لماذا تستفزنا موجة التديّن الموسمي؟

لماذا تستفزنا موجة التديّن الموسمي؟


10/04/2022

العنود المهيري

تنقلب أحوال الناس في رمضان. أو في نهار رمضان، على الأقل. جارك الذي اعتدت "لعلعة" الأغاني من سيارته يستمع فجأة إلى عبد الباسط عبد الصمد، وزميلتك التي تدمن مكياج "سيفورا" تظهر بملامح قاحلة، ومن يكدحون في الحانات طوال الأسبوع يمنحون أكبادهم إجازتها السنوية. 

لقد بدأت مجتمعاتنا تميل إلى ذمّ "التدين الموسمي"، وتصفه بـ"النفاق"، وتستهزئ بمرتاديه، إذ تعتبره موقتاً، سطحياً، ومن دون نية للتغيير. وأتذكر حينما "اكتشفت" ورفاقي في الجامعة مؤلفات علي الوردي، عالم الاجتماع الشهير، قبل عقد من الزمن، وانكببنا على ما ظننا أنه تشخيص لهذا التقزز الذي يعترينا تجاه "التدين الموسمي"، إذ يشنّع الوردي في كتابه "وعاظ السلاطين" على "ازدواج شخصية" هارون الرشيد، ويورد - مثلاً - قصة زيارة الخليفة للواعظ الفضيل بن عياض. يبكي الرشيد من الوعظ حتى يغمى عليه، ثم يفيق قائلاً "زدني"، ويعود باكياً الى حد الإغماء، فقط ليفيق مجدداً طالباً المزيد من الوعظ، وهكذا دواليك حتى تنتهي "الجلسة"، ويصرف ألف دينار لابن عياض. 

ويدلل الوردي على "تناقض" الرشيد بين الورع والفجور بأنه اشترى على الجانب المقابل جارية بـ36 ألفاً، وأخرى بـ100 ألف، وبأنه طرب ذات ليلة فنثر على الحضور 6 ملايين درهم. 

كنا نقرأه في مراهقتنا الفكرية ونهز رؤوسنا بإعجاب، غير مدركين أننا أمام طرح شعبوي يتسم بالتعميمات، ويفتقد المنهج العلمي الرصين، على غرار تشخيص الراحل للمجتمع العراقي بالإصابة بـ"الشيزوفرينيا" لمجرد أنه يراه يزدوج في بعض مواقفه، خصوصاً الدينية!

وقعنا في الفخ، لنرفض الطبائع البشرية، ونحاسب الناس على "أمور ظاهرية لا تمس الجوهر بشيء"، بحسب الوردي، وكأنما صرنا آلهة نقيّم أعمالهم ونواياهم.

لم نتساءل ماذا يعني لو كان الرشيد فاجراً عربيداً - بحسب التعريف السائد - يهوى الخمور والمعازف والجواري، ومؤمناً أيضاً، يحب الله، ويشكر نعمه؟ كيف يضر ذلك أياً منا أو يعنيه؟ ألا تكفل الأديان نفسها للمؤمن بأن يكون عاصياً وطائعاً، ومصيباً ومخطئاً، وخيّراً وشريراً؟ 

وأليس النفاق الذي نرمي به التائبين هو أن تنهى غيرك عن إثم وتأتي مثله؟ وألا يقتصر التناقض فعلياً على الجمع بين إيذاء الآخرين وادعاء الصالح؟ كيف صيّرناهم ذوي وجهين لأنهم يزلون تارة، ويظلمون أنفسهم، ويصيبون تارة أخرى؟ 

ليس سوى Gatekeeping إذا، أو "حراسة لأبواب" الدين، يمارسها - للمفارقة - المتشدد والوسطي والمُتهم بتمييعه. 

في رمضان فحسب، سيتحد الأكثر تعصباً مع الأشد تحرراً ضد "المنافقة" التي وضعت حجاباً موقتاً، أو "الممثل" الذي بات يرتاد المسجد. وبينما المتزمت يكره أن "يزاحمه" في جديته من يعد الالتزام محطة سنوية عابرة، فإن غير المتدين يتخذها فرصة للتفاخر بثباته مقارنة بالأغلبية المتذبذبة لشعورها بالذنب والتقصير.

أعترف بأني لا أفهم التدين الموسمي، فمظهري وسلوكياتي وقناعاتي في رمضان كما في سائر الأشهر التي لا تُصفّد شياطينها. 

ولكن لننحّ أمزجتنا الشخصية جانباً، ولندع الناس تطلق "هارون الرشيد" الذي في داخلها. 

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية