إنّ المنتج الرئيس للعنف هو الفرد المقهور، لكنّ هذا القهر الذي ينتهجه الأفراد فيما بينهم هو من يشرّع الأبواب لثقافة القهر، هذه الثقافة تفرض نفسها على مجتمعاتنا ببنيتها الهرمية؛ إذ تؤسّس نفسها داخل مفهومَي الأقوى والأفضل، بالتالي؛ فإنّ وجودها يقوم على فعل إزاحة مستمرّ للآخر، مما يؤدي إلى خلق آلية تنافس مستمرة تتشكل في داخلها منظومة القيم العامة للمجتمع، ولمّا كان الاعتراف بالآخر داخل هذه المنظومة قائماً على الخضوع، فمن غير الممكن أن نرى الشخص المناسب في المكان المناسب؛ بل تصبح مناسبة الفرد للمكان اعتباطية، طالما أنّ الكفاءة ليست المعيار لتواجد الأفراد في أماكنهم الصحيحة.
الضغوط القهرية التسلطية المفروضة علينا ليست مسوغاً لإهانة الطفل أو لإعاقة إنسانيته
الصورة النمطية للمعلّم، "كاد المعلم أن يكون رسولاً"، التي تهيمن على مجمل تصوراتنا، تتناقض في الحقيقة مع واقعه؛ فالمعلّم في مجتمعاتنا لا يعيش خارج منظومة القهر، ولا ينفصل عنها، كما أنّ الدور التربوي الذي من المفترض أن يقوم به، تبدّده آليات القهر العامة، لذلك تصبح مقارنة المعلم في مجتمعاتنا بنظيره الياباني أو الكندي أو غيرهما، مقارنة مستحيلة؛ قياساً إلى أهلية المعلم التربوية أو العلمية، أو قياساً إلى دخله والظروف المعيشية التي يعيشها كلّ منهما؛ بالتالي لا يتبقى للمعلم في مجتمعاتنا سوى هدر المعرفة والعلم، عبر صبّهما في النسق التلقيني الناتج عن بنية القهر العامة، هذا الهدر هو في النهاية أيديولوجيا تضمن من خلاله السلطةُ احتكار القهر والعنف، وتقنينهما ما بين الأفراد، بما يخدم مصالحها، فـ "ما تتبناه المدرسة من سلوكيات ومفاهيم يعبّر دائماً عن أيديولوجيات الطبقة المهيمنة" بتعبير بيير بورديو.
اقرأ أيضاً: هل قدمت السينما المصرية صورة منصفة للمعلم؟
يبدو أنّ السلوكيات والمفاهيم التي تتبناها مدارسنا، على تباينها، تصبّ في جهةٍ واحدة، وهي خدمة السلوك القهري، الذي يُعدّ الطفل الحلقة الأخيرة فيه، وتكمن خطورة هذه الحلقة، في أنّ متلقيها سلبيّ؛ بمعنى أنّ الطفل يميل إلى تمثل كلّ السلوكيات التي تمارس أمامه تمثلاً لا واعياً؛ فإذا راقبنا أطفالاً يلعبون لعبة المعلم والتلاميذ، سنلاحظ أنّ جميع الأطفال يرغبون أن يكون دور المعلم من نصيبهم، ثمّ يبحث الطفل الفائز عن عصا، باعتبارها لا تنفصل عن شخصية المعلم، ويمارس دور المعلم الذي يتحدد باستخدام لغة استعلائية، تتشكل من الأوامر والنواهي التي يلقيها، لتكتمل اللعبة في تطبيق حالات تأديبية (عقابية) على الأطفال.
اقرأ أيضاً: محكمة ألمانية تقضي بتعويض معلمة مسلمة.. لماذا؟
ببساطة؛ إنّ هؤلاء الأطفال يمارسون القهر الذي يُمارس عليهم، "فهذه السلوكيات يتعلمها الطفل من القدوة الاجتماعية التي تنمّي داخله خبرة تجاه العنف، وما له من فائدة في إدراك المطلوب ومدى فاعلية العنف وفائدته" بتعبير ألبرت باندورا. والمشكلة أنّنا نرى هذه اللعبة ونهلل لها، ربما لأنّ لاوعينا يرى في العنف الوسيلة الأفضل للنجاح.
اقرأ أيضاً: دورات تدريبية للمعلمين الأمريكيين...هذه هي طبيعتها
هل فكّر المعلم في أنّ الطفل الذي يجلس أمامه مقهورٌ مثله؟ ابتداءً بمقعده الذي لا يناسب كلّ الأحجام، مروراً بغرفته الصفية الباهتة، إلى العدد الكبير من الأطفال الذي يجعل منه مجرد رقم، إلى المنهاج الذي لا يعبّر عنه، والقائمة تطول، هل فكر أنّ هذا الطفل الذي يقوم بقهره، سيصبح بدوره معلماً لطفله أو لحفيده؟ وهل فكر أنّ طفله في صفّ أو مدرسة أخرى، يُمارس عليه ما يمارسه هو على الأطفال؟ فإذا كان المعلم مقيداً بقيود واقعه الضيقة، عليه أن يدرك أنّ ما يفعله، هو تكريس لما يعاني ويشتكي منه؛ تكريس للظروف الباهظة التي يسدّد ثمنها من وجوده، تكريس لقهره واستمرارية هذا القهر وتناقله عبر أطفالنا الذين كان من الأجدى أن نحررهم ليحررونا.
على المعلم ألّا ينسى أنّ مهمته لا تتعلق بتلقين المعرفة بل بمساعدة وعي الطفل أن يتشكل بمناخ من الانفتاح والدهشة
الضغوط القهرية التسلطية المفروضة علينا ليست مسوغاً لإهانة الطفل أو لإعاقة إنسانيته، هناك دائماً شيء ما نستطيع أن نفعله، إنه يكمن في الجانب الإنساني منا؛ "فالتعليم وحده لا يرقى بالناس، ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية وإنسانية، إنّ العلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر نفعاً"، بتعبير علي عزت بيجوفيتشس، لهذا يجب ألّا ينسى المعلم أنه مربٍّ، وأنّ مهمته الأساسية لا تتعلق في تلقين المعرفة وتأطير الوعي؛ بل في مساعدة وعي الطفل أن يتشكل في مناخٍ من الانفتاح والدهشة والحبّ، وأن يحذر من أن يجعل العلم غاية، وألّا ينسى أنه وسيلة تمكّن إنسانيتنا من الارتقاء.
اقرأ أيضاً: بعد تسليح المعلمين..هل ستصبح مدارس أمريكا آمنة؟!
إذا كان المعلم مقهوراً هذا لا يمنعه من أن يكون محباً، فحفظ إنسانية المعرفة تبدأ عند باولو فريري بالعاطفة؛ حيث الودّ بين المعلم والطالب، وهذا ما سنجده في الرسائل التي وجهها للمعلمين في كتابه "المعلمون بناة ثقافة"؛ فهو يوصي بصفات يجب أن يتحلى بها المعلم، وأهمها: التواضع والمحبة والتسامح، وضرورة الاتساق بين ما نقول وما نفعل، خاصةً أنّ الأطفال لديهم حساسية شديدة للمدرسين الذين يفعلون عكس ما يقولون، وأن تقوم العلاقة في مناخٍ من الديمقراطية والاحترام المتبادل، والانتقال من مجرد الحديث إلى الطلاب إلى الحديث إليهم ومعهم، ومن مجرد الاستماع إليهم إلى جعلهم يستمعون إلينا"، هناك من سينظر إلى هذا الكلام على أنّه هراء أمام الوضع المزري الذي تعيشه مجتمعاتنا، وهناك من سيقول: إنّ منظومة بأكملها يجب أن تتغير حتى نتمكن من تطبيق هذه النصائح، وأننا في حاجة إلى تغييرات جذرية في بنية المجتمع، قبل أن يصبح هذا الكلام واقعياً، ولكن في كثير من الحالات التغيير البسيط قد يؤدي إلى تغييرٍ جذري، فربما ابتسامة معلم، أو تربيته على كتف طفل تغيّر مصائر بأكملها، إنه (أثر الفراشة).