ماذا يريد الغرب من الأزهر؟

ماذا يريد الغرب من الأزهر؟


28/10/2018

بنى الغرب تصوّره الخاص عن الإسلام وماضي المسلمين بدراسته لتراثهم قبل أن يُفكّر مسلمو العصر الحديث في دراسته بعشرات السنين، ومضى الغرب إلى أبعد من ذلك فبنى تصوراً خاصّاً حول سبل تجديد الفكر الإسلامي المعاصر، على حدّ تعبير أحد المفكرين العرب في مؤتمر "الدراسات القرآنية على أبواب القرن الحادي والعشرين" الذي انعقد في جامعة ليدن بهولندا في ١٠-١٢ حزيران (يونيو) ١٩٩٨ بمشاركة 25 متخصصاً في الدراسات القرآنية من الشرق والغرب من مسلمين وغير مسلمين، وحملت أوراقهم البحثية نتيجة جليّة مفادها "أنّ تجديد الفكر الإسلامي ينبثق الآن من خارج دائرة الفكر العربي، وأنّ ثراء الفكر الإسلامي يكمن فيما كُتب حوله بلغات غير عربية بما فيها اللغة اليابانية، فلم يعد العرب وحدهم المتخصصون في دراسة الإسلام".

أمام تزايد أعداد الأقليات المسلمة أمسى من الصعب على رياح اليمين في الغرب اقتلاعهم

وفي محاولة من الغرب لإنتاج وعي جديد بالإسلام في عقول الجيل الثاني من أبناء المهاجرين صنع نسخة تدين خاصة به قتلت بداخل المسلم الغربي قدراً كبيراً من روحانيات الإسلام، غير أنّها مكّنته من الاندماج في مدرسته انطلاقاً من مبادئ المواطنة والمساواة والحرية التي ماتزال موضع جدل في الشرق على المستوى النظري والتطبيقي، في ظل مذهبية وطائفية وقبلية تجعل المجتمعات العربية لا تتماسك إلا تحت سوط الاستبداد.

اقرأ أيضاً: الأزهر يرد على "صدام الحضارات" بندوة عن تكامل الإسلام مع الغرب

وفي الوقت الذي ظنّ الغرب كفاية ما انتهى إليه فكرياً في قراءة التراث الإسلامي، واجتماعياً في دمج الأقليات المسلمة، إذا برياح الإرهاب تعصف به لتكشف قدرة تنظيمات العنف على الاستفادة من الحريات الممنوحة في الغرب في الوصول فكرياً إلى مسلم جديد أو متحوّل جديد إلى التدين، وكانت "داعش" -آخر ما تطوّرت إليه تلك التنظيمات- واضحة في تبنّيها خيار تفكيك الغرب من الداخل بجرّ المجتمعات الغربية إلى مواجهةٍ مع مسلميه "حرب الجميع مع الجميع" سبيلاً -من منظورها الضيق- لإقامة نظام عالمي جديد هي نواته بوصفها دولة الخلافة الإسلامية.

شرع الغرب بتنمية علاقته بالأزهر للاستفادة من مرونة أشعريته المذهبية في مواجهة حدّة المذهب السلفي

وأمام تزايد أعداد الأقليات المسلمة، التي يتسم الجيل الأول منها بقدر معقول من التماسك الديني، وتغلغل المسلمين من حملة الجنسيات الوطنية في بنية المجتمعات الغربية، ما بين موظفي دولة، وأصحاب أنشطة فاعلة في خدمة المجتمع المدني وقضاياه، أمسى من الصعب على رياح اليمين التي هبت وستهبّ في الغرب أن تقتلع المسلمين؛ فالحلّ ليس في العودة إلى الخلف؛ بل في الهروب إلى الأمام  بالاحتماء بمظلّة أقدم كِيان سُنّي في العالم الإسلامي، فشرع الغرب بمحاوره الثلاث؛ أوروبا وروسيا والولايات المتحدة، يُنمّي علاقته بالأزهر كي يُبارك تدين مسلمي الغرب وطرق تعايشهم، بما يمنحه مشروعية دينية، وللاستفادة من مرونة أشعريته المذهبية في مواجهة حدّة المذهب السلفي، والاعتماد على صوفيّة قيادات الأزهر المتقبلة لنسبية الحقيقة في مواجهة قيادات الجماعات الدينية الزاعمة لامتلاكها.

اقرأ أيضاً: ما دور الأزهر والإخوان المسلمين في حرف مصر عن العلمانية؟

وكما طالب الغرب بكبح تصدير خطاب التدين السلفي إلى الخارج، حثّ النظامَ السياسي المصري على الدفع بالأزهر إلى الأمام ليقود الخطاب السني العالمي في مواجهة التطرف والإرهاب؛ فتأسّست رابطة خريجي الأزهر العام 2007، التي تحوّلت إلى منظمة دولية غير حكومية العام 2012، لها فروع في مختلف دول العالم، وبعد أن نالت الصفة الاستشارية من هيئة الأمم المتحدة تبنّت أجندة متخمة بالأنشطة والفاعليات لمواجهة أفكار التطرف، لاسيما في البؤر المشتعلة من العالم.

كذلك أُنشئ مرصد الأزهر لمكافحة الإرهاب بثماني لغات أجنبية في حزيران (يونيو) العام 2015 بهدف رصد ما تبثّه التنظيمات المتطرفة حول العالم من أفكار وتفنيدها، وهكذا مضى الأزهر في الطريق الذي أراده الغرب لمواجهة التطرف.

اقرأ أيضاً: مصنع الإسلاموية وخطابها تجاه الغرب

فلم تعد علاقة الغرب بمؤسسات الشرق وحكوماته تحتمل المواربة؛ فطبيعة العلاقة هي بنظره كما حمل عنوان ندوة الأزهر العالمية الأخيرة "الإسلام والغرب تنوع وتكامل" فلا مجال اليوم لخطابٍ مزدوج اعتاده العالم العربي يُصدِّر من خلاله خطابا للداخل العربي بأنّ الغرب هو المتآمر والحائل دون الإصلاح، وخطاب آخر يُصدر للغرب بوصفه الحليف والصديق الذي لا غنى عن التكامل معه.

وكما أنّ النظام الحاكم في مصر في حاجة إلى أن يتمدد الأزهر في الفراغ الذي خلّفه إضعاف التيارات السلفية بعد أن حُرمت من الدعم المحلي والإقليمي، وتراجع نفوذ جماعة "الإخوان المسلمين" بعد فشل تجربتها السياسية، رأينا الأزهر يقوم ببعض فعاليات التيار السلفي مثل الإجازة التي يمنحها الدرس المسجدي لروّاده في كتاب من كتب الحديث أو العقيدة، رغم أن التطور الأكاديمي المتمثل في برنامج متكامل عبر منظومة حديثة تتمّ داخل أروقة الكليات والجامعات.

هل سيقوى الأزهر على تحجيم تأثير عودة الجماعات المتشددة في تشكيل ثقافة العامة؟!

لكن تلبية لاحتياجات الشارع المتدين المتأثر بالفكرة السلفية تشكّلت دروس شيوخ من الأزهر كبديل لشيوخ التيار السلفي، ورأينا فاعلية التظاهر من أجل القدس إحدى الأنشطة التي طالما ارتبطت بطلاب الإخوان المسلمين يعلنون من خلالها عن وجودهم داخل الجامعة بين الحين والآخر، تنتقل إلى إدارة الجامعة؛ فنظّم الأزهر تظاهرة القدس الأخيرة وقادها رئيس الجامعة.

كذلك الغرب في حاجة إلى أن يمضي الأزهر قدماً في تعزيز السلام العالمي بين الأديان والترابط الأخوي الإنساني، وحماية المجتمعات الغربية من بعض تيارات التشدد والعنف التي خرجت في العصر الحديث من بين صفوف المسلمين السنّة؛ فالغرب يراهن في مواجهة تلك التيارات على استعادة الأزهر لمكانته في نفوس مسلمي العالم، وأن تزيد ثقتهم في تأويليته للنصوص المقدسة كحلّ لإشكالية التعامل المباشر مع النصوص التي كانت سبباً في انتشار الكثير من الأفكار التكفيرية بين غير الناطقين بالعربية من المسلمين وتجييشهم في صفوف "داعش".

اقرأ أيضاً: علماء شكلوا علامة فارقة في تاريخ الأزهر..هل تعرفهم؟

لا يخلو هذا الطريق الذي يُريد أن يمضي فيه الغرب من تنظيم جموع المسلمين السنة خلف قيادة روحية موحدة من إشكاليات تُنذر بضعف النتائج، أهمها أنّ المذهب السنّي عبر تاريخه لم يعرف القيادة الروحية الموحدة مثل الشيعة، وإنْ اكتسب بعض فقهاء السنّة نوعاً من السلطة الناتج عن دعم السلطة الحاكمة، فالإسلام على حدّ تعبير الإمام محمد عبده "ليس فيه سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوّلها اللّه لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم..، فليس في الإسلام ما يُسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه".

والمسلمون -على حدّ تعبير الإمام الأكبر محمود شلتوت- "لا يعرفون شيخ الإسلام، والملا إلا لَقَبَيْن علمييْن شاع في بعض العصور والأقطار إطلاقهما على من عرفوا في بيئاتهم بامتياز خاص في علوم الدين والشريعة، ولا يرتبط بهما حق تحليل أو تحريم في الشريعة، وليس لهما من حق في العصمة من الخطأ، بل لا يعرفهما الإسلام".

لم يعد الغرب يقبل من مؤسسات الشرق وحكوماته خطاباً مزدوجاً يحمل العداوة داخلياً والصداقة خارجياً

ويظل الدور الحقيقي للأزهر ليس في حجم الفعاليات أمام كاميرات الإعلام حيث تنطلق الكلمات البليغة الرنانة من أعلى المنصات كردِّ فعل لحالة السجال الفكري مع جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين، في موضوعات وصفها شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب "بأنها مكررة"، فدور الأزهر الحقيقي في الإجابة عن أسئلة الإصلاح الفكري المؤجلة، وتكرار تلك الإجابات حتى تصبح من مفردات الثقافة الشائعة.

التأسيس لتأويلية جديدة هو الضمانة الحقيقية من فكر التطرف الذي إن غُيبت جماعاته اليوم، إلا أن أفكارها ستعود مستقبلاً بلافتات جديدة في أجواء أكثر حيادية يُسمح فيها للأفكار بالاشتباك، وحينها سيكون الاختبار الحقيقي للأزهر في قدرة أفكاره على الصمود؛ فالمواجهة الحقيقية لم تحن بعدُ في ظل تغييب الطرف الآخر، لكن متى عاد من جديد والتزمت السلطة السياسية بالحياد هل سيقوى الأزهر حينها على تحجيم تأثير الجماعات في تشكيل ثقافة العامة؟!

الصفحة الرئيسية