الأوسط، بعد تهجيرهم القسري من قبل الدولة العثمانية. ولأن تركيا الحديثة ترفض الاعتراف بالمذبحة، وتنظر إليها على أنها قراءة خاطئة لحدث تاريخي، أصبح حديث المذبحة عقدة لدى الرئيس التركي الذي صرح مؤخراً بأن أوروبا ترفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي نظراً لأن الأتراك مسلمون، أي أن التفرقة على أساس ديني لا تزال هي الهاجس والمحرض على الموقف السياسي التركي، حتى بعد مائة عام على المجزرة.
إردوغان يقول: أنتم لا تفهمون التاريخ. نعم، الأرمن قتلوا وهجروا، وصودرت ممتلكاتهم، من قبل الأجداد العثمانيين، لكن هذه الأعمال كانت غير ممنهجة، ولا مقصودة، إنما جاءت وفق سيرورة الحروب وقتها بين الجيش العثماني والروس، وتحيز الأرمن للروس. والأرمن يقولون إن أجدادهم أبيدوا حرقاً أو تسميماً أو غرقاً، نساءً وشيوخاً وأطفالاً، وطمعت في أملاكهم الدولة العثمانية الهزيلة، فصادرتها.
في رأيي، إن موقف ماكرون من الأرمن هو موقف سياسي ضد تركيا، أكثر منه موقف أخلاقي مع الضحايا الأرمن، لأن فرنسا نفسها قامت بمذابح هي الأخرى في مستعمراتها في المنطقة العربية وأفريقيا. والرد التركي على رفض الاتحاد الأوروبي لعضويتها فيه هو سياسي أيضاً، فلا علاقة لرفضهم لها بكون الأتراك مسلمين، لأن تركيا دولة علمانية، ولأن المسلمين يعيشون في أوروبا بحقوق مواطنة كاملة، وفق الدساتير. طبعاً، نتفهم موقف الأرمن، وفرحتهم بالقرار الفرنسي، حيث ستبدأ فرنسا في أبريل المقبل إحياء ذكرى الإبادة، وفرحتهم كذلك بالموقف المصري الذي جاء على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر ميونيخ الأسبوع الماضي، بأن مصر كانت ملاذاً لبعض الأرمن الذين فروا إليها هرباً من بطش العثمانيين. أن يعاد إحياء هذه الذكرى والجدل حولها هو بحد ذاته انتصار للأرمن، لأن جروحهم لا تزال رطبة، نظراً لشتاتهم في أنحاء واسعة من العالم بعد المجزرة، أي أنهم ليسوا العرب الذين تجاوزوا مراحل الاستعمار، واستقلوا في أرضهم، وعقدوا علاقات صداقة، وفقاً للقانون الدولي، مع الدول الاستعمارية. كما أن حال الأرمن ليس كحال منطقة نجد أو الحجاز، التي هاجمها واحتلها العثمانيون، ثم تحررت منهم وأسست كياناً سياسياً ثابتاً. الدولة العثمانية في قوتها كانت دولة احتلال، وفي ضعفها كانت بوابة للغزاة. وفي الحالتين، لم تسلم المنطقة من تداعيات القوة والضعف، وتعرضت المنطقة العربية للاحتلال والتشريد والقتل والتمزق من الداخل، وعرفت الخيانات والتواطؤ والسرقة؛ تلوثت البلدان العربية بكل هذه الملوثات جراء الحكم العثماني المطلق.
الأرمن، مثل غيرهم من القوميات التي نالت نصيباً من التوحش العثماني، بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية، كلها مناطق ذاقت ويلات الحكم العثماني. وساحات الشهداء في بيروت ودمشق تشهد على بحار من الدماء نفذها ولاة عثمانيون ضد العرب. وبالنسبة لتاريخ الجزيرة العربية، والمنطقة العربية عموماً، فلا يمكن لأي مدعٍ أن ينكر هذه المذابح. وإن كانت لا بد حاصلة نظراً للصراعات على مناطق النفوذ، واستماتة الإمبراطورية العثمانية لمنع انهيار جدرانها، فإنها ليست حوادث عرضية، بل مجازر. الخلاف هنا مصدره الميزان الذي نقيس به الأحداث؛ إن كان ميزاناً أخلاقياً أو سياسياً.
الأرمن لا يزالون يطالبون بحقوقهم، وأهمها الاعتراف الدولي بقضيتهم، لأن أحفاد القتلى والضحايا لا يزالون يحيون هذه الذكرى، ويتمسكون بها. كما أن القضية أخذت بعداً سياسياً، نظراً لحساسية النظام التركي تجاهها. هذه الحساسية جعلت القضية نقطة استفزاز وضغط على الرئيس إردوغان، يمارسه الأوروبيون، ويضعه الاتحاد الأوروبي حجر عثرة في طريق عضوية تركيا التي ينظر إليها الأوروبيون على أنها دولة تمارس ديمقراطية شكلية، لا ترقى لأن تكون من ضمن الاتحاد. وعلينا ألا نقلل من أهمية هذه القضية بالنسبة لتركيا، لأن الأرمن يطالبون اليوم بالاعتراف، وغداً بالحقوق والممتلكات المسلوبة التي استولت عليها الدولة العثمانية من أثريائهم.
كل قومية عصفت بها المآسي من حقها أن تحيي ذكراها، وتجدد مشاعر الناس تجاهها، والأرمن من هؤلاء الذين كانوا أقلية دينية وعرقية استبيحت في فترة ما من التاريخ. الاعتراف بهذه الإبادة يحمل قيمة معنوية كبيرة لهم، وله تبعات مادية حقوقية. هذا الحق قد يمر مجرد ذكرى سنوية، لكن عند أصحابه مثل الوشم، لا يمحوه الزمن.
عن "الشرق الأوسط" اللندنية