أثار مقطع فيديو انتشر مؤخراً جدلاً واسعاً في مصر ويظهر فيه طالب بكلية الحقوق بجامعة المنصورة يحتضن طالبة قدمت لجامعته من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر فرع المنصورة بعد تقديمه باقة ورد لها بمناسبة عيد ميلادها، خاصة بعد أن قامت إدارة "الأزهر" بفصل الطالبة، إثر عقد مجلس تأديبي بحقها، كما تعرض الطالب بدوره إلى إجراء عقابي من جامعته التي كانت بادرت إلى إثارة القضية.
تراوحت التعليقات على مواقع التواصل بين التضامن مع الفتاة والرفض التام للواقعة
وتراوحت التعليقات على مواقع التواصل بين التضامن مع الفتاة، والرفض التام للواقعة التي اُعتبرت خروجاً على الأعراف والتقاليد.
ورغم أنّ شيخ الأزهر أحمد الطيب، لم يلبث أن طلب، في بيانٍ صادرٍ عن مشيخة الأزهر، إعادة النظر في العقوبة، يبدو أنّه لم يرد استفزاز الحساسية الدينية للمؤسسة التي يقف على رأسها، فتضمن البيان تعليقاً أخلاقياً واضحاً لا ينفي "جُرم" الفتاة: "لإقدامها على تصرف غير مقبول، خلال تواجدها خارج مقر الجامعة، بما يمس (تقاليدنا الدينية والشرقية)".
ليست أول حالة
الطالبة التي انتشرت قصتها رغماً عنها، أصيبت بانهيار عصبي دخلت على إثره المستشفى، و(محمود.ر) الطرف الثاني في الواقعة ذهب إلى والدها كي يخطبها على أمل الحفاظ على سمعة زميلته، إلا أنّه طلبه ووجه بالرفض بعد ما حدث.
ومع اتساع دائرة الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، قرر مجلس التأديب الأعلى للطلاب بجامعة الأزهر، في جلسة طارئة مساء الإثنين الماضي، إلغاء قرار مجلس التأديب الصادر بالفصل النهائي للطالبة، وتخفيف عقوبتها بالاكتفاء بحرمانها من دخول امتحانات الفصل الدراسي الأول لهذا العام فقط، "حرصاً على مستقبلها التعليمي".
اقرأ أيضاً: عبدالغني هندي: التجديد الديني إشكالية لا تتعلق بالأزهر وحده
من الملاحظ أنه بعد إلغاء العقوبة على الطالبة، أخذ النقاش حول الواقعة يتمحور حول مشروعية التلصص والتدخل في حياة الآخرين، واضعاً مجدداً قضية الحريات الاجتماعية تحت المجهر كأولوية.
لم تكن الواقعة هي الأولى التي شهدت هذا الخروج عن التقاليد من قبل الطلاب، وإن كانت الأولى المتعلقة بجامعة الأزهر، فقد سبقتها وقائع أخرى، ففي تشرين الأول (أكتوبر) 2017 قررت جامعة طنطا حرمان دينا، الطالبة بكلية الحقوق وصاحبة واقعة "حضن" أيضاً، من دخول امتحان مادة واحدة، وفصل 6 من الطلاب من الكلية صوروا فيديو للواقعة ونشروه على مواقع التواصل الاجتماعي، لمدة شهر ومنعهم من دخول الكلية طوال تلك الفترة، ووقف موظف الأمن 3 أشهر عن العمل.
اقرأ أيضاً: الأزهر ومسألة ضرب المرأة خطوة على طريق التجديد
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2015 علّق طالب لافتة كبيرة على مبنى كلية الآداب بجامعة الزقازيق مكتوب عليها "أنا عاشق يا حبيبتى ولا أريد إلا أن تكوني زوجتي.. بحبك يا إيمان"، ووقف أسفلها وبيده بباقة زهور وخاتم للخطوبة قدمها لزميلته إيمان التي وافقت على عرضه.
ماذا يجري في المنصورة؟
يذكر أنّه في آب (أغسطس) 2017 قررت الطالبة بكلية دار العلوم جهاد قيشة من المنصورة، خلع حجابها، مما جعلها منبوذة داخل الكلية التي تسيطر عليها تقاليد محافظة للغاية، ولاحظت جهاد أنّ الأساتذة كانوا يعتبرونها ضيفة تتردد على الكلية لزيارة إحدى زميلاتها، وليست ابنة أصيلة لـ "الدار" حتى صعقوا بالأمر خلال فترة الامتحانات، ولما كان خلع الحجاب غير مُجرّم في الكلية فقد قبلوا بالأمر على مضض.
اقرأ أيضاً: الأزهر: مصافحة الخطيبة "لا تجوز" قبل عقد القران
هاجر حمدينو زميلتها بالكلية، من المنصورة أيضاً، خلعت الحجاب أثناء سنتها الأخيرة في الجامعة، وبدلاً من أن تعود إلى المنصورة لتعلم تلميذاتها المستقبليات، كمدرِّسة لغة عربية كما يُتوقع لها، فضلت الإقامة بالقاهرة، وأصبحت منشغلة كلياً بالشأن العام، وبقضايا الحرية الدينية والتحرش على وجه الخصوص.
(ندى.خ) صديقة هاجر، طالبة بكلية التجارة جامعة المنصورة، خلعت الحجاب مؤخراً أيضاً، وقررت كتابة القصص القصيرة والدفاع الحقوقي عن فتيات المنصورة اللاتي يتعرضن للاعتداء الأسري بسبب تحررهن الاجتماعي المستجد.
اقرأ أيضاً: الأزهر يرد على "صدام الحضارات" بندوة عن تكامل الإسلام مع الغرب
"حفريات" التقت الفتيات الثلاث وتحدثن عن معاناتهن مع التقاليد المحافظة، والمزاج الذي وُلد من رحم مناخ التمرد مع ثورة 25 يناير، مشيرات إلى التحول الاجتماعي الجاري في المدينة التاريخية التي بدأت، كما يقلن، في السنوات السبع الأخيرة تنفض عن نفسها الطابع الريفي وتنخرط في عملية تحديث مادي أسفر عن تغيرات جذرية في نمط حياة سكانها ومن ثّم انحسار المرجعية الدينية عن توجيه سلوكهم الاجتماعي، كجزء من سيرورة تراجع دور الدين كناظم وحيد للعلاقات الاجتماعية وانحسار تداخله في كل مناحي الحياة.
تمحور الجدل أيضاً حول مشروعية التدخل بحياة الآخرين واضعاً مجدداً قضية الحريات الاجتماعية تحت المجهر
يبدو أنّه في القلب من ذلك الحراك يقع النضال النسوي، الذي لم يُعبر عنه خطابياً حتى الآن، والمشتبك مع الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وساعدت هذه النسوية الشعبية على إخراج قضايا المرأة إلى مواقع التواصل الاجتماعي ومن ثّم إلى الشارع، وكانت قضية "حضن طالبة الأزهر" بمثابة تجسيد لذلك.
يبدو هذا الشكل من التمرد يتماس مع طرح الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، عن الأيديولوجيا التي تنتج الذات عبر مؤسسات: العائلة والمدرسة والجامعة والإعلام والقانون، والتي تحدد موقعنا داخل المنظومة الاجتماعية؛ فذاتنا المُصنعة هذه موجودة حتى قبل ولادتنا، كما يقول ألتوسير في نصه الشهير "أجهزة الدولة الأيديولوجية"، حيث تنتجها الأيديولوجيا المسيطرة عبر مؤسساتها ومفاهيمها عن الأخلاق والعمل والذكورة والأنوثة والدين والتقاليد، ونظراً لقوة وتغلغل الأيديولوجيا لا تظهر وكأنها أفكار متبناة برغبتنا بل تجعلنا نستبطنها في دواخلنا ونتصرف على أساسها وكأنها خياراتنا الشخصية لتمنحنا، بالأخير، ذواتنا وماهيتنا الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: ماذا يريد الغرب من الأزهر؟
نص ألتوسير يسعى لإثبات أنّ الإنسان هو منتج لما يمكن ضبطه وقياسه؛ أي نتاج للبنية الاجتماعية، ومع كل تحولات هذه البنية تتحول نظرة الإنسان لذاته ولموقعه في العالم ورؤيته الأخلاقية وأيضاً: نمط تديّنه.